أسلاف داعش / دافيد موتاديل ترجمة:
صالح الرزوق
خاص ألف
2018-06-02
في غضون السنوات الأخيرة، برز صعود دراماتيكي لما يبدو نوعا جديدا من السياسة: دولة الثوار الإسلاميين. بوكو حرام في غرب إفريقيا، و الشباب في شرق إفريقيا، و الإمارة الإسلامية في القوقاز، و طبعا، الدولة الإسلامية في الشرق الأوسط، المعروفة باسم داعش، أو الدولة الإسلامية في العراق و شرق المتوسط - هذه الحركات لا تدعو للحرب ضد الغرب فقط، و لكنها تستعمل المصادر المتوفرة لبناء ثيوقراطيتها.
و مع أن هذا غير مسبوق في بعض المواضع، لدى هذه المجموعات نقاط مشتركة مع حركات الإحياء الإسلامي التي بدأت في القرن ١٨، و منها الوهابية في شبه الجزيرة العربية و دولات المجاهدين التي ظهرت في القرن ١٩. لقد شنوا الجهاد ضد القوى غير المسلمة، و في نفس الوقت حاولوا تحويل مجتمعاتهم بطرق راديكالية.
واحدة من أوائل الفرق التي دخلت في الجهاد ضد الاستعمار و بناء دولة هي فرقة مقاتلين قادها عبدالقادر، الذي تحدى الغزو الإمبريالي الفرنسي في شمال إفريقيا في فترة ١٨٣٠ و ١٨٤٠. و أعلن قادر نفسه " زعيما للمؤمنين"- تحت لقب خليفة- و أسس دولة إسلامية في غرب الجزائر، عاصمتها ماسكرة، و لها جيش نظامي و إدارة منضبطة فرضت قانون الشريعة و وفرت بعض الخدمات العامة. و لكن هذه الدولة لم تستقر، و لم يكن لها حدود واضحة على الخريطة؛ و في نهاية المطاف دمرها الفرنسيون و محوها من الوجود.
و كذلك عاشت دولة المهدي لفترة وجيزة في السودان، فقد استمرت من بواكير ١٨٨٠ و حتى نهايات ١٨٩٠. و قد قادها المهدي الذي عين نفسه بنفسه ( " المنقذ و المخلص") و هو محمد أحمد، و قد نادت الحركة بالجهاد ضد حكامهم العثمانيين - المصريين و ضد المستعمر الإنكليزي، و أرست دعائم و بنية الدولة، بما فيها شبكة التلغراف، و معامل السلاح و جهاز البروباغاندا. و حرم هؤلاء الثوار التدخين، و الكحول، و الرقص، و وضعوا الأقليات الدينية تحت الوصاية.
غير أن دولتهم لم تتمكن من توفير مؤسسات مستقرة، فانهار الاقتصاد؛ و مات نصف السكان من المجاعة و المرض و العنف قبل أن يعمد الجيش البريطاني، مدعوما بالمصريين، لسحق الدولة بحملة دموية، و تم توثيق هذه الأحداث في " حرب النهر" ، الرواية التي كتبها الشاب ونستون تشرشيل، فقد كان يخدم كضابط في السودان.
أما أفضل دولة ثورية إسلامية في القرن التاسع عشر فهي دولة الأئمة في القوقاز. و قد جمع أئمتها المسلمين في الشيشان و داغستان و شنوا حربا مقدسة استمرت لثلاثين عاما و ركزوا جهودهم ضد الإمبراطورية الروسية، التي حاولت السيطرة على المنطقة. و خلال قتالهم، حول الثوار مجتمعات الجبال إلى إمامة عسكرية مسلحة، و أعدموا المعارضين في الداخل و فرضوا قانون الشريعة، و فصلوا الذكور عن الإناث، و حرموا الكحول و التبوغ، و وضعوا القيود على الموسيقا، و أدخلوا مبدأ الزي الإسلامي الموحد - و كل المعايير و القيود غير الشائعة. و واجهت جيوش القيصر الإماميين بوحشية مفرطة، و في النهاية تمكنوا من تفريقهم و كسر قواتهم.
في كل تلك الحالات، هنالك دائرتان متميزتان، و مع أنهما في حالة تداخل، إحداهما كانت ضد الإمبراطوريات غير الأوروبية و الثانية ضد الأعداء الداخليين، و كلتاهما كانتا تقاتلان و تضعان أسس دولة. وهذا التفسير في الواقع ليس غريبا على ظهور دولات الثوار الإسلاميين. و قد عرّف عالم الاجتماع شارلز تيللي ذات مرة الحرب كقوة أساسية دافعة و حاسمة في تشكيل الدول: فتأسيس حكومة مركزية تصبح ضرورة لضبط و ترتيب و تنظيم و تمويل القوات العسكرية.
وفي نفس الوقت، كان الإسلام هو مركز هذه الحركات. كانت القيادات سلطات دينية، و معظمهم يحمل لقب " أمير المؤمنين"؛ و دولاتهم منظمة على أسس ثيوقراطية. لقد ساعد الإسلام على توحيد مجتمعات قبلية متفرقة و خدم كمصدر لسلطة إلهية مطلقة و ذلك لتشجيع الالتزام و الاستقامة الاجتماعية و ضمانة الطاعة في السياسة، و لشرعنة الحرب. و كلها بشرت بإحياء إسلامي عسكري، و نادت بتنقية العقائد، بينما أدانت المجتمع الإسلامي العام، بواسطة فتاوى متعصبة تفسر الإسلام على طريقتها بما تتضمنه من روحانيات غريبة و فساد و رجعية.
و تشترك اليوم دولات المجاهدين بعدة علامات من هذا النوع. لقد برزت في وقت الأزمة، و واجهت بشكل عنفي و بلا شفقة أعداء من الداخل و الخارج. و قمعوا النساء. و على الرغم من قسوة الجماعة نجحوا جميعا في توظيف الإسلام في بناء تحالف واسع مع القبائل و المجتمعات المحلية. و وفروا خدمات اجتماعية و أداروا محاكم شرعية قاسية و متزمتة؛ و استعملوا أساليب متقدمة في البروباغاندا.
و لو هناك أي اختلاف عن بنية دويلاتهم في القرن ال ١٩ نذكر أنهم أشد راديكالية و تنظيما. ربما كانت الدولة الإسلامية هي الأكثر نشاطا في السياسة و الجهاد العسكري في التاريخ الحديث. و هي تستعمل بنية الدولة الحديثة، و ضمنا بيروقراطية منظمة هرميا، و جهاز قضائي، و مدارس، و جهاز بروباغاندا واسع و شبكة مالية تسمح لهم ببيع النفط في السوق السوداء. إنها توظف العنف - الإعدامات الجماعية، و الاختطاف و العبث، و ذلك في أعقاب كبت العقل و تنامي الثروات، و هذا في حدود غير مسبوقة في سياسات الدول الإسلامية السابقة.
و بعكس سابقاتها، يمتلك الزعماء طموحات عالمية، و يتصورون فانتازيات عن احتلال سانت بطرس في روما.
و فوق ذلك تلك الفروقات متقاربة، و هي ليست نوعية. فدول الثورات الإسلامية متشابهة على نحو إجمالي و واضح. و يجب النظر لها كظاهرة واحدة: و لهذه الظاهرة تاريخ عريق.
لقد تم تأسيس هذه الدول في ظروف الحرب، و هي تعمل في جو من الضغط الخارجي و الداخلي المستمر، و لذلك هي تعاني من القلق و لا تعمل بكل طاقاتها. فتشكيل دولة يجعل الإسلاميين مكشوفين.
و بينما يصعب شن حرب على شبكة الجهاديين أو الجماعات المسلحة، إن الدولة، يمكن غزوها، و من السهل مواجهتها. و بمجرد تشكيل الدولة الثيوقراطية، يصبح غالبا من الواضح أن حكامها غير قادرين على توفير الحلول الاجتماعية و السياسية الناجعة، و بالتدريج هذا يدفع مواطنيها للاغتراب و العزلة.
على ضوء ما سلف، يجب على المجتمع الدولي أن يتأكد من توسع هذه الجماعات و منها الدولة الإسلامية، و أن يتدخل لمنع المزيد من الاعتداء على الحقوق و الحريات الإنسانية. و لكن مع الوضع بعين الاعتبار أن الولايات المتحدة و حلفاءها غير ميالين للقيام بعمليات عسكرية واسعة النطاق لإلحاق الهزيمة بالدولة الإسلامية - ناهيك عن غيرها من دول المجاهدين- إن السياسة المثلى قد تكون في احتواء و تأييد معارضة محلية ثم تدبير انهيار ممكن لتلك الجماعات.
إنه علينا أن نحدد ماهية تلك الجماعات على وجه اليقين. و أن ننظر لها كـ " سرطان"، كما قال الرئيس أوباما، و هذا مفهوم من زاوية نظر عاطفية، و لكنه يبسط الظاهرة و يلقي الغموض عليها. و أخيرا لنعترف أن دويلات الجهاديين سياسات معقدة و يجب فهمها في سياق التاريخ الإسلامي.
الترجمة عن النيويرك تايمز ، صفحة آراء، مساحة حرة. عدد ٢٣ أيلول ، ٢٠١٤. و الكاتب دافيد موتاديل DAVID MOTADEL باحث في التاريخ و يعمل في جامعة كامبريدج. و هو مؤلف كتاب " الإسلام و حرب ألمانيا النازية".