"هذه القصة من مجموعة قصصية بعنوان عودة التفاصيل. تم رفض نشرها في سوريا. ولم يتم نشرها فيما بعد"
وقفت مع صديقي في مطار البلاد البعيدة. كنت عائداً إلى سوريا، بعد سنين طويلة من غربتي، جفت فيها معارضتي للحكم، ونسيتُ فيها تلاوين الكتب الحمراء التي كانت تشعل مساماتي نحو ثورة حمراء. هربت من سوريا في فترة سابقة حين تعرض الكثير من أصدقائي للاعتقال. هربت لأحمي نفسي. لكن أصدقائي قالوا: لا لا .. أنت لم تهرب، أنت تريد أن توقد ثورة حمراء من بعيد.
ـ هل تريد العودة حقاً؟ أكاد لا أصدق..!! قال صديقي. سألني هذا السؤال عشرات المرات، وفي كل مرة كنت أجيب، وأضيف تبريراً جديداً. لكنه يعود ليسأل ذات السؤال وكأني لم أجب، وكأنه لم يسمع أبداً.
ـ إني خائف من عودتك يا صديقي.. اسمح لي أن أكون خائفاً للمرة الأخيرة. ما زلت غير قادر أن أتخيل أنك أنت الهارب من بلادنا السابقة، البلاد المليئة بالسجون، "كرر مفردة السجون ثلاث مرات" عائد إليها الآن..!
"أريد أن أرى الشمس في تلك الحدود اليابسة. الحدود المقيدة بجدران الاعتقال وجدران الخوف. هناك شمس تختلف عنها هنا. لن تصدق أني أشتاق لتلك الشمس! لن تصدق أني أغامر الآن من أجل أن أرى تلك الشمس.. يا صديقي وحده الشوق يعيدني إلى البلاد تلك. هجرت الثورات أسلحتها، اعتزل ثوار الأمس أو تقاعدوا، تغيرت كل البلدان، بلادي السابقة تغيرت. سأعود لأني أنا تغيرت أيضاً".
ـ ألست خائف! "نعم أنا خائف، خائف فقط.. لكني سأعود، أمي قالت لي في آخر رسالة، إنها تشتاق لي، الشمس تشتاق لي. أمي والشمس يا صديقي".
ـ أنا.. لن أعود.. أنا مازلت خائف.. أو ربما لم أتغّير. ودّعني صديقي، وتمنى أن يسمع أخباراً طيبة.
حين حلقت الطائرة فوق الغيوم أشرقت شمس دافئة، وداعبت عيني. أرسلت أناملها الخفيفة وربتت على أهدابي الخائفة بحنان. تحدث الطيار معلناً أننا في نهاية رحلتنا وطلب أن نشد الأحزمة.
كان الطقس كئيباً في أرض المطار، هطلت الطيارة وحيدة. هطلت بدون الشمس الدافئة. سرت وحيداً مع حقيبة صغيرة، أترنح من خفتها. قبل الصالة الكبيرة المعدة لاستقبال المسافرين، وقفت صورة ضخمة معلقة باحتراف لرئيس الدولة، كان يرتدي فوق وجهه الأبيض نظارة سوداء تغطي تفاصيل عينيه، وبدلة سوداء، يخفي بها تفاصيل البلاد.
بجوار الصورة المعلقة لرئيس البلاد، وقف أربعة رجال يرتدون المفاجأة، كانت أيديهم متربعة فوق صدورهم الوسيعة. اقترب مني أحدهم ببدلته السوداء كبدلة الرئيس في الصورة، ونظارتيه الداكنتين كنظارتي الرئيس في الصورة. بهدوء شديد، وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد، قال: ـ مرحبا أستاذ... كيف كانت الرحلة؟ بحرارة صافحني، وأكد أنه ينتظرني منذ زمن بعيد. قادني وسط نسخة مكررة من رجاله. لم أعترض، لم أسأله شيئاً. سرت معه صامتاً، فقد رأيت تلك الحادثة مئات المرات في أحلامي، رجل بلباس أسود يعتقلني، ورجال يصرخون فأصحو. هذه المرة كنت صاحياً، كنت بكامل حواسي، أرى نفسي معلّقاً بين أربعة رجال صامتين، يسوقوني إلى الظلام. أربعة رجال صامتين.. مخيفين.. قبل أن أرى الوطن الذي اشتقت إليه، رأيت فقط التحقيق. رأيت الغرف المظلمة، والسياط الباردة. رأيت القيود، وعصابات العيون. والدواليب المطاطية، والكراسي المعدنية. والصراخ. ساحات واسعة من الصراخ.
لم أدرك أني خطيرٌ إلى هذه الدرجة. لم أشعر يوماً أني مهمّ لمراكز الأمن الكثيفة، حتى يوفِّروا لي كل هذه العناصر، لتعتقلني. لتقودني. لتحقق معي. لتراقب نومي وصحوتي وخروجي. كنت دائماً في الوسط مقيداً إلى الخلف، وكانوا يحيطون بي بعتاد التحقيق الكامل. تساءلت كثيراً، من أكون؟ ... من أنا؟
سقط ماضيَّ عميلاً في غرفة التحقيق، وكنت بالقرب منه مزقاً، نثرات من الجمل والكلمات والبصمات. أخرجوا مني كل الذكريات وكل الكلمات. كل الحوادث التي فعلتها والتي لم أفعلها. أخرجوا كل شيء.. كل شيء وتركوني فارغاً.. أنا الآن فارغ يا أيها الناس.. أنا فارغ أيتها الشمس.. أنا فارغ يا وطني الذي عدت لأني مشتاق.
مضت الأيام الباردة، التي تعصر جلدي، وتوقظ مفاصلي. مضى الألم القاسي ببطء شديد. في يوم شديد الملوحة كدموعي، أقبلت الكائنات الداكنة لتسوقني إلى قاعة المحكمة. المحكمة التي تتخصص في محاكمة الخونة كما قال لي العنصر الذي قيدني في يدي ورجلي. قال: افرح.. ستزور العاصمة اليوم.. قاعة المحكمة تتأرجح وسط العاصمة.
أمام سيارة معدنية، يصل إلى عنبرها الكتيم سلم حديدي طويل. سحبني العنصر من زنزانتي إليها. ساعدني لأصعد السلم الحديدي، ثم تركني أسقط داخل العنبر. وأقفل الباب خلفي. تشابكت رائحة الصدأ مع رائحة الوقود.
جلست في أرضية العنبر، حتى لا أسقط من جديد. ثم وقفت خلف طاقة صغيرة في جدار السيارة المعدنية، تقطعها القضبان الثخينة، أتفرج ، وأنتظر شمساً تسرق وجهي بأشعتها، أو تسرق وجهها بعينيّ.. لا شمس في الطريق.. الطريق أسود طويل، تقطعه عناصر الأمن، كائنات سوداء تحمل بنادق سوداء.
دارت السيارة، ثم دخلتْ في طريق فرعي، وتوقفت. فاحت رائحة الوقود ثانية. تمايلتُ، استندت على جدران السيارة بكتفي لأحمي نفسي من السقوط.
راقبت من نافذتي الصغيرة، لأعرف أين أنا، وإلى أين أمضي، حين فتح كائن أسود الباب، وصرخ: ـ "انزل.. انزل لشوف". نزلت السّلّم فسقطت فوق الأرض الصلبة، وارتطم وجهي رغم محاولات كتفي الحثيثة لحمايته. لم يساعدني الكائن الأسود، اكتفى بمراقبتي، وأنا أحاول النهوض، وحين تأخرت صرخ: ـ "قوم .. قوم من أرضك لشوف". اقترب جمع من الناس بوجوههم الحزينة الملهوفة، يراقبون الضحية الجديدة علّها تكون من فتات أحبابهم المعتقلين، لكن الكائنات السوداء صرخت فيهم أن يتراجعوا.
التفتُّ، أبحث عن تفاصيل الناس الخائفة. عن تفاصيل من أحبهم. ربما أجد من أشتاق إليه.. ربما.. أجد.. من أشتاق.. إليه.. ـ" قدّامك ... قدّامك لشوف". مشيت.. صعدت درجاً اسمنتيّاً ضيّقاً، ودخلت غرفة واسعة. وقفت في زاوية عارية. بعيداً عن مقعد خشبيٍّ كبير يجلس عليه أمثالي من البشر. خائفون مثلي، مقيدون مثلي، حليقوا الرأس مثلي، غرباء مثلي، أصحاب نظرات مقطوفة ، وهياكل منسية، تطوقهم قضبان الحديد، وصراخ طويل وكائنات.... حافظت على وقفتي، أحاول الابتسام، لأرد على ابتساماتهم الحنونة، التي تسأل من أكون! من عمق القاعة تلك، صرخ كائن هلامي : ـ" دير وجهك عَ الحيط..لشوف" درت.. كان الدهان الرمادي الأملس على الجدار يرقص ساخراً من وجهي الأصفر... فك أحد العناصر قيدي، وأدخلني إلى غرفةَ أخرى. وقفت أمام مكتب معدني، جلس خلفه رجلٌ جافٌ. لم ينظر في وجهي. مدّ ورقة، وغمس إبهامي بالحبر، وأشار إلى موقع على الورقة، وقال بحياد: ـ" ابصم... ابصم هون... هون لشوف"...ثم حرك يده كي أخرج.. قيدني الكائن من جديد بنظراته الباردة، وقيده المعدني. ثم نزلت الدرج الاسمنتي. صرخ أكبر كائن أسود: - "عندك زيارة؟" بدت كلمة زيارة غريبة علي، لم أفهم ماذا يعني! هل يمكن أن يزور المعتقلين أحداً ما في قاعة المحكمة!! فهم أني لا أعرف.تمتم بضع كلمات بدت لي كأنها شتائم. وأشار للآخرين كي يأخذوني.. تعثّرتُ أمام المدخل بالجموع. وقفت لوهلةٍ، أمتِّع نظري بمرأى الناس. ربما يعانقوني، يفجرون صوتي الحبيس، يضموني في المسافة بين الحديد وبيني. ـ" قدّامك ... قدّامك لشوف" صعدت السلم الحديدي، على آخر درجةٍ منه التفتُّ. كانت الناس صامتة، مستغربة. ركلني الكائن إلى داخل الصندوق، فوقعت وأقفل الباب الحديدي خلفي. اقتربت من نافذتي، كان الجمع يقترب، يتهامس. ترتفع أيديهم بحركات، لم تعن لي شيئاً.. ثم قطعتْ صرخة مجروحة صمت المراقبة، وعلا بكاء موجع مزَّق الخوف المسكون، ثم شقَّ اسمي بأحرفه الطويلة غصَّات البكاء. توجَّهت عيناي صوب الصرخة، ثم صرخت.. كانت أمي تبكي، وتنادي، وتقترب، انشق الجمع، ليفتح لها طريقاً. كشفت عن رأسها، وتناثر شعرها فوق وجهها وكتفيها. اقتربت تحمل شالها، وتلوِّح به بيدها الرقيقة صرختُ من دمي، من أعماق دمي: ـ أمي... أمي..!! عصرت وجهي بشبك النافذة، أريد أن أخرج منه.. دار محرك السفر، وفتلت السيارة نصف دوره، وغطست في الطريق الأسود الطويل. دُرتُ حول نفسي، قبل أن تترنح ساقاي، وسقطت. ارتطم رأسي، ثم غبتُ عن كل شيء. أفقتُ وسط الجوقة السوداء نفسها. أنا في الوسط، أتكوم بالقرب من ثيابي، أمسك رأسي، أحاول معالجة الجرح، أحاول استرجاع تفاصيل تطير كفرخ طائر أمام عينيَّ. ـ" قوم..البس..ودير وجهك عَ الحيط.. لشوف.." وقفت مستغرباً متألماً، محاولاً أن أعرف أين أنا! ماذا حدث؟! فتّشت في ثيابي عن نفسي وسط حواسي المخدرة. وجدته، وجدتها، وجدت شال أمي. كان يرقد خليطاً من الدّم والشحم والدموع. حملته، شممته، غطيت وجهي بخيوطه، وركعتُ متهالكاً، مخنوقاً بالغصات. وانفجرت كقنبلة.. ليس حلما.. لا..لا.... ليس حلماً، لم يكن حلماً.. وسط صراخ طويل طويل .. " قوم.. قوم.. قوم من أرضك.. لشوف"....!!
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...