معنى التعريف والتنكير في قصص وليد إخلاصي
صالح الرزوق
خاص ألف
2017-07-01
يعتمد الخيال الفني عند وليد إخلاصي، منذ بداياته ( 1963) وحتى هذا اليوم، على الرؤيا، من البصيرة وليس البصر، وربما كانت هذه الحساسية الفنية هي المحرك للحكاية. وكما أرى إن المقاربة الفنية لديه أهم من البناء، سواء في ترتيب وحدات الحكاية أو في تطور وتشكيل الموضوعات. فالجو العام وعلاقة الجزء بالكل يتحكمان بفنية القصة ودرجة نجاحها. وعلى هذا الأساس يتحول التقابل في المراحل المتعاقبة والمتتالية من سيرته إلى توتر له معنى دراما. ويتفرع عن ذلك صراع يصل لدرجة العداء والمازوشية الموجهة ضد العناصر والمكونات. إن قصص وليد إخلاصي حاملة لمبدأ الغبطة غير السعيدة. بمعنى أنها غبطة في اللاشعور، إيمان يعمل من فوق الواقع، ويقابل ذلك دائما شقاء مادي. وعليه إن كل قصة تنقسم إلى نصف مظلم ( أو خيال له امتدادات في عالم من الرعب والعدم والتقويض gothic ) ونصف نهاري ( هو الحبكة والاستطرادات العاطفية في الواقع sentimental ).
و يبدو لي أن النوع الأول هو الذي يهتم باللغة والزخارف الفنية. ولذلك يركز على نوع المفردات وشكل التراكيب. إن الأساطير التي تدور وتتطور من خلف البناء الفني الظاهر ( كما يقول ليسلي فيدلير) تحتل موقعا خارج العالم المعروف، في مناطق معتمة من الاعتقادات، وفي ممرات يهيمن عليها الصمت والرعب. وهذا يشترك مع سواه من العناصر لبناء عالم من المخاوف التي تعبر عن نفسها في أحلام الهيلة ( الكوابيس). وبالعكس من ذلك فإن النمط الثاني يتحرك باتجاه لغوي متسامح وتتفرع حكاياته في علاقات لها ما يبررها ويبارك أو يوافق عليها المجتمع. إنها مفردات تصور لنا عالما عاديا ومفهوما، ونرى أنه معقول على مستوى الأزياء والأشخاص وانعطافات الحبكة ( ليسلي فيدلير، 1960 ، 1984).
ومثل هذا التعارض الواضح بين القوطي المرعب والعاطفي يتوازى بمعناه ودلالاته مع التعارض الأسلوبي بين حداثة التجريب وحداثة العقل، وبلغة النقد الفني إنه يعكس التعارض الأساسي المعروف بين الحداثة والواقعية.
ولذلك يمكن لنا فرز لغة قصصه إلى تراكيب غامضة تحتاج لبعض الحذر في الشرح والتأويل، وتراكيب بسيطة ومباشرة. وبعبارة أخرى بين استعمالات واقعية معروفة بدلالة التراكم المعرفي ومخزون الخبرات، واستعمالات مجازية لا تترك ولو رابطة واحدة بين جزئيات الواقع وتصوراته. ولذلك إنها تلقي عبء فهم المعنى على مسؤولية القارئ. وهذا يحيل بطريقة من الطرق لما يسميه النحويون: المعرفة والنكرة.
***
والتعريف في اللغة بعكس التنكير. والغاية منه إزالة جزء من الغموض عن المسند إليه. ولذلك يمكن أن نعرف الشيء بأدوات ملحقة لا معنى لها بحد ذاتها أو بواسطة جزئيات من فضاء المعنى. وإن أدوات التعريف تكون صريحة وضمنية. وهي على أنواع:
قواعدية : وتشمل كل اسم يسبقه أل التعريف وكل اسم علم.
ودلالية: كل مبتدأ من كل جملة اسمية. فالمبتدأ هو نواة الجملة والخبر استطراد أو مسند.
بنائية: الأفعال غير المتعدية التي لا تحتاج لمفعول به ولا لتخصيص أو لحمولة لغوية إضافية تزيل الغموض عن اتجاه الفعل.
نفسية: وهنا تكون الأنا معرفة والهو نكرة لأنهما من ناحية التأويل يتطابقان مع المشاعر العلنية ومع المعلوم والمحدد ومع اللاشعور والمجهول والمضاف. وأعتقد إن التعبير الأمثل عن هذه الرؤية متوفر في بواكير الحداثة حيث أن العلاقات غامضة وتدب فيها الفوضى والإسقاطات.
سيميائيا: مثل إشارات التنقيط . فهي تلعب نفس الدور المناط بأدوات التعريف. وهنا يمكن دائما أن نقرأ الأقواس على أنها مخصصة لكلام الراوي. ولها قيمة اسم علم. وبالمثل إن الأشارات التي تستعملها القصة في بداية أي حوار تدل على مسند إليه وهو متكلم يفترض أنه معروف.
السياق الفني للمعرفة والنكرة:
لتحديد دور المعارف والنكرات في المراحل المختلفة من حياة وليد إخلاصي الفنية، وقع الاختيار، بطريقة العينة العشوائية، على:
1- قصة ( خطبة الوداع - 1972) لترمز للنوع ( أ). وهي قصة من غير حبكة وموضوعها خطبة عصماء يلقيها سياسي وتنتهي باغتياله وهو على المنصة. وهذا أسلوب نوعي لجأ إليه وليد إخلاصي في الهزيع المبكر من حياته وبالضبط في فترة الستينات والسبعينات.
2- والفقرة الرابعة من قصة ( صورة الرجل العاري - 1992)، لترمز للنوع ( ب). وموضوعها رجل يتذكر ماضيه ويحاول أن يهرب منه. وتنتمي للأسلوب الذي عبر به الكاتب عن رؤيته للأحداث والتطورات خلال أهم عقدين من الحياة السياسية لسوريا. والإشارة لمرحلة الثمانينات الملتهبة التي انتهت بحصار بيروت، ومرحلة التسعينات التي أخذت فيها المواجهة شكل تحالف سياسي وحرب خطابات.
ولقراءة ما بين السطور بشكل منهجي تطلب ذلك تفتيت ( أ) و( ب) للمكونات الأساسية كما يلي:
- الأفعال.
- الأسماء.
- الحروف مثل حروف العطف والجر والحروف الناصبة والجازمة وهكذا دواليك.
- أدوات التنقيط بمختلف أشكالها وأنواعها.
- الجمل الإسمية بما فيها التي تبدأ بخبر مبتدؤه محذوف أو مؤجل.
- الأفعال المتعدية وغير المتعدية مع ضرورة الإشارة إلى أن التعدي في اللغة لا يشترط توفر المفعول به الظاهر ولكنه قد يكون بالمعنى أو أنه مضمر.
- وأخيرا المتبقي. وهو كل ما لم تشتمل عليه الأصناف السابقة. ومن ذلك أسماء الوصل وأسماء الإشارة وحروف النداء ، إلخ..
ويفترض هذا الاختبار أن الفترة الزمنية الفاصلة بين العينتين قادرة على تأسيس رؤية حقيقية ومفصلة لعناصر كل نوع على حدة ولتحديد شكل العلاقة بين الفن والحراك الاجتماعي أو النص والواقع. وبمعونة من تعليمات الإصدار الرابع لبرنامج windows 95 الذي توزعه شركة مايكروسوفت الأمريكية كان من الممكن معالجة نصوص ( أ ) و( ب ) مع ضمانة حد أعلى من الدقة والحيادية.
***
وبعكس التوقعات تبين أن فترة الحداثة في كتابات وليد إخلاصي ( النموذج أ ) مخالفة للشروط العامة. إنه منطقيا على الحداثة أن تميل لعالم غامض ومجهول ولكن بلغت لديه نسبة المعارف
جدول 1 – تفصيل المفردات
المفردات
أ
ب
شريط اللغة
268
192
علامات التنقيط
69
23
الأسماء
133
69
الأسماء المعرفة بأل
39
21 +2اسم علم =23
الحروف المنفصلة
25
58
الأفعال
68
40
المتبقي
36
25
19.15 مقابل 16.15 فقط في النص الواقعي ( ب). بفارق يبلغ 3 وهو يساوي تقريبا حوالي 15 بالمائة من المجموع العام. ولو لا بد من تفسير يبرر هذا الانحراف لا أجد غير سبب واحد:
إن أدب الحداثة في قصصه غير حركي. وهو غالبا ما يعبر عن الفكرة بواسطة المونولوج ( وهذا حاله في قصص مجموعة التقرير، ويا شجرة يا، وسوى ذلك). وأحيانا بالوصف وتحليل المشاعر ( كما في قصص مجموعة الطين). ولا أعتقد أن كل دائرة القصة الحديثة لها هذه السمات. فالنماذج المعروفة لجورج سالم، وهو من جيل وليد إخلاصي، كان لديه جهاز متكامل من الجمل المركبة المفيدة والأحداث القابلة للتطور.
لقد فرض أسلوب وليد إخلاصي على البواكير ارتفاعا ملحوظا في عدد التراكيب الإسمية على حساب الأفعال.
و ما وجه الغرابة في ذلك؟. أليست الحداثة هي الحامل الفني للقصة المضادة التي لا تعرف ماهية الواقع المادي ولا الجوهر الفني لأساليب الحركة والحياة الطبيعية.
و لقد كان الفارق واضحا في حقل الأسماء أيضا. ووصلت نسبة المعارف في ( أ) إلى 36.13 مقابل 33.33 في (ب).
و انسحب ذلك على حقل الأفعال. فالتراكيب غير المتعدية في (ب) بلغت حوالي ثلاثة أضعاف أمثالها في ( أ- جدول 2).
جدول 2 – تفصيل التراكيب
التراكيب
أ
ب
الجمل الإسمية
10
8
المبتدأ الظاهر
4
6
المبتدأ المقدر
6
2
الأفعال المتعدية في اللغة
21
27
الأفعال المتعدية في النص
16
12
الأفعال غير المتعدية في اللغة
18
35
الأفعال غير المتعدية في النص
23
50
و هذه إشارة واضحة إلى أن النصوص الوجدانية عند وليد إخلاصي والمرتبطة بعالم اللاشعور وأعصبة الواقع أقرب ما تكون لأسلوب التعريف.
