أَعرِفُ الطرِيق مثل حصان جدّي
مروان علي
2018-08-18
مِقَصٌّ أَلْـمَانِيٌّ يَلْمَعُ تَحْتَ شَمْسِ كَرْصُورْ
لَا أَحَدَ يَعْرِفُ مَنِ اشْتَرَى هَذَا الْـمِقَصَّ، تَقُولُ جَدَّتِي كُوجَرِي الَّتِي مَاتَتْ قَبْلَ سَنَتَيْنِ وَهِيَ فِي الْعِقْدِ التَّاسِعِ مِنْ عُمْرِهَا: — حِينَ تَزَوَّجْتُ جَدَّكَ إِبْرَاهِيمْ خَالِدْ عَلِي كَانَ هَذَا الْـمِقَصُّ مَوْجُودًا فِي خِزَانَةِ الْبَيْتِ. وَحِينَ احْتَرَقَ الْبَيْتُ الْقَدِيمُ.. احْتَرَقَ كُلُّ شَيْءٍ. وَنَحْنُ نَبْحَثُ بَيْنَ الرَّمَادِ وَجَدْنَا الْـمِقَصَّ. تَنَقَّلَ هَذَا الْـمِقَصُّ بَيْنَ أَصَابِعِ الْحَلَّاقِينَ فِي كَرْصُورْ، نِيفْ، كْيسْتِكْ، بِيرَا بَازَنْ، جَبَلْ الْغَزَالْ، سَهْ رَمْكَا، هَرَمْ رِشْ. كَانَ جَدُّكَ يَهْتَمُّ بِهِ مِثْلَ فَرْدٍ مِنَ الْعَائِلَةِ، يُنَظِّفُهُ بِالزَّيْتِ وَيَتْرُكُهُ قَلِيلًا تَحْتَ الشَّمْسِ، ثُمَّ يَلُفُّهُ بِقِطْعَةِ هِيزَارْ بَيْضَاءَ مِنْ مَالِ حَلَبْ.
لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ رَائِحَةِ الْعَائِلَةِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي هَرَبَتْ مِنْ مَارْدِينْ إِلَى الْقَامِشْلِي لِأَسْبَاٍب سَنَعْرِفُهَا حِينَ نَكْبُرُ.
مَاتَ جَدِّي إِبْرَاهِيمْ. مَاتَتْ جَدَّتِي. مَاتَ عَمِّي رَمْزَانْ. وَمَا زَالَ الْـمِقَصُّ الْأَلْـمَانِيُّ يَلْمَعُ تَحْتَ شَمْسِ كَرْصُورْ..
■ ■ ■
بيَانُو
فِي كَرْصُورْ
فَكَّرْتُ طَوِيلًا
فِي اقْتِنَاءِ بيَانُو
كَيْ أَعْزِفَ ضَوْءَ الْقَمَرِ
لِأُمِّي
وَهْيَ تُمَشِّطُ شَعْرَ
أُخْتِي الصَّغِيرَةِ..
■ ■ ■
زِلْزَالٌ
حَدَثَ زِلْزَالٌ جَمِيلٌ فِي شَوَارِعِ قَدُّورْ بِكْ.
اِهْتَزَّت الْبُيُوتُ الطِّينِيَّةُ وَالشَّوَارِعُ وَالْأَشْجَارُ فِي الْحَدِيقَةِ الْعَامَّةَ وَمَدْرَسَةِ الْكَرَامَةِ وَتَسْجِيلَاتِ صَلَاحْ رَسُولْ وَكَرَاجِ الْحَسَكَةْ وَالْقِطَارَاتِ فَي مَحَطَّةِ الْعَنْتَرِيَّةْ وَصَوَامِعِ الْحُبُوبِ حَتَّى الطَّائِرَةِ الْوَحِيدَةِ فِي مَطَارِ الْـمَدِينَةِ الْبَعِيدَةِ.
كُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِهَا.
حَينِ رَكِبَتِ الدَّرَّاجَةَ الْهَوَائِيَّةَ وَارْتَفَعَتْ تَنُّورَتُهَا الصَّيْفِيَّةُ الرَّقِيقَةُالْـمُطَرَّزَةُ بِالْأَزْهَارِ وَالطُّيُورِ.. رُبَّمَا هِيَ مَارِلِينْ مُونْرُو، رُبَّمَا هِيَ شَمْسْ الْبَارُودِي، رُبَّمَا هِيَ هُولْيَا أُوفْشَارْ. كَانَتْ هِيَ الْـمَرَّةَ الْأُوْلَى الَّتِي نَرَى فِيهَا آلِهَةً إِغْرِيقِيَّةً فِي شَوَارِعِ قَدُّورْ بِكْ، كَانَتِ الْـمَرَّةَ الْأُوْلَى الَّتِي نَرَى فِيهَا امْرَأَةً مِنْ شَمْسٍ وَعِطْرٍ تَرْكَبُ دَرَّاجَةً هَوَائِيَّةً.
