ع هدير البوسطة..
خاص ألف
2018-03-31
كان ذلك في بداية الثمانينيات، حين قرر تاجر أرمني أن يهاجر فجأة إلي الولايات المتحدة، ويبيع كل محتويات بيته بأسعار زهيدة. الأمر الذي شجع أبي علي أن يشتري منه راديو فيليبس، أذكر أنه كان جميلاً ونظيفاً جداً، أما والدتي فكانت حصتها طنجرة ضغط تطبخ اللحمة بسرعة هائلة، وفرامة مولينيكس لم تكن تجيد استخدامها، ومع ذلك كانت سعيدة .
من خلال الراديو، اكتشفت الموسيقي العربية: أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وفايزة أحمد، ونجاة الصغيرة، وفريد الأطرش وشقيقته أسمهان التي انحزتُ لها، حين أخبرني أبي بحادثة موتها المأساوي وهي في ريعان شبابها. ووجدتُ الموسيقي العربية قريبة من الموسيقي والأغاني الكردية التي فتحتُ عينيّ عليها، رغم أنني لم أكن أفهم كلماتها، وكنت دوماً استعين بخالي الذي يجيد العربية بطلاقة، والذي فتح لي أبواب الأدب العربي، كونه كان يعمل في أهم مكتبة في (القامشلي)، وهي مكتبة أنيس حنا مديواية، المسئولة عن توزيع الصحف والكتب والمجلات في قامشلي وضواحيها .
الإذاعة الوحيدة التي كانت تقدم برامج غنائية وموسيقية ونشرات الأخبار باللغة الكردية، كانت إذاعة بغداد، ومنها استمعتُ للمرة الأولي لمحمد شيخو وسعيد يوسف ومحمد عارف جزراوي ومحمود عزيز وتحسين طه والمغنية الكردية الوحيدة وقتها عيشه شان، التي كُنا نبكي حين نسمع صوتها وأغنيتها المشهورة (به مال) .
كان كل ذلك، وأنا طفل في قريتي (كرصور)، وحين كبرت وذهبتُ لإتمام دراستي في القامشلي اكتشفتُ عالماً موسيقياً آخر: فيروز والأخوين رحباني، لتبدأ علاقة جديدة مع كل ما يأتي من لبنان .
في درس الموسيقي، جاء المُعلم بجهاز تسجيل قديم علي شكل حقيبة يعمل بالبطاريات، ثم ضغط بإصبعه علي كبسة صغيرة، ووضع كاسيت سانيو، وكانت هذه هي المرة الأولي التي استمع فيها إلي فيروز. كانت الأغنية رائعة وجميلة وكلماتها بسيطة تتحدث عن رحلة ركاب البوسطة، واسمها (البوسطة)، التي عرفنا ــ من المعلم- أنها من كلمات وألحان زياد الرحباني .
هذه الأغنية بالتحديد جعلتني أبحث -حين كنت في بداية تجربتي الشعرية- من خلال ركام التفاصيل اليومية عن كل ما هو مُدهش وفاتن وقريب منّا جميعاً .
»ع هدير البوسطة الكانت ناقلتنا
من ضيعة حملايا لضيعة تنورين
تذكرتك يا عاليا وتذكرت عيونك
يخرب بيت عيونك يا عاليا شو حلوين»
كما تركت هذه الأغنية ندبة جميلة في قلبي، لن أشفي منها، وفتحت لي أبواب عالم الرحابنة، وشغلهم المختلف الذي يستفيد من المنجز الموسيقي العالمي ويحافظ علي روحه اللبنانية والعربية.
في بداية دراستي، عملتُ عاملاً في مقهي صغير في سوق العتاقجية في (القامشلي)، حيث محلات تصليح المحركات والسيارات والشاحنات والحافلات. كنتُ استمتع بأصوات المطارق وهي تنهال علي الحديد بلا رحمة، وأنظر نحو الشرر التي تتطاير في السماء، وتختفي .ثم تركت العمل في المقهي لأساعد خالي حسين في بيع الخضار والفاكهة بالسوق.
هُناك ــ في القامشلي- تمتزج اللغة الكردية بالسريانية والأرمنية والعربية ولهجات أخري ليست موجودة في أي مكان مثل لهجات المحلمية والميردلية وهي مزيج من الكردية والعربية، تفوح منها رائحة حقول القمح والبيوت البعيدة في جبال طوروس وسهوب ماردين.
بعد خلاف مع خالي، غادرت سوق الخضار، لأعمل عتالاً في الميرا حيث صوامع الحبوب والشاحنات العملاقة وأكياس كثيرة وثقيلة من القمح تنتظرنا أنا وأصدقائي العتالين، هؤلاء الذين لا ظهر لهم في هذه الحياة غير ظهرهم .
في فترات الاستراحة، وتحت شمس آب الحارقة، كُنّا نُدخن ولا يلبث أن يطلق أحدهم العنان لحنجرته ويُغني، إلي أن تختلط دموعه مع قطرات العرق التي تنساب بحزن وهدوء، وتتوقف علي خده ثانية واحدة، قبل أن تسقط علي الأرض وتختلط بالتراب الساخن.
لم أتحمل حزن العتالين، ولم يتحمل ظهري أكياس القمح، رميتُ الخطاف في الهواء، وعدتُ إلي (القامشلي)، بعد أن وجدتُ عملاً جميلاً: سائق دراجة نارية، أنقل راكبين في كل مرة إلي القري الكردية. فِي الأعراس تسير عدد من الدراجات أمام سيارة العروس كنوع من الفرح الخاص خصوصا إذا كان العريس سائقا للدراجة النارية .
بفضل دراجتي النارية (هوندا)، تجولتُ في كل القري الكردية، وحضرتُ عشرات الأعراس، وحفظتُ العشرات من الأغاني الشعبية الكردية التي عن قلوب العشاق وآهاتهم ودموعهم. كل ذلك كان في مرحلة الصبا. وخلال وجودي في (القامشلي) و(كرصور) وبعد أن أنهيت دراستي الثانوية، كان عليّ الانتقال إلي حلب، حيث الدراسة الجامعية .
في حلب، مدينة الطرب أحببتُ الغناء الحلبي والأكل الحلبي والحياة في حلب والسهرات الطويلة في ليالي الصيف تحت ضوء القمر، بالقرب من القلعة .
وبحكم وجودي في الوسط الثقافي، وكنت قد نشرتُ بعض القصائد في الصحف والدوريات اللبنانية والعربية، لاحظتُ من خلال نقاشات وحوارات المثقفين اهتمامهم بالموسيقي الكلاسيكية العالمية .
طبعاً، وكجزء من الديكور الثقافي، اشتريتُ اسطوانات لباخ وبيتهوفن وكورساكوف وفيفالدي. وبصراحة لم أجد فيها أي شيء يشدني إليها.
أنا أحبُ آهات أم كلثوم. أحبُ حنان نجاة الصغيرة، وحزن فريد الأطرش، وجنون محمد عارف جزراوي، ودموع عيشه شان، وشامة سميرة توفيق، ورقص صباح، وبحة جورج وسوف. أحبُ أغاني الكراجات في دمشق وحلب والقامشلي. أحبُ المطربين الذين يغنون في الحفلات والسهرات والأعراس بعيداً عن السلم الموسيقي والمقامات. أحبُ الأغاني الهابطة ــ وفق تقسيمات المثقفين ــ التي اسميها الأغاني العالية، لأنها تُشبهنا كثيراً، وتُشبه حياتنا وأحلامنا .
كل ما حكيته، ترك أثراً كبيراً علي قصيدتي، التي ابتعد فيها عن الغموض، واقترب فيها من الناس، لأنني أكتب عنهم ولهم .
سوريا
08-أيار-2021
18-آب-2018 | |
11-آب-2018 | |
31-آذار-2018 | |
27-كانون الثاني-2018 | |
12-أيلول-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |