خواطر من أيام اللدراسة الثانوية
مديحة المرهش
خاص ألف
2017-12-09
أن تكتب يوميات شيء بعيد تماماً عن كتابة المقالة أو النقد الذي يمتلك أسساً ومناهج طبعاً إضافة إلى رأي الكاتب الشخصي. كتابة اليوميات تتطلب كماً كبيراً من المساحة التي تحتل زاويتها العلوية، الحرية و الشجاعة، لأنك ستسجل بشكل ما ما يحصل معك أو مع المحيطين بك من أحداث، أو ما تشعر أو تفكر به اتجاه ذلك، فتُظهر دون وعي منك، جزءاً من شخصك و شخصيتك. لأنك تسلط الضوء على بقعة تراها أنت دون غيرك.
بعد الحرية، و الشجاعة، تأتي أهمية عينك التي تلتقط ما تراه لتسجله والعين لا تكون مجردة بل ترافقها أحاسيس و مشاعر مختلفة. المهم في اليوميات ـ كما أرى ـ أن تسجل شيئاً ما تعتقد أنه يستحق التسجيل، ليس بالضرورة رائعاً، ولكنه ملفت. شيئاً مختلفاً عمّا يحصل لك و معك كل يوم من أشياء روتينية تحصل للجميع.
حين كنّا في المرحلة الثانوية طلبت منّا مدرسة اللغة العربية ـ نوال أبو سمرة ـ و كانت مدرسة قديرة و كفؤ بكل ما تعني الكلمتان أن نكتب يومياتنا على دفاتر خاصة و منفصلة عن الدفاتر الرسمية. وقالت يومها بأن هذا الطلب ليس طلبها هي إنما جاء من وزارة التربية. و لا أعرف إلى الآن إن كان ذلك صحيحاً أم هو اختلاق من بنات أفكارها كي تقوي لغتنا و تجعلنا نخرج عن المألوف و لتعرف مكنونات دواخلنا.
ولأننا كنا جميعنا نحبها، و دون أن نجادل تزاحمنا، المجدة فينا والكسولة، أمام المكتبة التي كانت مواجهة تماماً لمدرستنا، لننتقي و نشتري دفاتر جميلة و أغلفة مميزة فقط لنثير إعجابها و نكسب حبها.
سارعنا و تنافسنا في كتابة يومياتنا، و كانت لا حصة للغة العربية دون أن تمر و لو قليلاً، وتقرأ عيناها بسرعة البرق ما كتبنا بنهم وحب . وفي كل المرّات كانت تقف حبة زيادة عند يومياتنا أنا وزميلة لي في الجهة الأخرى واسمها سهير لطفي لتقرأ ما كتبنا. كنت أخشى دائماً من أن تميل كفة هذه السهير لأنها كانت جميلة بشكل ملفت فتحبها أكثر مني أو تنحاز و تقف ثواني أطول عند يومياتها . لكنها لم تفعل ذلك يوماً بل كانت دائماً تخصني بنظرة خاصة بطرف عينها فأشعر بالتميز و الاعتزاز إلى أن جاء يوم أمعنت النظر في كلماتي وقالت لي: هذا الذي تكتبين ليس يوميات إنه شيء قريب من الشعر . غضبت في بداية الأمر لأن همّي و هم كل زميلاتي هو إرضاء هذه المدرّسة إلى أن وقفت جانبي مرّة و طلبت دفتر يومياتي أنا دون غيري ولم تطلب حتى دفتر سهير رغم تميز كتاباتها . حين عدت إلى البيت سبقني فرحي وغطى كل الطريق الذي مشيت، فقط لأن دفتري وكلماتي ستنام في نفس المكان الذي تشغله تلك الإنسانة الرائعة التي نحبها مهما وبختنا و عاقبتنا. في اليوم التالي كان عندنا درس لمعلمتنا، فجلست هادئة على غير عادتي وأنا المشهورة بالمدرسة بأنني الأكثر شقاوة و الأقل انضباطاً. هادئة ولكنني أغلي من الداخل لأعرف تعليقها على ما يحتويه دفتر يومياتي ذاك. وضعت مجموعة الكتب التي تحملها على الطاولة، و أمسكت بدفتري و قلبت صفحاته كما يفعلون بأوراق الشدة، و قالت و هي تنظر إلي بإعجاب و تحبب: يا بنات عندنا في هذا الصف مشروع شاعرة. و بابتسامة لن أنساها طوال عمري بدأت تقرأ مقاطع صغيرة جداً وقليلة لأنها كانت دائماً حريصة على الوقت. اتجهت بعدها نحو المقعد الذي أجلس فيه و سلمتني دفتري. أحسست يومها أنني أستلم جائزة نوبل بل أهم منها وهمست لي: أنت شويعرة المدرسة.
بعد ذلك صار دفتري يتنقل بين زميلاتي في الصف و انتقل إلى الشعب الأخرى. ثم صارت صديقاتي المقربات يقصدنني لكتابة رسائل الحب والعشق مقابل أقلام جميلة أو دفاتر مميزة كأن تكون على شكل قلب أو ما شابه.
دأبنا جميعاً على كتابة اليوميات كل منّا على طريقتها. و رحت أنا بدوري أتفنن بالكتابة وكيف أستعرض عضلاتي الكتابية لألفت انتباهها وأكسب حبها.
في آخر العام الدراسي للثاني الثانوي جمعت بضع دفاتر لتحتفظ بها وكان دفتري أول الدفاتر التي جمعت وصارت تتصفح دفتري و فجأة وبخطواتها السريعة و التي كنا نقلدها في الباحة صارت إلى جانبي و يدها اليمنى تمسّد شعري وهي تفتح الدفتر على صفحة بيضاء لم أكتب فيها إلا كلمتين في الأسفل : أنا حزينة. ثم بدأت تقلب في الدفتر إلى أن قالت: اسمعن يابنات . وكانت هذه عبارتها المشهورة، وقرأت من الصفحة التي اختارتها ـ ليتني كنت شجرة لغيرت مواعيد الإثمار و الإزهار وألواني و أنا المغروسة الجذور في أرضي ولمنعت الريح من هز أغصاني دون إذني ـ تابعت بعدها وهي تشرح : اليوميات يا بناتي أن تلتقط العين أو القلب شيئاً و أن تقدمنه بشكل بعيد عن المألوف و إلا لما كتبنا شيئاً كما فعلت زميلتكم. و تركت الصفحة بيضاء إلا من بعض الحزن .
من يومها تعودت أن أسجل كثيراً من اليوميات ربما ليس في دفتر أو كراسة خاصة بل في ذاكرتي و لحسن حظي أملك ذاكرة تسجيلية لا بأس بها.
يصر البعض على ذكر التأريخ لليوميات لأنها تحدث في يوم ما في شهر ما في عامٍ ما. هذا صحيح، و لكن ماذا يهم وماذا يعني لو حدثت في السادس من كانون الثاني عام كذا أو في الثالث من كانون الأول عام كذا ؟؟ لا يهم لأنها يوميات شخصية وليست تاريخية أو سياسية أو فكرية. وهي ليست قوانين لاكتشافات علمية أو رياضية تسجل باسم صاحبها والتاريخ الذي حصلت فيه. طبعاً ممكن أن تكون هناك يوميات تتحدث عن حقبة ما و أنا لا أقصد تلك النوعية.
اليوميات تنطلق من رؤية ومشاعر و أحاسيس شخص ما اتجاه شيء بعينه. وهي تتطلب أن يكون عقلك وقلبك وعينك على قدر من الفطنة والانتباه و أن تكون على قدر من الولاء لتسجل للآخرين هموم يوميات من فرح وقلق و معاناة ليشاركوك إياها إذا وجدوا فيها ما يلفتهم !!!