لقاء مع الشاعر سكوت ماينار
صالح الرزوق
خاص ألف
2018-03-31
للشاعر الأمريكي المعاصر سكوت ماينار تجربة مزدوجة. فهو، لأنه أستاذ الأدب الحديث في جامعة لانكستر، يهتم بالنظرية الأدبية بمقداراهتمامه بكتابة الشعر. ولكنه في الحالتين يركز على تاريخ الحداثة والشوط الذي قطعته قبل أن تدخل في مرحلة تفكيك نفسها وكشف ما لديها من مصادر. ويبدو أن حداثة ماينار تدين لبواكير انقلاب أول حداثة في الشعر مع ويتمان ثم إليوت. بمعنى أنه مركّب في خلفياته، ويدمج هموم الإنسان البسيط وعلاقته بالطبيعة مع الرؤية الملحمية لأسطورة الإنسان المعاصر المهزوم والذي يسقط بالتدريج في محنة النسيان والندم. وقد ساعده ذلك على تدويل مفهومه عن الإنسان، والنظر إليه كشخص مفرد تقسو عليه الحضارة ولكنه يتعالى عليها ويستنجد بتاريخ خياله وبالأوهام التي تتراكم في داخله وتصنع له أمجادا ذهبية مبتكرة ومدهشة، وتنتمي لشيء غير متوقع. وفي هذه المساحة تسطع لديه شمس الحقيقة (وهذا هو موضوع كتابه الأخير: جلجامش وقصائد أخرى، والذي سيصدر في غضون الشهور القادمة عن دار ماموث).
وبهذه المناسبة رأيت أن أترك له الفرصة للتعريف بنفسه وبمفهومه للثقافة والحداثة بشكل عام من خلال الاسئلة التالية.
- كيف تعرف لنا مصطلح "العقل الحديث"؟.
يقول سكوت: هذا سوال صعب!. وبرأيي، إنه غير ممكن أو مستحيل أن تعزل فكرة العقل الحديث عن ما قبله، وبكلمات أخرى عن خلفياته التاريخية، فهي المسؤولة عن طريقة واتجاه تطوره. لو أننا نقصد بالعقل الحديث الحالة الراهنة للمثقف بشكل عام، يمكنني القول إنه الضمير الفردي والثقافي وربما العالمي والذي يستجيب للتحديات التي نواجهها في الحياة والعمل وذلك على امتداد بلدان ومجتمعات هذا العالم.
والضمير صفة فردية تعتمد على نفسية الناس. ولكن يمكن أن نرى أن الإنسان يتأثر بعمق بعائلته، ومجتمعه، وبيئته، وبالتأكيد بالظروف. الحالةالاجتماعية والفرص. والعقل الحديث كما نعبر عنه جميعا هو نتيجة لتلقي المعارف والتمرينات المرافقة في جو ثقافي ونسبي تحدده فرصنا التعليمية وسياقها أو البيئة.
وأهم صفة في العقل الحديث أنه مستمر ومتبدل حسب المتطلبات والتحديات في عالم متغير بسرعة وبطرق غير مسبوقة- وغير مسبوقة تحيل هنا إلى التبدلات في التكنولوجيا والمعرفة العلمية العامة وهي متقاطعة مع طرائق سلوك البشر، تصرفاتهم والعمل الذي يمارسونه، مهما كان معنى العبارة الأخيرة. أما قدراتنا على الهدم فقد أصبحت مؤثرة جدا وأكبر من قدراتنا على البناء. ولكن التاريخ أثبت أن قدرات الإنسان على التعاطف وتحقيق السلام موثرة أيضا. وأنا أنظر إلى السلام في جنوب إفريقيا مثلا، على أنه سلام لم يتوقعه أحد أو اعتقد أنه مستحيل. وهو من أفضل الأمثلة على طريقة عمل ونجاح العقل الحديث.
- هل أدوات الحداثة تعمل من الصفر أم أنها تبني على التقاليد السابقة؟.
رد سكوت بقوله: من الصعب بالنسبة لي أن أقول إن الحداثة أنتجت ما يمكن أن تعتبره بداية طازجة وبريئة. لا شك اأنها قدمت لنا أدوات جديدة، وخيارت جديدة للتفكير، ولحل المشاكل، وقد ابتكرت أيضا ممرات تقودنا إلى المستقبل. ويبدو لي أن البشرية واجهت مصاعب أو أنها خلقت المشاكل بين قدراتها على الممارسات القاسية وغير الإنسانية ، ولا سيما في استعمال القوة المفرطة، وبين قدراتها على الإعراب عن الحب والتعاطف، أو ربما عن نوع من الحياد أو الموقف المحايد تجاه الآخرين. حتى الآن أن الحداثة تضع ثقتها وثقلها في التفكير النقدي وفي التخلي عن التعصب الذي قد نرثه من الماضي، وتفضل الاستعداد لسلوك اتجاه مفتوح على المستقبل. ولكن الاختيار الأساسي بين الخير والشر، أو اتباع سلوك يتحلى بأساليب واضحة ومفهومة لدى الجهات العلمانية (و ضع الآن في ذهنك معارضة جورج أورويل للبربرية بأي شكل من الأشكال) كما يبدو لي هو نفسه ولم يلحق به التبدل. ولذلك علينا واجب المحاولة بكل جهودنا لخلق عالم نحب
أن نحيا فيه وعالم نرغب لأولادنا وأحفادنا أن ينعموا به.
- وكيف ينظر العرب للحداثة والقطيعة المعرفية التي ينطوي عليها التحديث؟.
يحك سكوت رأسه بطرف القلم، كأنه يفكر، ثم يقول: باعتبار أنني من الغرب لا أعتقد أن جواب إنسان غريب سيكون مفيدا لسؤال من هذا النوع. ولكن أود أن أقول إنه على كل الناس مواجهة ومقاومة مشاكل خاصة بالمتغيرات وضرورة التأقلم مع الوقت. إنه علينا أن نتأقلم بالأساليب التي نعتقد أنها صحيحة. ويبدو أنه في العالم توجد عدة ثقافات تواجه الصراع بين رواسب الماضي ومتطلبات الوقت الحاضر والمستقبل. ولست متأكدا أن أي ثقافة ترد على هذه التحديات بطريقة صائبة حاليا، وإن ما أعرب عنه ليس حكما جازما ولكنه ملاحظة عن طبيعة الاستجابة المفترضة حيال هذه التحديات. نحن نشترك جميعا بضرورة الاحتكام للتقاليد التي لا تزال فاعلة ومقبولة، مع لفظ الأشياء القديمة التي لم تعد صالحة، وقبول المتغيرات التي فكرنا بها طويلا، مع الحذر من السلبيات والمخاطر الكامنة قدر استطاعتنا. وهذا يبدو معقولا ومفيدا. ولكن من طرف آخر، الخوف عقبة تؤخر التحرر من الماضي واختيار مستقبل أو حاضر جديد.
في رأيي الإنسانية والتعاطف مع الآخرين هو واجب مركزي يوجه القرار ويقودنا لإدارة وضبط مصادر الخوف والرعب. ودون هذه المشاعر نكون عرضة لخطر الانزلاق في سلوك تدميري. أضف لذلك الإنسان بحاجة للأمل.
وهو ليس خيارا- كل الناس بحاجة له. ويجب أن يكون الخوف حائلا دونه. ومن الضروري لنا أن نتحلى بالشجاعة وأن نستمع لرأي الآخرين وأن نتأكد أننا أخذناها باعتبارنا. وقراراتنا الهامة قرارات شاملة. ولكن وحدة مجتمعاتنا تحتاج أيضا للتعاطف بين الأعضاء. وهذا التعاطف هو من أصعب المشاعر التي نحتاج إليها. وهناك قانون قديم وأبدي يؤكد أن الحقد لا يتولد عنه غير الحقد. وبالمحبة فقط يمكننا الشفاء منه. وربما ما يحمينا في النهاية هو مفهوم التوازن والمحافظة عليه. وهو الدفة التي تقود السفينة بأمان حتى تنجلي العاصفة.
- وماذا عن كتابك المنتظر (جلجامش وقصائد أخرى). هل تود أن تعرف به؟.
يتردد قليلا ثم يقول: لا يمكن أن أؤكد شيئا. فالغلاف لا يزال في مرحلة التصميم. والمصممة هي أستاذة فنون تشكيلية في الجامعة. وحاليا هي مشغولة بالتدريس وتحتاج لوقت قبل أن تنتهي منه. أساسا فكرة الكتاب بدأت من سؤال وصلني من كاتب عراقي هو السيد زاحم جهاد مطر. ومفاده لماذا نهمل الشرق وكأنه غير موجود. وحرك ذلك مشاعري وكتبت عددا من القصائد عن جلجامش وأنكيدو وأبطال تلك الأسطورة العظيمة. وقد أهديت الكتاب للسيد مطر. باختصار يمكنك القول إنه شرارة ساخنة وليس مجرد تجميع لقصائد متفاوتة في زمن كتابتها. وهو يدور حول محور رؤية واحدة وانتقلت فيه من الاهتمام بالباطن الشعري لتجربة الإنسان المثقف (كما في مجموعتي الضرب بالصنوج )* إلى قراءة الطبيعة الشعرية للنصف الآخر من العالم.
*ترجمت هذه المجموعة وصدرت عن مؤسسة المثقف العربي (سيدني) ودار ليندا (سوريا) عام 2017 بعنوان (عزيف النحاسيات).