و إن زيادة نسبة التعدي في اللغة لهو دليل حاسم على عدم الثقة بالفاعل والذات الفنية. وعلى تنامي دور الاغتراب أو بلغة أكثر فصاحة ومباشرة الاستلاب. وعليه يتبين إن عالم اللاشعور وهو الضمير الفني لمبدأ الحداثة يعتمد على الضغط على اللغة مع زيادة في أساليب المجاز وتوسع في الاستعارات ولا سيما المبالغ بها والتي تثبت أن المسافة بين الواقع والأمنيات تدعو لليأس فعلا ( وهذا هو حال نموذج أ )، فالحبكة التي بدأت بخطبة توجيهية عصماء تنتهي باغتيال المتكلم وهو على المنصة.
جدول 3 – النسبة المئوية للتراكيب والمفردات
النسبة ٪
أ
ب
أسماء معرفة بأل في اللغة
14090
11.98
أسماء معرفة بأل في النص المنقوط
12.10
10.70
الجمل الإسمية في النص
4.2
4.17
الجمل الإسمية في النص المنقوط
3.02
3.72
المعارف في النص
19.15
16.15
المعارف في النص المنقوط
15.12
14.42
و يقابل ذلك في ( ب) ذاكرة وخيال فني خاص يفرض على اللغة نوعا من التوسع في التفاصيل وزيادة في حمولة الأفعال المتعدية والنعوت المركبة.
و لكن أعتقد إن أهم العلامات الفارقة بين الأسلوبين تركز في علامات التنقيط. فهي في ( أ ) أضعاف ما هي عليه في ( ب ) ولسببين:
- لأنها حسب قانون القصة والرواية المضادة لا تهتم بالحبكة وتضع كل ثقلها بالمونولوج المنطوق أو الصامت.
- ولأنها وقفت في صف الحداثة بكل ما يعنيه ذلك من لعب باللغة واهتمام بالشكلانيات واللواحق. وأعتقد إن هذا جزء من منظومة العنف والرعب التي تنطوي عليها حداثتنا فهي تفرط بالزخارف التي اعتمدت عليها ثقافة الرعب القروسطية في أوروبا. والدليل على ذلك التفنن بكل أشكال المنظور. ولا سيما الزينة والنقوش الغامضة والمبهمة والحاملة لقيمة واحدة لا ثاني لها: حيرة الانسان في متاهات عالمه والألم الناجم عن ذلك.
و هذا تعبير مباشر عن حالة عامة، أو عن قانون فني لا محيد عنه، هو خلاصة السجال بين المذاهب الأساسية: حداثة الستينات والواقعية المتحولة للتسعينات. وأعتقد إن هناك أكثر من مبرر لهذا التطور في الرؤية وفي استعمال التراكيب اللغوية وأهمها روح المرحلة. فقد كان النموذج ( أ ) من ضمن الإطار الحديدي الأسود للحداثة الشريرة التي أقضت مضجع الأدب السياسي، أدب البروباغاندا والإيديولوجيات، والتخصص ببيان من سماته: التفاؤل والنهاية الإيجابية، علما أن الواقع كان يمهد الأرض لهزيمة نكراء.
لقد جاء حزام الستينات ليؤكد على الاغتراب والضياع وعلى الصدمة الناجمة من جراء الهزائم ونظام التخلف والمجاعة.
وبالعكس إن النموذج ( ب ) هو ابن مرحلة التسعينات والتي هي شاهد على الحروب والفتن الطائفية والأهلية. وعلى عودة الروح لشعار الخمسينات.. الوطن والمصلحة العامة والاستقلال أولا.
ولكن هذه النهضة على صعيد الأفكار لم تتلازم مع نهضة مماثلة على صعيد الأدوات. لقد اختصت المقاومة الشعبية بطبقة من النخبة وهي التي أمسكت بزمام كل اللعبة بأيديها الأمر الذي أدى إلى تلبك في العلاقة بين بنك الأفكار وأساليب تحويلها لواقع عملي. وبلغة أوضح أدى ذلك إلى تعارض بين الأدوات الفنية ( وقد كانت واضحة ولذلك كنا نقول عنها تجاوزا إنها واقعية )، وبين الرؤية الفنية التي أصابها الشك وسيطر عليها إحساس عام بالرفض وضرورة الهدم قبل استعادة المفاهيم الذهبية لمرحلة الخمسينات.
المراجع والمصادر:
1- ما حدث لعنترة ( 1992). قصص وليد إخلاصي. منشورات وزارة الثقافة. دمشق. ص 184.
2- الدهشة في العيون القاسية ( 1972). قصص وليد إخلاصي مع مقدمة لخلدون الشمعة. منشورات وزارة الثقافة. دمشق. ص 172.
3- Love and Death in the American Novel. Leslie A. Fiedler. Penguin Books. England. 1984. P.p. 126-141.
4- 4 . Microsoft Windows. 1995. Customize Crammer Settings