وَفَجْأَةً، رَمَتْ دَرَّاجَتَهَا قُرْبَ شَجَرَةِ التُّوتِ وَدَخَلَتْ مِنَ الْبَابِ الْخَلْفِيِّ لِلْبَيْتِ. وَحِينَ رَكَضْنَا خَلْفَهَا لَمْ نَجِدْ شَيْئًا؛ لَا الْبَيْتَ، وَلَا شَجَرَةَ التُّوتِ، وَلَا الدَّرَّاجَةَ. لَمْ نَجِدْ سِوَى رَائِحَةِ امْرَأَةٍ جَمِيلَةٍ وَشَهِيَّةٍ سَنَظَلُّ نَبْحَثُ عَنْهَا كُلَّمَا ذَهَبْنَا، دُونَ جَدْوِى، إِلَى مَدِينَةٍ.
■ ■ ■
وَيَرْكُضُ
وَفِي هَذَا الصَّبَاحِ
أَتَذَكَّرُ تِلْمِيذًا
فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ سَنَةَ 1978
يَحْمِلُ كِتَابَ الْقِرَاءَةِ
وَيَرْكُضُ نَحْوَ الْـمَدْرَسَةِ
لَكِنَّهُ لَمْ يَصِلْ حَتَّى الْآنَ..
■ ■ ■
حِصَانُ جَدِّي
حِينَ مَاتَ جَدِّي إِبْرَاهِيمْ كَانَتْ جَدَّتِي كُوجَرِي فِي الْعِشْرِينَ مِنْ عُمْرِهَا، أَمْضَتْ عُمْرَهَا فِي تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهَا.. رَمَضَانْ، عَلِي، مَقْبُولَةْ. وَقَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ إِلَى جِوَارِ رَبِّهَا قَالَتْ: — حُلْمِي الْوَحِيدُ أَنْ أَرَى بَنَاتَكَ.
حِينَ نَعُودُ إِلَى الْقَامِشْلِي سَأَصْطَحِبُ مِينَا وَمِيرَا وَمِيرْيَامِ إِلَى شَوَارِعِ الْهِلَالِيَةْ، حَيْثُ كُنْتُ أَسِيرُ وَيَدِي فِي يَدِ جَدَّتِي كُوجَرِي وَهِيَ تُحَدِّثُنِي عَنْ مَارْدِينْ وَقُرَى الْأُومْرِيَّةْ، عَنْ حِصَانِ جَدِّي الَّذِي كَانَ يَعُودُ مَنْ لِجِيْ عَبْرَ الْأَسْلَاكِ الشَّائِكَةِ وَحُقُولِ الْأَلْغَامِ قَاطِعًا مِئَاتِ الْأَمْيَالِ إِلَى كَرْصُورْ.
أَعْرِفُ الطَّرِيقَ جَيِّدًا مِثْلَ حِصَانِ جَدِّي، مِثْلَ أَحْلَامِ جَدَّتِي.
■ ■ ■
خوْفٌ
تَنْظُرُ أُمِّي خَلْفِي وَتَبْكِي، وَأَنَا أَسِيرُ وَلَا أَلْتَفِتُ إِلَيْهَا. يُشْعِلُ أَبِي سِيجَارَتَهُ، وَيَنْظُرُ خَلْفِي وَيَبْكِي، وَلَا أَلْتَفِتُ إِلَيْهِ. تَبْكِي أُخْتِي الصَّغِيرَةُ، وَلَا أَلْتَفِتُ إِلَيْهَا.
لَمْ أَكُنْ جَبَانًا فِي حَيَاتِي، وَلَمْ أَكُنْ شُجَاعًا أَيْضًا. كُنْتُ أَخَافُ مِنَ الْوَحْدَةِ، كُنْتُ أَخَافُ مِنَ الْـمُدُنِ الْكَبِيرَةِ، كُنْتُ أَخَافُ مِنَ الْبُيُوتِ الْبَعِيدَةِ، كُنْتُ أَخَافُ مِنَ الْأَبْوَابِ الْـمُغْلَقَةِ، كُنْتُ أَخَافُ مِنَ الْأَشْجَارِ فِي الْخَرِيفِ، كُنْتُ أَخَافُ أَنْ تَتَوَقَّفَ الْأَرْضُ عَنِ الدَّوَرَانِ، وَأَظَلَّ وَحِيدًا وَغَرِيبًا هُنَا.
مِثْلَ حَجَرٍ غَرِيبٍ.
■ ■ ■
اَلْبِلَادُ الْـمُنْخَفِضَةُ
أُحِبُّ هُولَنْدَا
هَذِهِ الْبِلَادَ الْـمُنْخَفِضَةَ
كَظَهْرِ كَبْشٍ كُرْدِيٍّ
كُنْتُ أَسْتَلْقِي
عَلَى رِمَالِ نوُرْدْفَايْكْ
وَأَرَى سُورْيَا
فِي قَبْضَةِ قَلْبِي
■ ■ ■
كَانَتْ حَيَاتِي حَافِلَةً
فِي هُولَنْدَا لَعِبْتُ التِّنِسْ فِي مُعَسْكَرِ اللُّجُوءِ مَعَ لَاجِئٍ أَفْغَانِيٍّ مِنْ فِرْقَةِ الْحِرَاسَةِ الْخَاصَّةِ بِالرَّفِيقِ الشَّهِيدِ نَجِيبْ اللهْ، وَيُعْتَقَدُ أَنَّهُ الْوَحِيدُ الَّذِي أَفْلَتَ مِنْ قَبْضَةِ طَالِبَانْ؛ وَلَعِبْتُ الْغُولْفْ مَعَ ثَرِيٍّ هُولَنْدِيِّ تَعَرَّفْتُ عَلَيْهِ بِالصُّدْفَةِ فِي حَانَةٍ إِسْبَانِيَّةِ بِأَمْسْتِرْدَامْ.
وَمَارَسْتُ رُكُوبَ الْخَيِلِ فِي لَاهَايْ بِصُحْبَةِ أَمِيرٍ عَرَبِيٍّ، رَأَيْتُهُ يُدَخِّنُ النَّرْجِيلَةَ عَلَى الشَّاطَئِ وَيَسْتَمِعُ إِلَى أُمِّ كُلْثُومْ، وَكَانَ يَمْلِكُ إِسْطَبْلًا كَبِيرًا فِي أَطْرَافِ الْـمَدِينَةِ.
وَفِي هُولَانْدْ-كَازِينُو لَعِبْتُ الْبُوكَرْ لِلْمَرَّةِ الْأُوْلَى وَالْأَخِيرَةِ وَرَبِحْتُ خَمْسَةَ آلَافِ يُورُو وَغَادَرْتُ فَوْرًا رَغْمَ تَوَسُّلِ الصَّدِيقِ الْكُرْدِيِّ التُّرْكِيِّ أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ هِيَ لَيْلَتِي، وَأَنَّ عَلَيَّ الْـمُوَاصَلَةَ..
وَفِي جِبَالِ الْأَلْبِ تَزَلَّجْتُ عَلَى الثَّلْجِ، وَفِي دُبَيْ عَلَى الْجَلِيدِ صَيْفًا.
كَانَتْ حَيَاتِي شَاحِنَةَ MAN تَعَطَّلَتْ فِي مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ مِنْ أَمْسْتِرْدَامْ إِلَى كَرْصُورْ..
■ ■ ■
ذِكْرَى
نُزُلٌ صَغِيرٌ فِي كُرْدِسْتَانْ
مِنَ الْيَسَارِ
اَلْأَبُ وَالْأُمُّ وَالْأُخْتُ
أَبْحَثُ عَنِ الْابْنِ
كَانَ في الصُّورَةِ
قَبْلَ قَلِيلٍ
وَغَادَرَ
لِأَنَّ عَلَاقَتَهُ سَيِّئَةٌ
بِالذِّكْرَيَاتِ..
■ ■ ■
سيرة ناقصة
لَمْ نَحْلُمْ يَوْمًا بِرُكُوبِ الطَّائِرَاتِ، لِنَسْتَمْتِعَ بِرُؤْيَةِ الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ. وَلَمْ نُصَدِّقِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي تَقُولُ:
اَلبْيُوتُ تُصْبِحُ صَغِيرَةً كَعُيُونِ الْعَصَافِيرِ.
لَمْ نَحْلُمْ يَوْمًا بْرُكُوبِ الطَّائِرَاتِ
نَنْتَظِرُ أَنْ تَنْبُتَ لَنَا أَجْنِحَة، لِنَطِيرَ فَوْقَ الْبِلَادِ
نَتَأَمَّلَ بُيُوتَنَا وَنَتَأَكَّدَ مِنْ زُرْقَةِ السَّمَاءِ..
* * *
تَأَخَّرْنَا كَثِيرًا
لِذَلِكَ لَمْ تَنْتَبِهِ الْحَيَاةُ
لِمُرُورِنَا
تَرَكْنَا خَلْفَنَا
كُلَّ شَيْءٍ
لَمْ تَكُنِ الْحَيَاةُ وَدِيعَةً
وَلَمْ نَكُنْ وُحُوشًا
نَسْتَطِيعُ أَنْ نُبَرِّرَ
كُلَّ ذَلِكَ
مُجَرَّدُ سُوءِ تَفَاهُمٍ..
* * *
إِنَّهَا أَشْجَارُنَا
تُغَنِّي
كَيْ تُبَدِّدَ قَلَقَ الْبُيُوتِ
اَلْمَهْجُورَةِ
* * *
عَلَاقَتِي بِالرَّايَاتِ سَيِّئَةٌ جِدًّا
لَا أُحِبُّ الاخْتِبَاءَ
خَلْفَ أَيِّ شَيْءٍ
أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ وَاضِحًا
كَيْ يَرَانِي الْجَمِيعُ..
* * *
كَيْفَ وَصَلْنَا إِلَى هُنَا
وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُ مِنَ الطُّرُقِ
غَيْرَ الطَّرِيقِ إِلَى الْبَيْتْ
* شاعر سوري مقيم في ألمانيا، والقصيدة من مجموعته "الطريق إلى البيت" الصادرة حديثاً عن منشورات المتوسط.