Pizza - Hut
خاص ألف
2018-04-07
رأیت سامبا في البكاديللي، سامبا التي جاءت من الكونغو ، و استقرت في لندن . كنت قادما من اتجاه صالة الفن المعاصر ، و كان الجو رمادیا رطبا كالعادة ، و لم یلفت نظري مما ھو حول سامبا غیر النافورة التي تخرج منھا میاه بیضاء حلیبیة صافیة ، سحابة خفیفة من المیاه المسمومة بسبب البرد القارس.
قلت لھا : ھالو سامبا..
ردت عليّ بابتسامة ناصعة ، و قالت : ھالو. و وقفت تنظر إليّ بصمت یشوبھ نوع من الخجل. لاحظت أنھا تحمل كتابا عن سارتر عرّاب الوجودیة ، و كانت صفحاتھ مبتلة بالمطر ، و لم یكن مع سامبا مظلة ، أما أنا فقد كنت ، على عھدي دائما ، أرتدي معطفا من الجوخ الثقیل ، أشھب اللون. و قد أسدلت یدي في جیبیھ العمیقین بنفس الطریقة المرسومة على غلاف كتاب ( جاسوس من موسكو ) لألكسندر فوت.
قلت لسامبا كي تتغلب على ھذا الجمود الممزوج بعاطفة غامضة : ھل لدیك بعض الوقت للتسكع في الشوارع.
نظرت سامبا إلى ساعة یدھا ، كانت جفنة الساعة تتلألأ ببعض الحبات الزجاجیة التي تدل على الوقت ، و أجابت : ھي حوالي ساعة فقط ، ثم لديّ ارتباط..
كانت سامبا تدرس الطب ، غیر أني تعرفت إلیھا في قطار الأنفاق ، حینما لم یكن لدیھا في حینھ جنیھ واحد لتأكل بھ ساندویتش ھامبرغر ، أو حتى قطعة خبز یابسة. و كنت ، في الواقع ، بلا خجل ، مثلھا تماما ، مفلسا ، أو مكسورا بالتعابیر الدارجة.
- إیھ ، أیام... أفلتت مني ھذه العبارة الودیة ، و نحن ننحدر نحو مكان أكثر دفئا ، حیث توجد تماثیل أو مقاعد و أسوار نحتمي بھا من البرد القارس أو من حبات المطر المرتدة..
قالت سامبا و ھي تحول الكتاب الصغیر التالف من ید إلى أخرى : نعم. مرّ زمن لم یصدف أن تقابلنا فیھ..
لقد عرفنا السعادة مع التشرد و الصعلكة في تلك الحقبة.
طبعا لفظت الكلمة الأخیرة من بین أسناني ، و لم أطلقھا من بین شفتي. كنت أود أن أشدد على ھذه المفردة الأخیرة لألفت انتباھھا إلى مدى جدیة العلاقة التي كانت بیننا.
علّقت على عبارتي بنوع من التراخي الذي یشبھ تكاسل الذكریات ، فقالت : ھو كذلك حقا..
لم تغیر سامبا عادتھا القدیمة في المشي. ھكذا لاحظت. كانت تسیر بحذائھا الخفیف على أطراف أصابعھا مثل راقصة بالیھ .و كان ھذا یساعد على تناثر شعرھا الكونغولي الأسود في الفضاء كما لو أنھ غمامة حالكة منخفضة.
سألتني و نحن نقترب من أطراف الھایدبارك : كیف تسیر الأحوال معك الآن..
وجدت الجرأة لأقول لھا : كما یود المرء و یشتھي..
في الواقع ، لم تكن أموري كذلك. كنت من غیر عمل مستقر ، و دراستي متعثرة و بطیئة ، تارة أشرد مع مالرو و تارة أتوه في أجواء منطق برتراند روسل البارد حتى مشارف الغموض المیتافیزیكي.
حینما اقتربنا من بوابة الھایدبارك ، غیّرت سـامبا رأیھا فـي الدخول ، و بلفتة كرم مفاجئة دعتني لكوب من الشاي في الـ " بیزاھت". كان المطعم في الجوار ، و لا یبعد عن موقع أقدامنا أكثر من مائة متر. رأیت اسمھ مكتوبا على واجھة الزجاج النظیفة و البراقة بالرغم من الغموض النسبي للجو. و شرعنا بالتوجھ إلى الدرجات الھابطة نحو الأعماق ، لنعبر من المتاھات السفلیة إلى الرصیف المقابل ، وجعلنا الھایدبارك الخضراء أبدا خلف ظھورنا..
و ھنا خطر لي أن سامبا لم تكن تزور البيزاھت إلا في المناسبات الكبیرة ، و كانت تفضل غیره ، فسألتھا على سبیل الفكاھة : ھل ھذا تغییر في المزاج؟.
حزرت بذرة النكتة الكامنة في السؤال ، و ردت كأنھا ترید تغییر اتجاه أفكاري : ربما أشعر بالحاجة إلى الكلام معك من وراء ستار ، لیكن بخار الشاي الساخن.
ضحكت بمتعة أیام زمان ، و قلت : ھل تقرأین سارتر في ھذه الأیام؟.
قالت : و ھل لدیك مانع. ھل أنت على خلاف مع سارتر مثلا..
ضحكت مرة أخرى. إنھا سامبا ، المرحة و اللطیفة ، التي یشبھ لون بشرتھا ألوان جذوع الأشجار في آسیا.
حینما أخذنا أماكننا على الكراسي خلف طاولة مستدیرة مدججة بقائمة الأسعار و المملحة و علبة السكر و نفاضة السجائر و الفوط الناصعة ، شردت في تعابیر و قسمات وجھھا الكستنائي.
دنیا تمشي بالمقلوب. خطر لي ذلك. لا أعلم ماذا أشعل شرارة ھذه الفكرة في ذھني ، غیر أنني أمعنت في التحدیق بعینیھا. لم أتمكن من التكھن باسم الطیف أو اللون الذي كان یشتعل ھناك. . كان لماعا و متقلبا و یحتال على ذكائي الفطري.
لا أظن أن سامبا تكهنت بما یدور في خلدي ، غیر أنھا قرّبت وجھھا مني، و حكت أنفھا بأنفي بحركة عذبة ، آلمتني بقدر ما أراحتني ، و سألت : لا أعتقد أنك تشك بوجودي معك على طریقة دیكارت.
أوه ، سامبا.
أفلت مني ذلك ، و لم أقدر أن أسیطر على اھتیاجي. و قلت : لیسقط دیكارت و سارتر.
سلّحت وجھھا بابتسامة أصابتني في الصمیم ، و أضافت : یسقط ھتلر أیضا. ھل نحن في مظاھرة تضامن مع شعوب العالم الثالث.
أسقط في یدي طبعا. و لِمَ لا . أخذت یدھا و قبّلت راحتھا المشوبة بلون الشوكولاتة. و مرّ في خاطري شریط بطيء من ذكریات باھتة .. مظاھرات مضادة للتمییز العنصري في جنوبي إفریقیا. البالونات الملونة التي حملتھا سامبا ، و التي كتبت على كل واحدة منھا اسم نیلسون ماندیلا بلغات إفریقیة محلیة. جمع التبرعات في الشوارع باسم نقابة عمال المناجم خلال إضرابھم الطویل. معركة زجاجات الكحول الفارغة من أجل سامبا و الندبة التي في ساعدي حتى الآن.
قلت لھا لأضع حدا لھذا العذاب ، و لم یكن كأس الشاي قد وصل بعد : ماذا لدیك الیوم ، بعد الظھر.
- لماذا ..
و اكتسى وجھھا ببعض الجدیة.
و أنا ألاحظ لأول مرة البلوزة الرخیصة إنما المثیرة و المغرية التي تلبسھا ، المزخرفة بشكل ورقة توت ناعمة فوق الحلمتین ، قلت : لأجل خاطر السعادة.
لم یفك ھذا الغزل المباشر العقدة من ملامحھا ، فأردفت بنوع من لباقة تعوزني في اللحظات الحرجة : لقد مضى عھد التشرد یا سامبا. عندي الآن استودیو قریب من ھایدبارك ، و أستطیع أن أستضیفك فیھ..
و كان لدي المزید من الكلام ، و لكن قاطعت سلسلة أفكاري ، بالأحرى بدلت اتجاه ھذه النسمات الدافئة نقرات خفیفة على النافذة المجاورة من الخارج.
نظرنا في وقت واحد، و شاھدنا رجلا أشقر بنظارات ، كنت أعلم أنه يدعى مايك ، و هو من البرازيل ، و قاتل مع الفلسطينيين في حصار بيروت عام 82 ، و خرج من هناك بأعجوبة ، و مع ذلك سألتها : من ھذا ؟..
لم ترد سامبا بشكل مباشر ، و لكن نهضت ، و هي تقول مع ابتسامة باهتة : كما ترى. حان الوقت...
ثم أضافت : یجب أن أنصرف.
و هي تغادر انتابني الشعور الشكسبيري باليتم ، لقد أصبحت مثل هاملت الذي يكتوي بنار الغيرة في جنبات قصر والده الميت...
ترى متى أشرقت أنوار البرازیل في قلب سامبا. بل متى تفتحت زھور مایك في حدیقتھا السریة.. خطر لي ذلك و أنا أقف على عتبات بیزاھت وحیدا ، أشبھ بكلب ھرم تخلى عنھ صاحبھ.
كان الجو مكبلا بتلك الغیوم العشوائیة و المبھمة. و الھایدبارك أمامي نائمة ، و أوراقھا الخضراء تبدو في ھذا الجو رمادیة أو زرقاء ، و في حالة انتظار.
أطلقت من صدري أنفاسا عمیقة اندمجت مع ضباب المدینة ، ثم تابعت الطریق.
طبعا كنت أرتدي معطف الجوخ الثقیل الذي أسدلت فیھ كلتا یدي على طریقة غلاف ( جاسوس من موسكو ) لألكسندر فوت..
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |