نحن وفن الكاريكاتور ؟
2008-04-01
كلما تفوه عربي بكلام نقدي إزاء السياسات التي لا يكاد يختلف إثنان في تنافيها البين مع المصلحة القومية بل وحتى مع المصلحة المباشرة لبلدان الخليج يحاول بعض المرتزقة من الصحفيين إسكاته بتهمة عنوانها "عقدة النفط". فمباشرة قبيل حرب العراق الأخيرة كتب أحد مؤججي العداوة بين العرب يطلق على نفسه اسم "واو الجماعة" فادعى أن علاقة العرب من غير الخليج بعرب الخليج يحكمها ما يسميه بعقدة النفط عند فاقديه حسدا لواجديه. ومثل هذا الكلام الصريح ليس هو إلا تعبيرا عن الضمير الأساسي في مآل النظام العربي عامة. فالقطيعة بين مجموعات الوطن العربي الخمس (المغرب العربي والنيل العربي والهلال العربي والخليج العربي وملتقى القارتين العربي أي الصومال وأرتريا واليمن وبعض جزر المحيط الهندي) القطيعة التي كل هذه المجموعات محميات أمريكية وخاصة قطيعة النظام الخليجي الرسمي مع الرابطة العربية ليس له من علامة أوضح من اللجوء العلني والنهائي للحماية الأمريكية التي هي في الحقيقة حماية إسرائيلية كما بينت عند الكلام على دور إسرائيل في النظام العربي فهذه الحماية ليس سببها الخوف من الأعداء لأن الحماة هم الأعداء بل الخوف من الأخوة الذين تخشاهم الأنظمة القطرية وخاصة من يظنهم أصحاب الثروة النفطية طامعين في الثروة المزعومة بحيث يسكت الجميع ليس على تجويع العرب غير النفطيين في مصر والأردن والصومال إلخ... بل وحتى شعوب الخليج نفسها لأن الثروة لا يتجاوز المستفيدون منها من تعرضهم الواجهة الوهمية في التلفزات الرسمية. وأعتقد أن السيل قد بلغ الزبى فأصبح من الضروري العودة إلى هذا الموقف ذي النظر القصير الذي سيؤدي إلى تقاسم النفوذ في كل الوطن العربي بين ثالوث مقدس لا يريد بالأمة العربية الخير: الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران بعد القضاء على العراق وإخراج مصر من المولد بلا حمص واشتغال الجزائر والمغرب الأقصى بمعركة شبيهة من حيث البدايات والنهايات بالمعركة التي أدت إلى حربي الخليج الأخيرتين وضياع العراق والتركيز على إرباك سورية فضلا عن الحروب في الأفطار العربية التي انتهى فيها حتى كاريكاتور الدولة.
فهذا الداء الذي جعل العرب أعدا بات أكثر أدواء الأمة طغيانا في اللحظة الراهنة منذ أن طفا على السطح ما تأسس خلال حرب الخليج الثانية إلى أن أصبح أهم عوامل التحريض على حرب الخليح الثالثة والمساعد عليها. ثم صارت نتائج هذه الحرب وتعمق عقدة النفط عند البعض من واجديه-وربما فاقديه لأن أسعاره صارت سبب القضاء على كل مشروعات التنيمة في بلادهم-منبع كل النصوص الحاقدة من بعض أهل الخليج أو ضدهم بعدها. ولولا هذا المآل ثم ما للأمر من دور في تفشي الكراهية بين التجمعات العربية (الخليج والهلال والنيل والقرن والمغرب العربي) والتعالي الزائف المتبادل فيما بين التجمعات العربية لأهملت الأمر ولم أعلق عليه رغم أم صاحب المقال قد أورد إشارة إلى مقال لي في القدس العربي أخرجها عن سياقها.
آخر الدواء هو الكي
وأملي أن حرب التحرير العراقية التي هي عربية بالأساس ستمكن الصامدين من العرب المؤمنين بمستقبل الأمة من حسم الأمر مع أمريكا وأذنابها ليس في الخليج وحده بل في كل الوطن العربي لأن الحرب لن تتوقف قبل أن تقضي على الاستعمار الأمريكي في كل أقطار الوطن العربي ومعه عملاؤه دون استثناء من المحيط إلى الخليج فتخلصنا من كل الحزازات بين التجمعات العربية الهادفة إلى الحيلولة دون الوحدة الشاملة أكثر من تحقيقها الوحدات الجزئية. وقد سبق لي أن عالجت النواة الأولى من هذه الأحقاد المرضية بين النخب العربية قبل أن تصبح بين الشعوب فبدأت بأولها الذي يقابل بردة فعل على تعالي بعض النخب المشرقية ردودا عكست وهم التعالي عند بعض النخب المغربية فولد الأمر بحزازات تكررت مباشرة بعد وخلال حرب التحرير فبرزت في ضوء كتابات بعض المفكرين العرب الذي استوحوا فكر أرنست رنان العنصرية والردود عليها بما هو من جنسها.
والمعلوم أن هذا النوع من العلاقة بين المغرب والمشرق قديم قدم الأدب العربي الإسلامي نفسه بعد الفتح وليست من مفاعيل العصر الحالي. لذلك فقد عالجناها تاريخيا ونفسيا بحسب منزلتها في الوعي الجمعي كما يتبين من الأعمال الفكرية الراقية مثل إشارة ابن خلدون في لمحات علم اجتماع المعرفة في بداية الباب السادس من المقدمة. لكن العلاقة المرضية بين العرب عامة وعرب الخليج خاصة علاقة حديثة حداثة ما يفسرها به صاحب هذا الكلام السخيف على عقدة النفط والموقف الأسخف الذي يلجئ عرب الخليج للحماية الأمريكية في الظاهر والإسرائلية في الباطن والتي هي مصدر ما يبدو من عداء بينما وإيران ستنهي في الغاية إلى تقاسم نفوذ على حسابهم.
وهذه العلاقة الخفية وراء مظاهر الأشياء لم ترق إلى مستوى الفكر لأن فضح ما وراءها من تآمر على الأشقاء وتحالف مع الأعداء من أجل حماية بعض الأمراء بقيت خفية لسببين:
تكدي من عوض شعراء الانحطاط من الصحافيين شاهدي الزور الذي يصورون للأمة صب المال في الحجارة تأسيسا لشروط الحضارة.
ورشوة بعض المثقفين منتفخي البطون ممن يعدون كاريكاتورا للإسلام أو للحداثة أو لهما معا.
علل التنابز بين النخب
وحتى نسهم في تحليل ظاهرة التنابز بين نخب المجموعات العربية فلنبدأ بالقول إنها قد مرت بطورين في العصر الحديث وبطورين في العصور المتقدمة عند النظر إليها من وجهي العملة أي من منظور طرفيها إليها. وكلا الطورين الحديثين دال على استفتحال الداء وحاجته إلى آخر الدواء:
1- فهي بدأت بنوع من التعالي "الثقافي" السخيف حدده منظور المتكلمين باسم العرب الذين تأثروا بالغرب قبل الخليج وخاصة في الأدب المسرحي أو السينمائي الساقطين. وهي في الأغلب من جنس سخرية الحضري من البدوي في كل بلاد العالم ومثالها الأوضح سخرية القاهري من الصعيدي.
2- ثم هي أصبحت نوعا من التعالي"الاقتصادي" حدده منظور المتكلمين باسم العرب الخليجيين بعد طفرة النفط رد فعل على المتعالين الذي صاروا متدانين لأنهم أصبحوا في الخدمة التي يصحبها إذلال مهين للمعارين من العاملين وخاصة منذ خمول الحركة القومية والاستقواء بالحامي الأمريكي. وهي في الأغلب من جنس انتقام الاثرياء الجدد ممن افتقر بعد غنى.
لكن "واو الجماعة" لكونه فاقد الحصافة الفكرية والشجاعة الخلقية اكتفى بعلاج سطحي رد المسألة كلها إلى ما يرمز إليه عنوان مقاله "عقدة النفط في اللاوعي العربي" الذي ذيله بعبارة مجزوءة وردت في احدى مقالاتي في القدس العربي أخرجها من سياقها فعممها دون تحديد لمرجعها المعين بقرائن النص لكأنها تصف شعوب الخليج لا المستحوذين منهم ومن العرب الآخرين على مقومات الأمة. فأمراء العرب صنفان:1-أمراء الحرب الجدد الذي استبدوا بالحكم بالانقلاب العسكري بدعوى التحديث العلماني سواء كان قوميا أو قطريا 2-والأمراء التقليديون الذين هم بقاء نفس الاستبداد وإن كان بشعارات تدعي الانتساب إلى المقومات الأهلية سواء كانت قبلية أو دينية.
صنفا الكاريكاتور العربي
لكن اسم الأمير الكاركاتوري يبدو وكأنه مقصور على هذا المعنى التقليدي في الخليج وهو من الأخطاء الشائعة. فالجميع كاريكاتور أمراء لأنهم يشتركون في عدم الاتصاف بصفات الإمارة الفاضلة ويتقاسمون صفاتها المشوهة تشويه الكاريكاتور. فليس لهم منها إلا تشويهاتهما الفعلية لا الفنية لفقدانهم فضائل الإمارة بمعناها الخلقي والفكري: وخاصة الطموح السياسي المؤسس للحضارات كما يصفه ابن خلدون عند كلامه على شروط تأسيس الدول والإمبراطوريات. فالإمارة عندما تكون تامة الدلالة تكون غايتها طموح القوم السياسي إلى الدور الرسالي وتكون بدايتها الطموح الاقتصادي إلى القدرة على تحقيق هذا الطموح السياسي: الأمراء بالمعنى التقليدي في الخليج وأمراء الجيوش العربية التي لم تحارب إلا شعوبها لتأبيد الاستبداد ليس لهم لا ذاك الطموح ولا هذا. إنما المستحوذون على مقدرات الأمة في أقطار الوطن العربي أقزام وكاريكاتورات من الإمارة بمعناها الحقيقي للعلل التالية:
1-فلا علاقة لهم بطموح الأمة السياسي للسيادة. فمن يكتفي بإمارة محمية ولا يهمه توحيد الأمة رغم ما لديه من إمكانات ولتحقيق شروط حمايتها لا يمكن أن يكون بين جوانبه قلب أمير لأنه في هذه الحالة مجرد أجير عند حاميه الحقير.
2-وليس لهم الشرعية السياسية (لم ينتخبهم أحد) وإلا لكانوا على الأقل مثل بقايا ملوك أوروبا الذين يترأسون ولا يحكمون فيمثلون تعلق شعوب أوروبا بمآثرها الحضارية لا غير ويتركون أمراء الاقتصاد يحققون مشروع الإمبراطورية الرومانية من جديد ليستعيدوا كل ما يحيط بالبحر الأبيض المتوسط حيث يتناحر أمراء الطوائف العربية في المغرب والجزائر وتونس وليبيا.
3-وليس لهم الطموح الاقتصادي (ثروتهم مال سائل في بنوك الأعداء من دون قاعدة القيام المستقل الذي يثمر الأموال ويحميها كما يفعل رجال الأعمال الذين وحدوا أوروبا لهذا الغرض) وإلا لكان لهم مثل برجوازية أوروبا القدرة على غزو العالم فضلا عن المساهمة الفعالة في توحيد أوروبا. لكن المتمولون العرب همهم إنشاء الفنادق والتلفزات التي هي حريم عام بالإضافة إلى الحريم الخاص في ضيعاتهم الشرقية والغربية.
4-وليس لهم أخيرا شرعية الملكية (ليس ما بيدهم ثمرة لجهدهم بل هو ما اغتصبوه باستغلال النفوذ السياسي) وإلا لكانوا لا ينزعون ملكية العاملين من شعوبهم باستغلال النفوذ والقوة العامة. لذلك تراهم أذل المخلوقات أمام أي موظف من أي سفارة غربية فضلا عن حكام الغرب إذ يزورونهم. وحتى البابا الذي يسب الإسلام ليلا نهارا ويحرض عليه فإنهم يستمدون من قداسه رضاه عنهم وخاصة إذا نالهم الحظ فزارهم أو عمد بعض المارقين من نخبهم.
