" طيَّـــــــــــــــــــــــــــــارة "
خاص ألف
2018-06-02
في الحقيقة لم أنجُ عندما هربت ، رغم أن الهروب نجح بشكلٍ جيد ..
ربما نجوت أنا ،لكن ذاكرتي لم تنجُ ، وبقيت معلقةً على عامود الشَبْح في حمَّام التحقيق في مستوصف المطار ، ويا ليتها تموت مثل البشر الطبيعيين تحت التعذيب ،لكن الذاكرة لا تموت ولا تتعطل! فيها الذكريات العصيّة عن تخيل المستمع أو القارئ لتفاصيلها القاهرة .
بعد تعليقي من اليدين بشكل مخالف لطبيعة حركة الأيدي ،لأكثر من خمسين ساعة بحسب ما استطعت تقديرهُ من وقت الجولة الأولى من التعذيب الممنهج لأجل التعذيب وليس لتحقيق طبيعي واستخلاص معلومات معينة بحد ذاتها ، كنت متكوماً على قدم رجلٍ مسن في زنزانةٍ مقابلةٍ للحمَّام (غرفة الموت )، والذي خرجت منه صرخةٌ عميقة غير متقطعةٍ ولم يتبعها أيُّ صوتٍ ؛ لم تكن صرخةً معتادةً مثل التي نسمعها أثناء التعذيب، وإنما فريدةٌ من حيث كميةُ الألم المكبوتِ والأثر الضاغطِ على وجودنا الغامض في مكانٍ غامضٍ لا يوجد فيه آلهة منصفين ولا أبطال خارقين يحققون النهايات السعيدة للناس ..
وفي عمق الصمت الثقيل الذي عَقب الصرخة، سمعتُ الرجل العجوز يهمس لنفسهِ " طيَّارة " بصوتٍ مرتجفٍ وخائف ، لم يكن يحدِّثني وإنما يُحادث الهواء الثقيل العالق بيننا ، نظرتُ إليه بعد عدة محاولات فاشلة من شدة الألم الممسك بفقرات الرقبة في أن أرفع رأسي بزاوية حادَّة لاتجاه نظري ، كانت ابتسامة جافة وذابلة ترتسم على لوحة وجهه الشاحب في ظلِّ كواليس العالم المُتَحَضِّر ! نظرَ إلي والدمعةُ تحبسها الابتسامة في ذاك الوجه ، وهمسَ لاستغرابي " نحن نجونا ، وهو مات " وعاد الرجل بنظره إلى البعيد المحدودِ بجدران وسقف الزنزانة دون التنازل عن ابتسامه الشاحب .
ولَمَّا استبد بي العطش حيث إني لم أشرب منذ دخولي إلى هذا الجحيم سوى من الماء الملوث الذي يعلق في أطراف شاربي أثناء جلسات التعذيب في "حمَّام المطار " ، وبيدين مشلولتين من المعصم والكتفين ، حاولت بكل جهدي الإمساك بزجاجة الماء البلاستيكية القذرة ، وإمالتها باتجاه فمي الذي صار قريباً من الأرض بعدما انحنيتُ بكُلِّ ما أوتيت من قوة ووضعت فمي في زاويةٍ مناسبةٍ لاستقبال رشفة ماءٍ تندلقُ من الزجاجة التي عجزتُ عن رفعها عن الأرض .
وقبلَ أن يُلَوِّث الماء عطشي ، ومع احتفاظي بفرصة الوصولِ إلى تَدفُّقٍ قليلٍ لبضع قطراتٍ تقترب من فوهة الزجاجة بعد انحدار مستوى الماء مع ميل الزجاجة ، لم أستطع منع نفسي من سؤالهِ بعد تثبيت عناصر مشهد الارتواء .
" ما قصدكَ أننا نجونا وهو مات ، من هو الذي مات ، وما علاقة كلُّ ذلك بالطيَّارة ؟"
ردِّ الرجل المحترف بالاحتفاظ بالابتسامة ، بأنَّ تلك الصرخة إعلان موت أحدنا بطريقة تعذيبٍ مُتَعارفٌ على تسميتها باسم ( الطيَّارة ) ، نسبةً إلى تعليق المعتقل من أطرافه الأربعة بشكلً مخالفٍ لطبيعة حركة المفاصل وشدِّها بقوةٍ ليصبح شبيهاً بطائرةٍ في فضاء هذا الكون اللئيم ، ويصعد الجلاد على ظهره ليضغط بقوةٍ على رأسه للأسفل ، حتى تصرخ فقرات الرقبةِ تَحَطُّماً وإعداماً .
" يفرحُ الجلَّاد بانتصاره ، ويطير المعتقلُ ضاغطاً على أسنانهِ ألماً وغضباً وخيبةً إلى سماءٍ لا نعرفها ولكننا نعلم بأنه سيكون سعيداً هناك بعد خلاصه من هذه العتمة الثقيلة "..
تشَنَّج حلقي ولم أستطع متابعة مهمتي في إرواء جسدي الذي فقدَ تماسكه نهائياً واندلق الماء من الزجاجة التي سقطت بقرب قلبي المهزومِ .
كنتُ أظنُّ بأنَّ جسدي قد تعرض لكلِّ أساليب التعذيب المُتَّبعة في هذه المؤسسة الأمنية الأسدية ، وأنَّ تعذيبهم لم يعد يؤلمني ولا يعنيني ، وأنَّ لدي القدرة للحفاظ على حُلمي بالحرية ، ومتابعة خطاي على طريقها ، لكنني كُنتُ مُخطِئاً تماماً ، فالقهرُ هزمني في عدة جولاتٍ وفي عدة مناسبات ، أعترف بأنَّ القهر هزمني ، نسيتُ جسدي وتكَسَّرَت روحي هناك .
بعد نجاتي من الجحيم بيومٍ واحدٍ ، علمتُ بأنَّ تلك الصرخة كانت تخصُّ الجميل ( خالد ) وهو يُقلِعُ من " حَمَّام المستوصف في مطار حماه العسكري " وبيدِ وحقدِ الجلَّاد أصبحَ طائرَ حُريَّةٍ إلى سماءٍ لا أعرف عنها شيء ولكنَّ العجوز المبتسمِ قال بأنه سيكون سعيداً هناك ، بعيداً عن كُلِّ هذا الظلامِ والخيبات ..
08-أيار-2021
16-حزيران-2018 | |
02-حزيران-2018 | |
26-أيار-2015 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |