مات ( ع . خ )
خاص ألف
2017-09-23
مات ( ع . خ ) . أغبطه، مات موتاً كلاسيكياً مشتهىً في سورية، يحن إليه السوريون، ويتوقون للارتداد إليه، بعد أن فشا الموت الذي لم يكن يخطر على بال أحد، بوحشيته وبلاهة البشرية إزاءه.
صار نادراً أن تذبل الوردة فوق غصنها، بعد شيوع القطف، والكل يكتب عن وروده مقطوعة العنق، ويندر أن ترى رثاءً لسواها من طقوس الذبول.
مات ( ع . خ ) دون رثاء احتفالي معاصر، على الفيسبوك، يليق بأمثولته، نموذجه، وحيزه في عقلي وذكرياتي، وبعض مقالاتي، التي حضر فيها مواربةً، مرتين.
هو معلم مدرسة يبيع الجوارب على " بسطة " في شارع " الثورة " في مدينتي "سلمية".
وأنا، سليل عائلة تحترم مهنة التعليم. هالة المعلم، شبه القدسية لدي، شيدتها سطوتان طاغيتان، سطوة المعلم في المدرسة، وتقدير والدي في البيت لنفسه، لأنه كان معلماً أيضاً.
تختلف مكانة المعلم عند من كان أحد والديه معلماً عن سواه، إنه إضافة لكونه "الأستاذ" هو "الأب".
لا يبدد الفصل الرسمي بين الأب والمعلم من وطأة هذه المكانة، وأذكر كيف نبهني أبي، في الصف الثاني، حين دلف إلى صفنا أستاذاً، بعد أن خاطبته بصفة الأب. يومها طلب مني ألا أناديه في المدرسة إلا "أستاذ". التزمت بذاك الفصل بصعوبة معمدة بالخجل طيلة تلك السنة "الفاصلة".
أن ترى أباك "معلمك" يفترش الرصيف خلف " بسطة "، في شارع "الثورة" يجعل حيرة الطفل تلامس الذهول. الذهول المقترن بسر غامض، يعجز عقله عن فكفكة طلاسمه، خاصةً أن جدتي أضافت بعداً ذاتياً، خاصاً بي، أعمق لـ " قم للمعلم وفه التبجيلا " ، فقد كانت تفاخر، وترد على كيد النسوة الأخريات قائلةً : عندي ستة من أولادي معلمين مدارس، فلانة، أولادها فاشلين…
إذن، خمسة من أعمامي، سادسهم أبي، و الأستاذ ( ع . خ ) على وشك أن يصيروا أنبياء !
الأنبياء يفترشون الرصيف، ويبيعون الجوارب، كي يعيشوا، في شارع "الثورة".
صار ( ع . خ ) ندبة، كأي أثر لجرح، أو حرق في جسدي، كلما رأيته تداعت للحضور ذكرى حضوره، وأحداث اقترنت به.
أرمق "الندبة" كل مرور في شارع " الثورة ". راجلاً أثبت نظراتي عليه قبل وصولي إليه بكثير، ثم حين أصير بمحاذاته أكف بصري، كعفيف يقابل فجوراً. كبرت، وصرت أمتطي صهوة دراجتي الهوائية، فتقلصت المسافة بين بدء التحديق به وكف نظري عنه. المسافة أصبحت أكثر اختصاراً حين صرت أقود سيارة، فالزحام والشرطة لا يسمحان بالتحديق الطويل، والخجل منه صار جبلاً بعد أن راكمته السنون.
تناولته في مقالتين، الأولى افتراضية، ترأستها عبارة " مجازر و جرابات ومسلسلات "، تحدثت فيها عن تربح ومتاجرة المسلسلات بكل شيء، يومها استهللت المقالة بعبارة " والدي معلم مدرسة، اضطر للعمل خارج أوقات دوامه الرسمية ببيع الجرابات على الأرصفة " في تلك المقالة اتخذت وضعية ابن ذلك المعلم، وافترضت كيفية معينة لاستثماري ثروة خيالية ورثتها عنه، فكان قراري العمل منتجاً لمسلسلات يبحث عن نصوص وتسويق لتجارته.
تلك المقالة، انتهت قائلة (ما زلنا ننتظر بيع المسلسل لنعرف كم سنجني. وفي الموسم القادم ربما نستطيع أن ندفع للبطل ما طلبه من أجر ونعيده إلى المسلسل، فقد تنفرج الأزمة العالمية، وتتحسن أرباحنا من بيع المسلسل و الجرابات والخضار و العقارات و الدخان، وقد تعطينا فلسطين فكرةً جديدةً للجزء الحادي عشر من المسلسل، ولا أظنها تبخل علينا بها. فلسطين معطاءةٌ، و رمضان كذلك، إنهما كريمان، كريمان جداً.).
المقالة الثانية كانت على عكس الأولى، واقعية، فالندبة تلح بالحضور، وتفرض إيقاعها حين أردت التحدث عن " قمار في مجلس الشعب " مستهجناً ــ في الشهر الأول من سنة 2011 ــ تثاؤب أعضاء المجلس وتواثبهم. كانوا يتثاءبون في كل قضية جوهرية خطيرة، ويتواثبون عند مناقشة موضوع افتتاح كازينو في دمشق.
قلت يومها : ( القمار مدمرٌ للمجتمع؟! حسنٌ ماذا يقول المناضل البرلماني عن معلم مدرسةٍ في مدينتي اسمه " ع. خ" افترش الرصيف منذ عشرين عاماً، و وضع صندوقاً شبيهاً بصندوق "البويجية" ونشر فوقه الجوارب كي يبيعها؟ هل يفعل ذلك من باب الهواية ورغبة جمع المال؟ ألا يشكل منظره هذا صفعةً بل طعنةً للكثير من القيم الشرعية و المبادئ القانونية تقتضي من مناضلينا البرلمانيين النضال من أجل نصرتها؟).
ولقد تنبأت يومها بخرابنا قائلاً ( أيها السادة: أعيدوا النظر بمفهومكم للقمار… ثمة مقامرةٌ أكبر قد نذهب كلنا ضحيتها.).
مات ( ع . خ ) بالأمس، وما زال الخفر يمنعني من ذكر اسمه الصريح، إن أردتم معرفته اسألوا عنه كل سكان مدينة سلمية، لأنه معروف لديهم كلهم، فهو ندبة في ذاكرتها أيضاً، وفي جسد تلك الثورة التي حمل ذاك الشارع اسمها... حيث كان يبيع ( ع . خ ) جراباته.
08-أيار-2021
05-أيلول-2020 | |
23-أيار-2020 | |
04-نيسان-2020 | |
21-أيلول-2019 | |
هكذا تكلم أبو طشت ـ الجزء 5 كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي. |
14-أيلول-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |