ماتي / وليام غولدنغ ترجمة:
صالح الرزوق
خاص ألف
2017-08-26
كانت هنالك ساحة في شرق آيل أوف دوغز ( جزيرة الكلاب) في شرق لندن هي مزيج غريب حتى بالنسبة لبيئتها. بين أحواض المياه المعزولة ، و المستودعات، و الخطوط الحديدية و الرافعات التي لا تتوقف عن الذهاب و الإياب بحركة دائبة، يوجد شارعان فيهما بيوت وضيعة و حانتان و دكانان. هناك يتدفق تيار من المتشردين السكارى بين البيوت حيث تسمع لغات متعددة تنطق بها عوائل تعيش في المكان.
و لكن في هذه اللحظات ساد صمت مطبق تقريبا، لأن كل المنطقة تم إخلاؤها رسميا و حتى أن سفينة أصيبت و اشتعلت بها النيران و لم يتوفر للحادث من يشاهده غير عدد قليل من الرجال. امتدت فوق لندن خيمة في السماء، تكونت من أقواس بيض باهتة من الأضواء الكاشفة، مع بالونات نارية هنا و هناك. القذائف النارية هي كل ما كشفته الأضواء التي تخللت السماء. و سرعان ما سقطت تلك القذائف، و كأنها تنهمر بشكل غامض من الفراغ. و قد سقطت حول أو في وسط النار المشتعلة.
و لم يكن بوسع الرجال الذين هم على مقربة إلا أن يشاهدوها تلتهب. من غير أية قدرة على السيطرة عليها. فقد انفجرت أنابيب المياه. و كانت العقبة الوحيدة التي اعترضت النار هي النار التي انتشرت في كل الأرجاء و التهمت كل شيء كان بالأمس في طريقها.
وقف، في مكان ما على الطرف الشمالي من حلقة النار الكبيرة، الرجال قرب الآلة المحطمة، و صوبوا نظراتهم نحو شيء غير مألوف حتى بالنسبة لرجال لديهم خبرة و كفاءة. تحت خيمة من الأضواء الكاشفة كنت تجد كتلة في الهواء، كانت أقل وضوحا من أقواس النور و لكنها أكثر إشراقا. كانت تلمع نتيجة التهاب غابة وراء أو وسط الآقواس الضعيفة التي هي بالمقارنة معها باهتة. صنعت حدود هذه الغابة سحابات من الغيوم الكثيفة التي تضاء من الأسفل حتى تبدو و كأنها نار أيضا.
كان قلب الغابة، حيث الشوارع الضيقة، أكثر توهجا، يرتعش باستمرار و يخمد بريقه تدريجيا البريق كلما انهار جدار آو سقط سقف. و آن ذلك- خلال انبعاث هدير النار، و صوت القذائف المنطلقة، و سقوط الانهيارات- كان يسمع دوي بعض الانفجارات المفاجئة التي تتأخر عن موعدها بعد أن تسقط بين الأنقاض. و أحيانا ترى بعض الومضات بين هذه الفوضى و أحيانا تسمع بعض الآصوات المكتومة الناجمة عن الشظايا و التي لا تفعل شيئا غير مزيد من الصخب.
حل على الرجال، الذين وقفوا بجوار آلتهم المحطمة عند بدايات واحد من الطرق الشمالية المتجهة جنوبا نحو اللهيب، الصمت و الجمود. و لكن على مبعدة عشرين ياردة وراءهم وإلى يسارهم تجد الحفرة التي صنعتها القنبلة التي ضربت المياه المحلية و حطمت آلتهم إلى أجزاء، حيث نافورة لا تزال تقفز منها و تتراجع ببطء. غير أن شظايا غلاف القنبلة الذي حطم العجلة الخلفية كانت بجوار الآلة، و باردة و يمكن لمسها. لكن الرجال تجاهلوها بمقدار ما تجاهلوا أشياء تافهة مرافقة- غلاف القنبلة، النافورة، بعض الأشكال الغريبة للحطام- و هي أشياء يمكن أن يجتمع حولها الناس في الأوقات العادية. فقد كانوا ينظرون إلى الأمام على امتداد الطريق نحو الغابة، الفرن الملتهب.
أغرب ما في ذلك أن هذا أقل مخاطر عملهم و هو لا يرقى لمشكلة انهيار المباني و الأقبية المتصدعة و الانفجار اللاحق في أنابيب الغاز و الوقود، و سحابات السموم التي تنبعث من عدة مصادر. مع أن هذا كان في بدايات الحرب التي مروا بها. مر أحدهم بمحنة الوقوع في فخ بسبب قنبلة و تحرر بغيرها. و الآن ينظر لما حصل بحيادية كما لو أنها قوى الطبيعة، أو الشهب، التي يتصادف أن تضرب بقوة هنا في فصل معين. كان بعض الطاقم من هواة أوقات الحرب. أحدهم موسيقي و اعتادت أذنه الآن على الأصوات و تفسير ضجيج القنابل.
إحدى القنابل التي فجرت الأنابيب و حطمت الآلة أجبرته على الاحتماء في الوقت الحرج دون أن يتوفر له غطاء مناسب. مثل بقية الطاقم كان أكثر اهتماما بما أعقب ذلك، بالقنبلة التي ضربت في نهاية الطريق، في مكان بينهم و بين النار. و انتهت إلى أسفل الحفرة، بلا حول و لا طول أو ساكنة. وقف الرجل على الطرف غير المتضرر من الآلة، ينظر مثل سواه إلى نهاية الطريق. و بدأ يدمدم. " أنا لست سعيدا. كلا. بشرفي يا شباب، لست سعيدا".
في الواقع، لم يكن أي واحد من الرجال سعيدا، و لا حتى قائدهم الذي كانت شفتاه مطبقتين بقوة. و كأن الإرهاق انتقل منهم إليه أو بسبب الجهد العضلي المحدود، ارتعشت مقدمة ذقنه. لم يكن طاقمه منفصلا عنه. هناك واحد من المتطوعين، بائع كتب وقف قرب الموسيقي و لم يكن يرتدي بذة الحرب و لم يكن مرتبكا، كان يغبط حظه لبقائه على قيد الحياة. فقد شاهد جدارا بارتفاع ستة طوابق يسقط عليه دفعة واحدة و وقف غير قادر على الحركة و هو يتساءل لماذا لا يزال على قيد الحياة. و رأى حجرة من نافذة في الطابق الرابع تسقط قربه على مرمى شعرة. و مثل الآخرين، تخطاها و هو يقول إنه كان في حراسة العناية الإلهية.
كلهم كانوا في حالة رعب مستمر، حيث مناخ الغد هو نوايا العدو المبيتة اليوم، والأمان أو الخطر المدلهم في الساعة القادمة هو الذي يتحكم بحياتنا. تابع قائدهمإالقاء الأوامر التي وصلته ما أمكنه ذلك و لكنه انهار بالبكاء و هو يرتجف حينما أعلنت نشرة الأحوال الجوية أن احتمال القيام بغارة كان مستحيلا.
كانوا ينصتون إلى أزيز القاذفات التي تبتعد، إنهم رجال يشعرون أن كل شيء فظيع بلا استثناء، و لكن لديهم الإحساس أنهم قادرون على الاستمرار بالحياة ليوم آخر.
نظروا معا إلى الطريق المنهك و إلى بائع الكتب، الذي يحمل علامات شقاء تجدها في العالم الكلاسيكي، و يعتقد أن منطقة القصف تبدو مثل بومبي؛ و لكن بما أن بومبي تختبئ من العين خلف ستار من الغبار هنا العكس: المزيد من الوضوح، و الشعور بالعار، في ضوء النور المبهر و المتوحش الذي يشتعل في نهاية الطريق.
في الغد كل شيء سيكون قاتما و فظيعا و قذرا مع جدران متهدمة و نوافذ مسودة؛ و لكن الآن لا يوجد غير النور المبهر و فيه الحجارة ذاتها تبدو ثمينة، كأنها نسخة من مدينة الجحيم. و بعد الحجارة الثمينة هناك، حيث الأتون الناري الملتهب الذي يرتعش عوضا عن أن يندلع، كل الأشياء المادية، الجدران و الرافعات و الأعمدة و الطريق ذاته اندمجت في الضوء المدمر كما لو أنه بذلك الاتجاه يوجد جوهر العالم بكل محتوياته المحترقة و ها هو يذوب و يحترق. ووجد بائع الكتب نفسه يعتقد أنه بعد الحرب، لو هناك شيء يتبقى بعد الحرب، عليهم اختصار تعرفة الدخول إلى أنقاض بومبي باعتبار أنه سيكون لدى عدة بلدان معارضهم الخاصة الجديدة التي تصور دمار الحياة.
ثم مرت فترة من الهدير، بصوت مسموع من بين كل أنواع الصخب المختلفة. ستارة حمراء من اللهب ارتجفت بجوار الأتون الأبيض من النار ثم تلاشت. في مكان ما انفجر خزان يحتوي شيئا غير واضح أو أن مستودعا للفحم تخلف منه غاز الفحم توا، و اقتحم غرفة مغلقة و اندمج بالهواء و وصل لنقطة الاشتعال- هذا كل شيء، تبادر لذهن بائع الكتب المثقف، و الآن الحالة آمنة و يمكنه الركون لمعارفه. كم هذا غريب، خطر له، بعد الحرب سيكون لدي فرصة ووقت-
تلفت حوله بسرعة بحثا عن الخشب، ها هو، القليل من السقف سقط عند قدمه فانحنى، و حمله و ألقى به بعيدا. و ما أن انتصب حتى شاهد كم كان الموسيقي حاضر البديهة مع النار و عيناه عليها و ليس بسمعه فقط و بدأ يدمدم ثانية.
-"لست سعيدا. كلا، لا أشعر بالغبطة-".
-" ما خطبك أيها الشاب العجوز؟".
حدق بقية الطاقم بالنار بإمعان أكبر. و انصبت كل العيون عليها، و كانت الأفواه مطبقة. التف بائع الكتب من حولهم لينظر حيثما ينظر غيره. كانت النار البيضاء، و قد تحولت إلى زهرية شاحبة، ثم دموية ثم زهرية مرة أخرى حيث لفها الدخان أو سحب منه تبدو كأنها جزء لا يتجزأ من طبيعة هذا المكان. و تابع الرجال النظر.
في نهاية الشارع حيث الآن، إذا تكلمت بلغة البشر، لم يعد جزءا من العالم المأهول، ترى نقطة تحول الطريق فيها إلى موقد مفتوح على وسعه- نقطة حيث أجزاء غريبة من النور الساطع تتكاثف بشكل عمود نور مشتعل لا يزال واقفا وسط هذا الدمار، و حيث بقايا الشارع تحولت إلى ضياء، هناك - في تلك النقطة دبت الحركة بشيء مجهول. نظر بائع الكتب و فرك عينيه ثم نظر مجددا. كان يعرف كل تلك الظواهر، الأشياء التي تبدو وافرة بالحياة في خضم اللهيب: هي علب أو أوراق تتحرك بواسطة تيارات أو نسمات موضعية، لقد سببت النار لتلك المواد بالتقلص و التمدد كأنها عضلات تسترخي و تنقبض، و زحفت الأكياس بسبب الجرذان أو الهررة أو الكلاب أو العصافير نصف المحترقة. و فورا و فجأة، تمنى أن يرى جرذا و لكنه شاهد كلبا. التف مجددا من حول الناس ليضع ظهره في مكان وسط بين نفسه و بين ما تأكد له أن عينه لم تقع عليه...
من روايته : الظلام يخيم على مرأى منا.