5- وهم أخيرا يجاهدون ليفسدوا كل شيء من حولهم حتى يستتب لهم الأمر وخاصة المؤسسات التي تستند إليها شروط البناء الحضاري السوي بجعلها أدوات يرشون بها النخب التي تشرع لهم أفعالهم وتزينها لدى الشعب المقهور فضلا عن تحويلها إلى أدوات ابتزاز لكل الشرفاء في رزقهم اليومي وأداة تأطير للأجهزة المافياوية التي تمكنهم من السيطرة والحكم مدى الحياة.
لذلك فأمراء العرب بصنفيهم هم الكاريكاتور الحي من الإمارة. وهم قد جعلوا كل مظاهر الحياة منقسمة إلى صنفين من الكاريكاتور إما كاريكاتور الحضارة الإسلامية أو كاريكاتور الحضارة الغربية: يتكلمون بقيم كلتا الحضارتين ولا يأخذون منهما إلا أفسد ما فيهما أعني تشويهاتهما الكاريكاتورية. ويمكن القول إن فن الكاريكاتور العربي بلغ الذروة فجمهورياتنا ملكيات بدائية وملكياتنا قبائل بدوية. ونصوص دساتيرنا مهازل لفظية وصحافتنا ثرثرات رسمية وشوارعنا هي عين الكاريكاتور الحي لأنها لا تحتوي إلا على صور من هم مجرد كاريكاتور من الزعماء والقادة سواء طبقنا معايير تراثنا في المخيال الشعبي أو معايير التراث الغربي في ما نراه يجري أمامنا.
فكيف يمكن أن يكونوا أمراء حقا ثم لا يكونوا أول الساعين إلى وحدة الأمة التي هي شرط قوتهم وحمايتهم كما فعل الأمراء الذين أسسوا أوروبا الحديثة رغم أن أدوات التوحيد الحالية تفوق فاعليتها آلات المرات ما كان لدى أمراء أوروبا في بداية العصر الحديث أو كما يفعل أمراء اوروبا الحالية الذين وحدوا أوروبا من الأورال إلى المحيط ؟ وكيف يمكن لأمراء حقيقيين أن يتصورا التحديث مشروطا بالقضاء على ما بقى من الوحدة الثقافية والروحية وخاصة بقتل اللغة القومية والاستعاضة عنها بلغة مستعمرهم في حين أن حفنة من الإسرائليين أحيوا لغة ماتت منذ ألفي سنة ولم يمنعها ذلك من أن تكون أكثر منهم تقدما بل هي حاميتهم من الخليج إلى المحيط ؟
والحقيقة أن الأمراء العرب بصنفيهم ليسوا إلا كاريكاتور أمراء. فالأمراء التقليديون يعيشون على كاريكاتور من شرعية التأصيل الديني (الإسلام ينفي على الحكم التدثر بالدين حتى لو استمد شرعيته من البيعة الحرة): لذلك فكاريكاتور الصحفي المغمور لرمز الإسلام لعبة أطفال بالقياس إلى هذا الكاريكاتور الذي يمسخ الإسلام ذاته فضلا عن رمزه. وأمراء الجيوش التي استبدت بالحكم بالانقلابات وزعمت نقلة الوطن من الملكية إلى الجمهورية يعيشون على كاريكاتور من شرعية التحديث المدني (الديموقراطية تنفي أن يكون عسكري على رأس الدولة). وكلا الصنفين من الأمراء هم كاريكاتور النهضة والصحوة العربية الإسلامية: إنهم أكثر استهانة بالرسول من الصحفي السكندينافي لأن وجودهم نفسه ليس إلا كاريكاتور من المجد الروحي والزماني الذي حققه الرسول الأكرم.
هرمينوطيقا عقدة النفط المزعومة
والغريب أنه قد جاء في ذيل النص الذي كتبه واو الجماعة تعليقات كثيرة مثلت بالمعنى الهرمينوطيقي للكلمة ضمائر فكر الكثير من النخب التي أغوتها حقا عقدة النفط ضمائرها التي أسقطها على من يتهمه بضدها فإن الأمر بات بحاجة إلى إضاءات لا بد منها. لذلك فسيشمل كلامي النص والتعليقات التي بينت ضمائره بملاحظات أغلبها في شكل تساؤل أكثر مما هو في شكل جواب لأن قصدي هو السعي إلى فهم هذا المرض العضال الذي أفسد كل شروط السعي لتوحيد الأمة. فلست ممن يحاول تغذية الحزازات بين العرب بأي حال تلك العلاقات التي تكاد تنحصر منذ ثلاثة عقود في تنافس النخب العجولة وخاصة أصنافها الأكولة إلى حد فقدان الشهامة والأنفة للحفاظ على عقود حتى ولو بالتخلي عن الرجولة: النص والتعليقات التي غاية مضمونها ما رمز إليه القول بأن المصاب بعقدة النفط يشبه السائل المتسيد أو الجائع الجاحد الذي يبصق في الصحن بعد أن يشبع.
وليس كلامي عن هرمينوطيقا ما وراء موقف واو الجماعة ومؤيديه من المعلقين على نصه مجرد تهويل بل هو وصف للأمور التي نحاول تحليلها قبل تأويلها من خلال صياغة بعض الأسئلة حول موقف واو الجماعة الذي يتهم كل العرب بالمجاعة والحقد إلى أصحاب الفضل حسدا وغيرة. وطبعا فكل من يفهم التاريخ يعلم أن هذا الكلام لا يقوله إلا من يرضى بسقط البضاعة من مفكري الانحطاط.
السؤال الأول
ولنبدأ بأكثر هذه الأسئلة جذرية: فماذا يعني زعم المتكلمين باسم عرب الخليج أن هؤلاء العرب أكثر أحقية في ملكية ثروة ما تحت الثرى في الخليج من العرب الآخرين؟ أليس ذلك معناه أن المتكلم ينفي أن يكون العرب أمة واحدة ؟ أم هل يكون مجرد الفرق في المقام الجغرافي قربا وبعدا من آبار النفط كافيا لجعل بعض العرب أولى من البعض الآخر بالثروة القومية ؟ ولكن عندئذ كيف يحق لأي خليجي من غير منطقة الآبار مثلا أن يكون له نصيب في ما يستخرخ منها من الأخيار خاصة وقد يسعى الأعداء أن يفعلوا ببلده ما نراهم يفعلونه بالسودان للتفريق بين السكان وتوزيع الثروة بحسب معيار وحيد لا يتجاوز المكان ؟ ألا يعني أصحاب هذا الكلام أنهم يعتبرون الانتساب إلى الأمة العربية مجرد وهم وأن كل قطر أمة بمفرده لا يربطه بالأقطار الأخرى إلا ما هو أقل مما يربطه بمن يقاسمونه اغتصاب كل الحقوق بكل عقوق ؟
كيف يزعم واو الجماعة عندئذ بأن الخليج هو أصل العروبة وينسب إليه تحمل العبء الأساسي في حروب التحرير بل وحتى في ثورة التنوير مستشهدا برأي الجابري في تقدم الثورة الوهابية فيه على الثورة الفرنسية بالزمان والشرف لكأن الأمرين يقبلان المقايسة ؟ وهبنا سلمنا بأن هذه المقارنة ليست مجرد مبالغة في الإطراء سببها الطمع في رشاوى الأمراء وهبنا سلمنا بأنها لا تفسد معاني الأشياء فتخلط بين الأرض والسماء ألا يكون التسليم بها دالا على أن هذه الثورة تستمد أهميتها ومنزلتها من الإيمان بوحدة أوسع من الوحدة العربية أعني وحدة الأمة الإسلامية؟ فيكون الجميع عندها في سراء التاريخ وضرائه سواء.
كيف يحصر واو الجماعة ملكية الثروة الإسلامية (إذا قبلنا بالثورة المزعومة وقيسها على الثورة الفرنسية التي هي ثورة عالمية ذات أسس فلسفية وليس حركة فقهية تريد العودة بالاسلام إلى الجاهلية لسوء فهمها لثورة أكبر فلاسفة الحضارة الاسلامية قصدت ابن تيمية) في المستفيدين منها بالحماية الأمريكية وحدهم إذا كان فعلا يؤمن بالأخوة الإسلامية فضلا عن الوحدة العربية؟ هل نسي ما قال شاعر الأندلس في الهر الذي يحكي صولة الأسد فأصبح يتصور أي إمارة أو مشيخة أو حتى دولة عربية سواء كانت آسيوية أو افريقية أهلا لاسم الدولة: فجميع الاقطار العربية في الهوى سواء لا حول لها ولا صولة فكيف نزعم أنها أهل لأن تسمى دولة ؟
السؤال الثاني
ونفس السؤال الجذري نعيد طرحه من المنظور المقابل: ثم ماذا يعني زعم العرب غير الخليجيين في المقابل أن لهم حقا في ملكية ثروة الخليج لا يقل عن حق عرب الخليج؟ أتكون هذه الدعوى مجرد وهم ناتج عن الحسد والطمع كما يزعم مؤيدو واو الجماعة المفصحين على ما فيه من رقاعة إذ يتصورون العرب الآخرين يعانون من المجاعة ونكران الجميل ضربا لسلوك الفلسطينين في نكبة حرب الخليج الثانية مثالا عن هذا النكران المزعوم ؟ هل كل العرب غير الخليجيين من السخف بحيث يتصورون الخليجيين سيقاسمونهم ما عندهم من مال بمجرد السؤال؟ أليس موقفهم علته أن الجميع يعلم أن هذا المال إلى زوال إذا لم يستعمل أحسن استعمال في تكوين الثروات البديلة بالتكامل بين أقطار الوطن؟ أليس لأنهم يخافون بأنه إذا ظل رهن إشارة أمريكا فإن الخليجيون أنفسهم غير مالكين فعلا. فسيطرة الحامي الذي يستطيع بقرار الطاغوت السياسي أو بقرار الطاغوت الاقتصادي أن يخفض الأسعار مباشرة أو بإنزال قيمة الدولار أو حتى تجميد كل الرصد في بنوكه وعلى أرضه ؟
أليس من السخف الزعم بأن دبي هي سنغفورة العرب وهي بالضبط عكسها تماما لأنها مستعمرة بأربع معان للكلمة: بسكانها (هنود) ومديري أموالها (بنوك الغرب) وناصحي حكامها (إنجليز وأمريكان) وحماة حياضها (القواعد الأمريكية والأوروبية) ؟ فسنغفورة الصينيين تسهم مع تايوان في تمويل الثورة الصناعية الصينية فتؤدي دور قوارير الحجام التي تمتص دماء النظام الرأسمالي الغربي لتضخها في اقتصاد الوطن الأم وسنغفورة العرب تؤدي نفس الدور ولكن في الاتجاه المعاكس: تمتص دم العرب لتضخها في اقتصاد النظام الرأسمالي الغربي عامة والإسرائيلي خاصة.
ثم ألا يحق للعرب جميعهم أن يذكروا بصلتهم بالأرض العربية صلتهم التي هي ربما أكثر ثبوتا من صلة المقيمين فيها؟ فنسب أغلب عرب أقطار الوطن إلى القبائل العربية التي غادرت الجزيرة والخليج للفتح أكثر صحة من كل الأنساب الأخرى إذ إن الهجرة كما هو معلوم تفرض شيئا من حفظ الذكرى. وحتى من استعرب من الأمم التي أسلمت فإنهم ذوو حق في الملكية المشاعة للحزيرة لأنهم جند الله وجند الأمة الذين جعلوا الجزيرة عاصمة العالم الإسلامي الروحية إلى يوم الدين فحموها وصانوها بما أحاط بها من حمى لئلا يصل إليها الأعداء إلا مرورا على أجسادهم: إنها أرض ينطبق عليها حكم عمر بن الخطاب في سواد العراق ! وهذا الحكم ينبغي أن ينطبق طوعا أو كرها وقريبا ستزول الحماية الامريكية ! فلا يحق لأقلية أن تعبث بكل مستقبل المسلمين الذي قد تتقاسمه القوى الأربع الصاعدة مع أمريكا إذا لم يتحد العرب ويحموه بقوتهم التي تصبح قوة لا تقهر: الصين والهند وروسيا وأوروبا
أيكون استقرار هؤلاء الجند عربا كانوا أو مستعربين بفضل الإسلام استقرارهم في الثغور مفقدا إياهم الحق في موروث الجذور موروثهم الذي لولاهم لصار كالهباء المنثور تتلاعب به الامم الطامعة كما نراهم اليوم بعد أن فصلت أقطار الوطن العربي بعضها عن بعض فلم يعد أحد يتنادى لحماية البقية ؟ لولاهم لكان الخليج أهوازا جديدة ولحصل للضفة الغربية من الخليج ما حصل للضفة الشرقية منه !
لولا الأمصار العربية التي خاضت الحروب وأهدرت ثرواتها ودمائها في حماية البيضة هل كانت الجزيرة تبقى عربية خالصة أم كانت تعود إلى مصير المحميات المناذرية والغساسنية ؟ هل يفقد الجندي المرابط في مكان الفتح لحمايته وحماية الرسالة والوجود التاريخي المادي والرمزي للأمة هل يفقد الحق في مكان الانطلاق فيزعم القاعدون فيه والمخلفون من الأعراب الذين لم يفزعوا للفتح أنهم أولى بما فيه ويصبح "المخلدون إلى التراب" هم الأبطال والأبطال هم السائلين الجاحدين كما يزعم هذا المعلق الأحمق ؟
السؤال الثالث
لن نقبل وضع المشكل في هذا المستوى الجذري فنسلم بقابلية حق الملكية والأهلية في الاستفادة من الثروة النفطية أمرا قابلا للنقاش أو للتشكيك: فهو كما قلنا حكم صدر من الفاروق على كل ثروات دار الإسلام وليس على الخليج فحسب. لكننا سنسلم جدلا بموقف "واو الجماعة" والمعلقين الذين حصروا الأمر في حسد المعانين من المجاعة للفائزين بمجون الخلاعة والمستبدين بثروة الجماعة بحماية من عضاريط الساعة أمريكيين كانوا أو إسرائليين. فإذا صح الجواب البديل من أوهام واو الجماعة في السؤالين الأولين ألا يصبح عندئذ وصف موقف العرب من غير الخليجيين من عرب الخليج بالجحود جراء عقدة النفط من السخافات الدالة على البذاءة الخلقية والرداءة العقلية ؟ ألا يكون المصاب بالعقد النفطية هم المستحوذون على الثروة الخليجية التي هي عربية وإسلامية ومبددوها في مشروعات تخدم أعداء الأمة والإسلام أكثر مما تخدمهما بل وأكثر مما تخدم أهل الخليج أنفسهم إلا إذا حصرناهم في حفنة المستفيدين وخدمهم ؟
لن نفهم الكلام على الجائع الذي يبصق في الصحن كما زعم واو الجماعة قاصدا كل العرب من غير الخليج ! والمتسول المتسيد! إلا إذا صدقنا وهمي واو الجماعة ومؤيديه من المعلقين لا البديلين اللذين يؤمن بهما كل عربي وكل مسلم حتى ولو لم يكن قائلا بحكم الفاروق في سواد العراق. إذا كان كل قطر أمة بذاتة وكان القاعدون أولى من الفاتحين بثروة قاعدة الثورة الإسلامية أعني قلب الوطن العربي بجناحيه المشرقي والمغربي كان كلام واو الجماعة مصيبا ! وهو في الحقيقة مصيبة !
ولكن هب ذلك صحيحا أفيكون من الحكمة وحسن التصرف الاقتصادي أن يعتبر الإنسان الخليجي الذي يزعم المعلقون أن الله حباه برزق لا ينبغي أن يسحده عليه حاسد استثمار ماله صدقة يمن بها على أهل المكان الذي وقع فيه الاستثمار؟ فها هي أمريكا تستثمر في الهند والصين وقبل ذلك في أوروبا التي وظفت لها مشروع مارشال فهل اعتبرت ذلك صدقة أم استثمارا من أجل مستقبل الجميع ومصلحة أمريكا قبل مصلحة من هم أعداؤها بالقوة وليسوا أخوة لها كما هي حال العرب مع الخليج ؟
بل أكثر من كل ذلك فلو اعتبرنا الكوادر العربية (من الكنانة والشام وفلسطين ولبنان والأردن وتونس والمغرب والجزائر إلخ...) التي استعملها أهل الخليج إلى أن بلغ النكران حد استبدالهم بغير العرب والاحتماء بالامريكيين لو اعتبرناهم كوادر خليجية وحسبنا كلفة تكوينهم أكان ذلك يكون دون ما يمنون به على أهل هذه البلاد؟ أم إن تكوين الرجال لا يتطلب استثمارا ومالا؟ فإذا أضفنا إلى ذلك الاستغلال البشع وسوء الاستقبال بالقياس إلى الأجانب الذين لا يؤدون خدمات أفضل من أمثالهم من العرب بات الذي يمن أكثر استفادة من الذي يمن عليه.
السؤال الرابع
هل يصح موقف المتكلمين باسم الأقلية المستبدة بثروة الخليج -والشعب العربي في الخليج من ذلك براء-المتكلمين الذين يمثلهم واو الجماعة ومؤيدوه الشارحين لمقاصده بغضب مالك النعمة من ناكرها بسبب الحسد فيصح وصف الموقف بالحكمة الشعبية خيرا تعمل شرا تلق أو اتق شر من أحسنت إليه ؟ هبنا كذلك فرضنا صحة وهمي واو الجماعة وخطأ البديلين اللذين يرد بهما العرب من غير أهل الخليج أفيكون الخليجي الذي يتكلم باسمه واو الجماعة (كلاما لا يقوله مواطن خليجي حقيقي له محتد عربي أصيل) محقا في تفسير ما يزعمه من كراهية عند العرب الآخرين بالحسد ونكران النعمة ؟ أي فرق بين هذا الكلام وكلام جورج دابليو بوش الذي يزعم أن العالم يكره الامريكان لأنه يكره الحرية ويحسدهم على ما هم فيه من رفاهية- علما وأن فضل أمريكا على العالم أكبر بكثير من فضل أي نظام عربي يرمي الفتات لمن به يقتات من الطواغيب والغلاة !- وليس لظلم لحق بهم من أجل تلك الحرية والرفاهية على حساب البشرية ؟
فإذا كانت القلة الخليجية المستبدة بثروة الأمة الحالية لا تحرم العرب الآخرين فقط بل وكذلك شعبها في قطرها سواء كان "ب... أو بدون" فكيف يمكن له أن يزعم أن سلوكه سوي وأن العداوة المزعومة هي بسبب الحسد ونكران الجميل؟ هل وظف هؤلاء القلة فعلا مالهم في البلاد العربية فوقع التنكر لهم كما يزعم أحد المعلقين مشيرا إلى تونس بالذات ؟ وهل من شروط توظيف المال في البلاد العربية أن يصبح أهلها عبيدا وبعض الفتات لا يمول إلا في الفنادق والموبقات ؟
بل أكثر من ذلك هل توظيفها حتى في بلادهم توظيف اقتصادي منتج حقا ؟ أم هي تصرف في رفاه مادي عديم المعنى والفائدة الاقتصادية لأنه يستهلك الثروة الحقيقية ولا ينتج إلا الورق وفي عمران لا يعمره أهل البلد وهو سيصبح رميما عند جيل الأولاد قبل الأحفاد بعد أن يفرغ جوف الأرض من الزيت والغاز ؟ أم هي تعطى سيولة لبنوك أمريكا وأوروبا بنوكهما التي هي بنوك اللوبيات اليهودية في النهاية ثم نتساءل عن سر قوة إسرائيل ؟ ماذا لو زعم الواحد أن أفقر الدول العربية من التي تعتمد على عمل ابنائها يمكن اعتبارها اغني من الخليج كله وليس من القطر الذي يتكلم باسمه واو الجماعة إذا قصدنا الثروات الحقيقية ولم نقتصر على السيولة التي يمكن أن تصبح مجرد أصفار: فقد ينهار الدولار أو تنحط أسعار البترول فلا يبقى إلا الدارس من الآبار والآثار !
ثم ما هذه السخافة التي يمن بها الجميع على مصر التي لولاها لكان الخليج كله مجرد مستعمرة شاهنشاهية يمن عليها بإيقاف تصدير النفط وتمويل الحرب التي أرجعت للعرب كرامتهم وأدخلتهم التاريخ المعاصر من بابها الأوسع أعني محاربة ذروة العسكرية الغربية ؟ أليست الكويت وغيرها من الجزر العربية نفسها مدينة بوجودها لغلطة استراتيجية وقع فيها عبد الناصر في حين أنه كان بوسعه لو كان ذا افق استراتيجي أن يعمل بتوافق مع العراق والسعودية واليمن ليحولوا دون نشأة هذه الدويلات المجهرية التي جرت واحدة منها كل النكبات العربية فحالت دون الأمة وتوظيف الثروات العربية في بناء مستقبل شعبها لتستعيد قيادة العالم الإسلامي فتسهم في توازن العالم لما لها من أهلية لتكوين القطب الذي يمكن ان يعدل انخرام التوازن فنكون فعلا على الأمم شاهدين؟!
أليس ما درته الحرب من زيادة في أسعار البترول يساوي مئات الأضعاف من الفتات الذي تعطيه قيادات فاسدة لرشوة قيادات لا تقل عنها فسادا في الحركات الفلسطينية والأنظمة العربية من أجل إسكات صحافتها الأجيرة مع توافق تام بين المافيات على إهمال الشروط الحقيقية للنهضة العربية والصحوة الإسلامية ؟ هل يمكن أن يعتبر تمويلا مفيدا تمويل بعض الاستثمارات السياحية في بعض البلاد العربية لمتعة بعض الأمراء في رحلاتهم الصيدية خلال العطلة الصيفية ؟
السؤال الأخير
لا يمكن أن نفهم وصف الأمر بعلاقة العُقد في نفس الأمة إلا بكونه دليلا على خواء عقل مثل هذه النخب التي تتصور وحدة الأمة مجرد شعار وتكتفي بالأفق القبلي فتنظر إلى مآزق الأمة بعين من يرجعها إلى نزوات نفسيه بين شعورات بدائية ؟ لا يمكن لمن يصف الظاهرات الجماعية بمصطلحات علم النفس الا يسلم بأنه ينقل قوانين السلوك الفردي إلى السلوك الجمعي نقلا تأويليا ضرورة لافتراض القياس الضمني بين الظاهرات النفسية الفردية والظاهرات النفسية الجمعية. ومن ثم كان عليه أن يتأكد من التطابق عند النقل. فهل العقدة المزعومة هي عقدة أولا وعقدة ناتجة عن حسد يؤدي إلى الحجود ثانيا أم هي فعلا وعي حاد بضرورة السعي الموضوعي لتخليص الثروة العربية من سوء التصرف الاقتصادي واستعمالها لتحقيق الثورة العربية الإسلامية شرط المستقبل العربي والإسلامي المتخلص من الاستبداد اللاعقلاني لتسيب الغرائز البدائية عند أقلية تعاني منها كل الأقطار العربية والإسلامية حتى وإن طغا وجهها الخليجي.
ولما كان الداء واحدا في كل الأقطار العربية وإن اختلفت النسب بحسب الثروات السائلة سهلة النهب فإن أهل الخليج قبل العرب الآخرين لا يقلون معاناة وخاصة منذ أن اكتملت الصورة الآن وأصبح الخليج مستعمرة مباشرة للجيوش الامريكية التي عليهم أن يصرفوا على استعمارها لهم بدعوى حمايتهم من العرب الآخرين: وهي في الحقيقة لا تحمي إلا المستبدين ضد شعوبهم ويصدق ذلك على كل أقطار الوطن من الخليج إلى المحيط. وكان من المفروض أن تحرر الثروة قبل فوات الأوان أهل الخليج قبل البلاد العربية الأخرى التي قد يعلل عملاؤها ما يتميزون به من الخنوع بضرورات الشعب الذي جعلوه يتضور من الجوع؟ هل كان العراق يحارب أحدا من أجواره العرب لو لم يلجئوه إليها بعد أن أذابوا منه الشحم واللحم فوصلوا إلى مخ عضامه وغرسوا في الرغام ذروة سنامه؟
إن الموقف الذي يعلق عليه "واو الجماعة" ليس مقصورا على غير الخليجين من العرب بل إن جل الشعب الخليجي يشعر بأن ثروات الخليج تبدد في الاستعمال الاستهلاكي الذي لا ينتج ثروة حية ذات قيام فعلي يمكن ان يحقق الاستقلال لأصحابه فضلا عن كونها في خدمة أعداء الأمة بحكم طبيعتها السائلة ونوع التصرف فيها. ولعل أخطر استعمال هو ما صار شبه موضه حاليا: رشوة المثقفين من الحزبين العلماني والأصلاني وإفسادهم ليصبحوا كدائي بلاط وشهداء زور حول كل ما يدور من شؤون الأمة.
فلا أتصور واو الجماعة متكلما باسم الشعب في الخليج بل هو ناطق باسم مستعبديه من المحتمين بأمريكا حتى صارت بلادهم قواعد فاقت إسرائيل ولاء لأصل الداء (وهذا عام على كل البلاد العربية لان النخب الحاكمة فيها من نفس الطينة). وأيا كان نسبه وباسم من يتكلم فأني لا أتصوره قادرا على نفي الأمرين التاليين:
فلا فقراء الخليج بالأقلية ولا المستبدون بالثروة فيه بالأغلبية. إنهم لا يتجاوزون بعض الأمراء ومن اختاروه ليكون في خدمتهم من مافيتي السيف (العسكر الذي يحميهم) والقلم (علماء السوء والصحافيين المأجورين الذين يدعون لهم بطول العمر). وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل إذ يكفي أمران لاثباته:
1- بطالة جل شباب الخليج إما طوعا بسبب عدم الحاجة إلى العمل أو كرها لاستيراد البديل الأرخص.
2- وازدهار التطرف إلى حد يراه حتى أعمى البصيرة: والتطرف بمعنييه تنكرا لقيم الأمة أو غلوا فيها.
أما ما يزعم من تمويل حركات الجهاد فهو قسمان: بعضه صادق ويعبر عن نفس الغضب الذي نصف بدليل دوره في الجهاد الفعلي وبعضه الآخر من جنس درء البلاء باشتراء الذمم فضلا عن التعويض عن العمالة لأعداء الإسلام أو والتستر عنها باخراج الزكاة إلى غير وجهتها. ثم إن الزكوات ليست كلها حلال. فالكثير منها حرام ما دامت تزكية لمال حرام لا يقبل التزكية. ذلك أن المرء لا يملك حقا إلا ما كان ثمرة لعمله أو لعمل آبائه. وبهذا المعنى فكل المال العربي الخليجي ليس هو حق الخليجيين وحدهم ولا حتى حق العرب والمسلمين وحدهم بل إن كل من جعله بجهده العلمي والعملي ثروة ينبغي أن يستفيد منه من خلال حسن التصرف فيه بما في ذلك الغرب الذي اكتشف كل الحضارة الحديثة التي من دونها لا يكون البترول ولا الغاز ثروة. فكل ثروة ينبغي أن يكون للعاملين عليها نفس الحقوق لأنها ثمرة الجهد الذي جعلها تصبح مالا. ولولا الاكتشافات التقنية التي تحتاج إلى زيت الحجر لما صار في مرتبة الذهب سيان عند أهل الوبر أو أهل الحضر. وهو من دون مستخرجيه ومحوليه ليصبح عصب الحياة الحديثة لكان مجرد زيت حجر كما كان طول الدهر.
ثم إن الثراء الخليجي إذا ظل على ما عليه الحال يعد ثراء زائفا لأنه لا يخلو من أحد أمرين كلاهما ليس ثروة حقيقية. وليس لكونه زائلا فحسب بل لعلتين أخريين. فهو أما سيولة في البنوك الغربية ومن ثم فيمكن بجرة قلم أن يجمده أي حاكم غربي أو هو خدمات عامة (كالاتصالات والمواصلات بين أوروبا وآسيا) أو خدمات متعة خاصة (كالفنادق وتجهيزات السياحة في العالم العربي أو خارجه أو عمران مستورد في مدن ليس فيها شيء عربي حتى العقال والدشداسة) وكلتاهما لا يقبل عليها الناس في مناخ الخليج إلا بسبب البترول الذي هو إلى أفول بمجرد أن يزول. لن تجد من يأتي ليتسوح أو يتسوق في رمضاء الإمارات بعد نضوب ما يسيل له لعاب الغربي ماء. لن يوجد بعد ذلك وكلاء ولا عملاء ولا نزلاء ولا ظرفاء. لن يبقى الا الخواء ورمضاء الهواء.
لذلك فالموقف من ثروة الخليج ليس موقفا ناتجا عن الحسد أو عن الجحود بل هو ناتج عن الغضب للحق والإيمان بوحدة الأمة بداية وغاية والخوف من الفرص الضائعة التي باتت من شيم العرب: ذلك أن ما يعجب له المرء هو فقدان من يزعمون أهل حل وعقد لكل طموح تاريخي وبيدهم ما يمكن من توحيد الأمة في لمح البصر بمجرد أن تكون لهم بصيرة. كيف يستطيع رجلان بعد حربين عالميتين أن يوحدا أوروبا ولا يوجد أدنى رجل عربي رغم ما لديهم من إمكانات وما يوفره العصر من وسائل التوحيد فيفتتون حتى الأقطار فضلا عن السعي إلى توحيد الأمة العربية ناهيك عن الأمة الإسلامية ؟
فما يبذر من الثروات دون تفكير في شروط ضمان مستقبل العرب والمسلمين عامة والخليجيين خاصة يثور له حتى من ليس له علاقة بالعرب والمسلمين من ذوي العقول السوية. فهو جرم في حق الانسانية وليس في حق العرب والمسلمين أو الخليجيين وحدهم. فأنت ترى بعض المدن الخلجية ذات عمارة تفوق عمارة مدن أوروبا لكنها كلها قصور على الرمال لا تدل إلا على فقدان التدبير والتفكير: فلا شيء فيها هو من انتاج بنية اقتصادية أو تقنية أو علمية أو تأهيل بشري نابع من البلاد بل الكل مستورد بمن فيه الساهرون على تسييره. ولعل الجملة التي استشهد بها واو الجماعة ورمز البشاعة من مقالي كانت ناقصة فلعلي نسيت أن أضيف أمرين آخرين: قد يبقى بعد ذلك وراء البطن والفرج استعمال الجوال في ساعات التشات واللهو بالهرج الذي يضطر إليه شباب مدلل إلى حد التحلل أو شباب ناقم إلى حد التهديم الذاتي في ثورات قد تعود بالأمة إلى عصر طالبان. فإذا حلت دون الشباب وحياة الجد فإنك تزج به في البطالة وموات الهد !
