كنت أعبر إلى الضّفّة الأخرى من الشّارع، عندما اقترب منّي مبتسماً، وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد. كان يرتدي جينز أزرق فوق حذاء رياضي خفيف. ويحيط قميص أبيض تفاصيل بدنه الثمين.
لماذا يبتسم لي هذا الغريب؟
حاولت أن أتذكر من يكون! هل أعرفه؟ هل التقيت به في فترة سابقة، حتى يبتسم في وجهي بكل هذه اللطافة؟
انشغلت عنه. لأني اعتقدت أنه مخطئ. لكنّه مد يده مصافحاً، مددت يدي متردداً، شدّ قبضة يده، وقلب يدي، ووضع ورقة صغيرة في باطن كفي. ثم سحب يده بهدوء وغادر... كان يبتسم أيضاً حينما غادر.
في منزلي البسيط، الذي لم يكتمل بناؤه بعد، وحين دخلت الحمام فتحت الورقة. كانت رسالة من صديق قديم يدعى "غريب" رسالة بكلمات قليلة ودقيقة وسريعة.
عزيزي...
نحتاج أن نخفي شاب ملاحق من الأمن، في منزلك لعدة أيام. اعذرني لطلبي هذا. أنا صديقك "غريب" إذا كنت تذكر. غريب غريب.
ثم حددت الرسالة الخطيرة، تاريخاً للموعد القادم. ولمكانه.
و حددت إشارات التعارف مع شخص غريب، سأستقبله وأخفيه في منزلي لفترة معينة. إشارات تشير من أكون وكيف سيعرفني الغريب، وإشارات لي حتى أعرف هذا الغريب. ماذا سأرتدي وماذا سيرتدي الغريب. كيف سأمشي وكيف سيمشي الغريب. ماذا يجب أن أقول له، وماذا يجب أن يرد الغريب.
قرأت الرسالة عدة مرات. تذكرت غريب غريب. طالب معي في الجامعة منذ زمن بعيد. الزمن الذي طرح فيه أن أكون مناضلاً، في تجمعهم السياسي، لأن المستقبل سيكون لهم، هم أصحاب القضايا العادلة. ولأني أنتمي إلى الجموع الفقيرة، ولأن لي عقل منفتح، دعاني أن أنضم لهم.
يومها قلت له أن لي اهتمامات أخرى تشغلني عن القضايا الكبيرة، حتى لو كانت عادلة. قلت له إن أبي وأمي ينتظرون أن أنهي جامعتي. وحبيبتي تنتظرني. ودراستي، وشهادتي، وأخوتي. حتى حجارة قريتي البعيدة تنتظرني يا غريب.
طرح غريب نفس المسألة مرات عدة، وفي كلمرة كنت أجيبه بنفس الكلمات، ثم امتهنت الصمت. اعتقدت أن غريب لميفهمكلماتي ولابما لن يفهمها أبداً.
اقتنع غريب أني غير مفيد.
اليوم عاد غريب.. غريب الذي غاب طيلة هذه السنين عاد اليوم عبر رسالة قصيرة وكثيفة وخطيرة!
لدي زوجة وطفل وبيت لم يكتمل بناؤه بعد، صرفت عليه كل مدخراتي وجهدي وجهد زوجتي حتى يكتمل. لدي ما يشغلني.. لدي قضاياي الحميمة القريبة. لدي ما يشغلني ويلهيني عن قضاياكم العادلة يا غريب!
الأمن لا يعرف القضايا يا غريب.. الأمن يجيد الاعتقال! المخابرات لا تعرف المستقبل يا غريب.. المخابرات تعرف "الآن"! تعرف الآن.. تعرف كل شيء عن "الآن".
لماذا عدت يا غريب!
أنا كائن عادي. كائن يشعر بالخوف. يخشى المخابرات. يخشى الاعتقال. يخشى المستقبل كما يخشى "الآن"!
أحرقت الرّسالة بدون أن تراني زوجتي، وقرّرت أن أتجاهل كلّ شيء. رفضت أن أنضم إلى مجرور السياسة في الماضي. ولن أنضم له الآن.
تلك اللّيلة ، أكلتني الوساوس، ولم أستطع شرح قلقي لزوجتي.
في اليوم التالي، خرجت على غير عادتي ، فسألتني زوجتي، إلى أين؟!
قبلتها، ولوحت لصغيري بيدي.. وأجبتُ بسرعة، أني لن أتأخّر.
اشتريت جريدة، وشرعتُ أبحث عن موقف باص بجوار مكتبة عامة اسمها النّورس، أنتظر هناك رجلاً، لا أعرفه، سيعرفني من الإشارات..!!
سأخفيه عن العيون بعض الوقت، ريثما يتم تأمين مكان آخر أكثر أمان له، هي مهمة خفيفة، لن يلاحظها الأمن العام. لن تلاحظها المخابرات. لن أتعرض للاعتقال بسببها، ولن تلهيني عن مشاغلي الكثيرة. ولن تلاحظ زوجتي، ولن يفتقدني طفلي. مهمة عاجلة. طلبها مني غريب. لأن صديقه في خطر، ولأني أنا صديقه الذي لم ينساه أبدا.
تفاجأت، لما وجدت المكتبة بسرعة. كنت أعرفها، لكني لم أعرف أن اسمها النورس، ولم يلفت انتباهي الطائر الجميل الأبيض، وهو يحضن دفّتي بوابتها بجناحيه الهائلين.
نظرت إلى ساعتي. بقي على الموعد بعض الوقت. سرت بهدوء إلى الأمام، ألتفت كل لحظة إلى الخلف، لأتأكد أن لا أحد يتبعني.
قطعت نصف الوقت المتبقي على الموعد، وعدت أدراجي، على نفس الخطا والحذر والتّلفّت.
اقتربت من موقف الباص، وقفت تحت مظلّته الكبيرة، أحمل جريدة باليد اليسرى، وأمسح ذقني باليمنى بين الفترة والأخرى، ليعرفني ذاك الرجل الغريب، صديق غريب، الذي يعمل في تنظيم سياسي، تنظيم لا يثير لدي أية مشاعر.
توقّفت سيارة عامة، ونزل الجابي، ليسمح لي بالصعود.
لم أتحرك. عرف الجابي أني لا أريد الركوب، فصرخ للسائق:
ـ "خالص.. إلى الأمام يا معلم". فانطلقت السيارة بسرعة.
قطع رجل أنيق الشّارع، واقترب من الموقف بحياد تام.
قفز قلبي إلى فمي، أعيد السؤال الذي سأطرحه عليه بمجرد أن يقترب مني..!
لكنّ الرّجل، لم ينظر إليّ، لم يكلّمني، ولم يقترب..!
اقتربت سيّارة عامة أخرى، ولم أصعد.. وكنت أراقب الرجل الأنيق.. الرجل الأنيق لم يصعد أيضاً وسط استغراب الجابي والسائق.
ضربت الجريدة بفخذي، ومسحت ذقني بكفي ليراني الأنيق... لكنه لم يتحرك.. مرت سيارة ثالثة، ولم يتحرك.. سكنت الجريدة في يدي. وسكنت اليد الأخرى. سكنت قدماي. وحده قلبي كان يقفزمن مكانه في حركات غريبة، تقول. لقد وقعت في الفخ.. لقد اصطادوك "الآن"..
إنّه .. إنّه ..إنّه من الأمن...
النظارة الشمسية. اللباس الأنيق. الحذاء الخفيف. الوقفة المنتصبة. الحياد. الصمت... إنه من المخابرات..
لقد وقعت . ما خفت منه وهربت منه طوال حياتي، يحضنني بين فكّيه "الآن". الموعد مكشوف.
لن يمر وقت طويل، حتى يقترب مني أربعة رجال يقيدون يديّ، ويعصبون عينيّ، يدفعوني في سيّارة رمادية، ثم يقول رئيس الدّورية في جهاز اللاسلكي:
- سيدي... الهدف بين أيدينا.
انطفأ ضوء النهار بألوان لوحة اعتقالي... زوجتي.. طفلي.. بيتي الخفيف..
كنت أراقب الرجل الأنيق، أنتظر إشارة خفيفة منه، فيهرع الآخرون لاعتقالي.
ألقى نظرة ثاقبةً إلى وجهي مباشرةً. مسحتني. جمدتني.. صوت داخلي قال: اهرب.. لكن كيف؟! لقد تخشبت ساقاي.. والهروب قيد الاعتقال "الآن".. الكون الذي كان كبيراً، أصبح صغيراً "الآن"، هلاميّاً، وأنا قشّة عالقة في سطحه. كنت قشة صغيرة عالقة في الهلام، تحت سماء زرقاء ساكنة.. ساكنة وساكتة... ساكتة وتترقّب!
أيقظني صراخ طفل صغير بين يديّ امرأة على باب سيّارة عامة. سيارة تحمل أطفالاً. اقترب الرّجل الأنيق المتخفّي خلف نظّارتيه، حمل الطّفل بيديه. قبّله، وضع كفّه الكبيرة، فوق الرأس الصغيرة، ليحميها من حرارة الشمس.
ابتسم للمرأة، وأشار بيده للسائق. انطلقت السيّارة، ومضى الرّجل، يهرب من تأتأة طفله، وأحرفه الطويلة، بجملة واحدة كررها عدة مرات:
-ليس الآن.. ليس الآن..
لحقت بالرّجل كالتائه.. كنت كمن تمّ إطلاق سراحه "الآن". كنت أريد أن أصرخ: ها أنا "الآن" حرَ.. أنا "الآن" خارج الموعد وخارج غريب وخارج الاعتقال.. وداعاً يا غريب وإلى الأبد.
ضحكت بصوت عال، تحت مظلة موقف صامت، تحت سماء زرقاء ساكنة.
لقد انتهى الكابوس "الآن"...
دخلتُ منزلي، قبلتُ زوجتي، وحملتُ طفلي، ولمّا طلب منّي أن أخرج به، قلّدت صوت المتخفي خلف نظّارتيه: ليس الأن.. سألتني زوجتي لماذا أغيّر صوتي؟
نام طفلي في يديّ، فعدنا لغرفتينا. وضعت الصغير في سريره، وجلست بالقرب من زوجتي، نشرب شاي المساء، ونشاهد حلقة أخرى من مسلسل السّهرة...
سبقتني زوجتي إلى الحمام، ولمّا عادت، أطفأتِ النّور. خلعت ثيابها، واستلقت في السّرير. نهضتُ، ودخلت ُ الحمام، نظفت أسناني، وخرجت، خلعت ثيابي على حافة السّرير.
دخلت تحت الغطاء، أتنفس من حرارتها، وأبحث في تفاصيلها الرّطبة عن مفردات الدفء الحنونة، قبل أن نلتحف العناق الطويل وننام.
مع تباشير الفجر الأولى، صحوت على قرع خفيف رقيق على باب غرفتينا، ثم علا الصوت قليلاً. ثم أصبح عنيفاً!
نهضت بسرعة، ارتديت ثيابي، جلستْ زوجتي في السرير.
فاق الصغير يبكي!
اقتربت متردداً، لأفتح الباب، لكنهم كسروه..
أربعة رجال يتخفّون خلف المفاجأة. قلبوا غرفتي، يبحثون عن شيء لا أعرف ما هو! واثنان آخران قاداني إلى سيّارة رماديّة، حين كان صوت رئيس الدّورية يصدح:
ـ سيدي... سيدي... الهدف بين أيدينا... حوِّل...
قيدوني في يديّ، وأخفوا عينيّ بعصابة سوداء، حين كانت السماء تستقبل أولى أشعتها الساكتة، وكان طائر النورس يفتح جناحيه بقوة، ليحضن بكاء طفل وامرأة تركا وحيدين، في بيت لم يكتمل بناؤه بعد، وتحت سماء رمادية كالحة.. كالحة وصامتة.. صامتة وتترقب.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...