بعض الخليجيين ممن استبد بالثروة والسلطة مترددون بين استعمال الجديد وتوريد المزيد. أما الأغلبية سواء كانوا من هم "ب.". أو "بدون.." فهي لا تبدي ولا تعيد لأنها لم تخرج من عصر الثريد والقديد كغيرها من أغلبية شعوب العرب والمسلمين المعرضين للفقر والتشريد بتآمر الطغاة ممن يدافع عنهم أمثال واو الجماعة ممن نسى حساب الساعة. كلا! من قال ما أشار إليه في نصه ليس بحاقد ولا حاسد ولا جاحد. فليس يوجد ما يحقد عليه ولا ما يسحده ولا ما يجحده إذ هذه الثروة المزعومة فضلا عن كونها أقل من ثروة بعض الشركات المتوسطة في الأمم العظيمة التي تستمد ثروتها من عقولها لا من دفائن صحاريها فإننا نعلم منذ الفصل الأول من خامس أبواب المقدمة أن الثروة الحقيقية هي عمل الإنسان لا ما يمن به المكان للإنسان الكسلان وحاميه النعسان وناصحه الخرفان الذين يتعاقب عليهم التجشوء والتثاؤب.
إنه ينسى ما تعاني منه الأمة الإسلامية من إدقاع فيحتج بعلم نفس متخلف هو عين سقط المتاع ! ثم يأتي بعض العبيد من علماء الأمراء ليتكلموا عن كرامة الرسول واحترام الإسلام ! إن أمثال هؤلاء المسلمين هم أكثر الناس تشويها لمحمد والإسلام: إذا كان الصليب الأحمر هو الذي يسارع للتصدي للمجاعات والعاهات والنكبات التي نصيب الأسد منها مقيم في أرض الإسلام فمن يا ترى يهين محمد هذا الصحفي المغمور أو بناة الناطحات والدور؟
ثم يزعم واو الجماعة أنه صار ندا لهيكل يرد آراءه ويسخر منه في حين أنه لا يستحق حتى أن يجلس أمامه للتعلم منه ثم يحقر شارحوه من المعلقين من كل من يرفض أن تستحوذ قبيلة أو قٌطر على أخيار العرب لمجرد أنهما قعدا في المكان وتخلفا عن رسم خط الزمان الذي صنع تاريخ العرب والمسلمين في إيصال الرسالة إلى العالمين: إن نسبة الثروة الطبيعية في الجزيرة إلى كل الشعوب العربية والإسلامية هي عينها نسبة الثروة الرمزية. وقد لا يجد من الغرابة أن يزعم واو الجماعة أن مكة والمدينة ملك القطر السعودي أو إحدى قبائل الخليج ولست هبة مشاعة لمسلم الجماعة؟ إن الذين حموا مكة والمدينة بتوسيع دار الإسلام هم عينهم الذين حموا الثروات الطبيعية في كل البلاد العربية والإسلامية رضي بذلك واو الجماعة ومؤيدوه من المعلقين أم أبوا !
وقد خرب حضارتنا هذا السلوك البدائي الذي يحصر الحياة في الاستهلاك فلا يستعد إلى ما آت ولا يتعلم مما فات. وقد عرفت حضارتنا ذلك مرتين. فكانت مصدرا لنكبتين. الأولى عاشها العرب عندما تكونت امبراطورية الإسلام. تصرفوا بهذا الغباء فأصبحوا هباء مجرد كائنات تعيش للأكل والجنس تاركين الدولة للموالي والخدم والعبيد إلى أن ثار عليهم كل هؤلاء فأصبحوا هم العبيد في المشرق والمغرب على حد سواء. ثم عمهم الجهل فعادوا إلى البداوة طيلة عقود الانحطاط.
والثانية عاشها من اختلط دمه بدم العرب من سكان أوروبا فقلدهم في هذا السلوك الكسول الذي يتردد بين الأكل والجماع والبول حتى لو عاش على الفول. كذلك فعل الاسبان لما فتحوا أمريكا. فهم قد عاشوا على استهلاك ذهب امريكا إلى أن بددوه بخلاف سكان أوروبا الآخرين الذين كانوا يجدون ويكدون. فوجد الاسبان أنفسهم في آخر الركب الأوروبي وأصبحوا قريبا من "أغنياء العرب" في التخلف والكسل والنفاق والدجل.
ليس العيب في الخليجيين بل في كل أغنياء العرب من أمراء بالمعنى التقليدي أو أمراء الحرب من غير حرب من الضباط الذين استولوا على الحكم والثروة في بلاد العرب والمسلمين (فالشعب الخليجي محروم حتى من حق الجنسية حصولا وبقاءا !) هو الذي يتعامل مع الحضارة على أنها بضاعة تستورد. فلا شيء يدل على أن هؤلاء المستبدين بالثروة والحكم في بلاد العرب من الخليج إلى المحيط عرب أو مسلمون أو وطنيون: لا وطن لهم غير حسابهم من المال الحرام في بنوك مافيات الإجرام من لقطاء العم السام. إنما هم جميعا عبيد الدولار واليورو ويستعدون للرحيل بمجرد أن يستنفدوا آخر قطرة من ثروات البلاد وعرق العباد !
جميعهم ينوي أن يفر إلى حيث ادخر! لكنهم لن ينزلوا أهلا ولن يحلوا سهلا. سيرون كما رآي حركيو الجزائر وكل عملاء المستعمرات-من فياتنام إلى كل بلاد إفريقيا والعرب- الذين غرهم الاستعمار فرحلوا معه فجازاهم برميهم في المعازل والمزابل. عندها يكتشفون حقيقة ما اقترفوه في حق أوطانهم من مآس ومهازل ! لذلك فإن واو الجماعة الناطق باسم الخلاعة كان عليه أن يكون أكثر ثورة على ما يجري ممن اعتبرهم يعانون من العقدة النفطية لأنه إن كان عربيا حقا وليس من مافية الصحافة ذات المصدر المعلوم سيكون من أوائل الضحايا إن لم يكن هو فأولاده أو أحفاده فضلا عن مصيره يوم لا ترجى لمثله شفاعة !
08-أيار-2021
02-آب-2008 | |
01-تموز-2008 | |
19-نيسان-2008 | |
07-نيسان-2008 | |
01-نيسان-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |