تروي يوميات ما بعد الحرب العالمية الثانية هذا المشهد: في قلب ألمانيا يعبر صفّ طويل من البشر جسراً مؤقتاً، أكثر من مليوني روسيّ، ومليون بولوني، وآلاف التشيكيين يعبرون نحو الشرق، وأكثر من مليوني فرنسي، وآلاف البلجيكيين والهولنديين والإيطاليين يتوجهون نحو الغرب. وَصَفَ صحفي بريطاني المشهد بالقول: “يمكنك أن ترى تاريخ أوروبا كله على طرقات ألمانيا”.
لقد شهدت القارة كلها حينذاك تجوالًا وهجرات لملايين البشر، لكن هذا “التجوال”، وكما تصف يوميات الحرب المتناثرة في كتب وأفلام وثائقية، سيصبح كابوسًا على الحلفاء، لأن معظم هؤلاء الذين أجبروا على ترك بيوتهم وقراهم ومدنهم كان لديهم شيء واحد في أذهانهم، هو الانتقام. ففي طريق عودتهم إلى مدنهم عابرين القرى الألمانية كانت تترسخ في ذاكرتهم صور الضحايا، القتل، الاغتصاب، التدمير والسرقة.
لا ندري إن كانت طرقات سوريا، ستكتب تاريخًا جديدًا للمنطقة، حيث شمل ذلك “التجوال” الخريطة على اتساعها، بمختلف الاتجاهات، بدءًا من استدعاء مقاتلين ومرتزقة من كل أقطاب الأرض، ليتوزعوا في قلب سوريا مرارًا وتكرارًا، وليس انتهاء بالسوريين أنفسهم حيث ثلاثة عشر مليون سوري غادروا بيوتهم وحياتهم ليتوزعوا على طرقات الأرض كلها، بين نزوح داخلي ولجوء إلى دول الجوار أو أوروبا وسواها.
هجّ السوريون، سواء أولئك الذين تعرضوا للأذى المباشر، أو من يخشون التعرض لبطش النظام الأعمى والمتوحش، في كل اتجاه، دفعتهم حلاوة الروح لابتكار طرق واتجاهات لم تخطر على بال. استقرّ الملايين في دول الجوار، وحوالي المليون في أوروبا، ووصل البعض إلى أفريقيا وشرق آسيا، لكن كثيراً من السوريين استقرّ على الطرقات، قتلى على الحدود، أو غرقى في قاع البحر..
معظم السوريين هجّوا على عجل، حاولوا ما أمكن طرقًا مختصرة، وقد يكون ذلك الاختصار رأفة عظيمة بهم، رأفة لم تتَح لمواطنيهم من أبناء البلدات المحاصرة لسنوات طوال، أولئك الذين ذاقوا كل أشكال المرارة، كل أنواع القصف، من البراميل المتفجرة، إلى صواريخ السكود، والسلاح الكميائي، إلى جانب التجويع حتى الموت، ثم ذاقوا، فوق ذلك مرارة طريق طويل طويل..
عشرات آلاف المحاصرين أجبروا بعد مشاريع الإبادة الجماعية على ترك منازلهم. دُفعوا إلى الباصات الخضر، فباتت هذه، مهما تلوّنت، رمزاً لإذلالهم. “الوسيلة هي الرسالة”، والباصات الخضر باتت وحدها رسالة. من هنا يبدأ طريق طويل لا أحد يعرف إلى أين سينتهي.
المحاصرون في بلدات مثل مضايا والزبداني وحي الوعر الحمصي وحي القابون الدمشقي، ببيلا وبيت سحم ويلدا، دوما، داريا، معضمية، أحياء حلب الشرقية.. وسواها العديد، أتيح لهم ما لم يتح لمواطنيهم الذين هجّوا على عجل، أتيحت لهم هذه المسافة المديدة لمعاينة سوريا التي غابت عنهم سنوات، فماذا قالت لهم الطريق، وماذا قالوا هم للطريق.
أول ما خطر ببالي هو شهادة أحد معتقلي سجن صيدنايا بعد الثورة، وأتيح له أن يغادر السجن إلى المستشفى فكان أشدّ ما روّعه أن الناس كانت تملأ الشوارع تتابع حياتها كالمعتاد، هو الذي كان يظن، مع رفاقه في السجن، أن الحياة في الخارج قد تكون متوقفة من أجلهم، خصوصاً أن الزمن هو زمن الثورة. كذلك ربما رأى المهجّرون حركة الناس، السيارات، الألوان، المباني، الجسور، كل شيء عادي، فيما كانوا، على بعد بضعة كيلومترات فقط يعيشون القيامة لحظة بلحظة.
شاهَدوا بقايا شعاراتهم على الحيطان، تلك التي كتبت أول الثورة، ودمّرت مع الزمن فندّ منها حرف أو لون أحيا تلك الأيام. شاهدوا الحلم الذي كان، صيحاتهم الأولى الهادرة تحلم بالوصول إلى ساحة العباسيين أو ساحة الأمويين.
عبروا بلدات وقرى كثيرة، وبعيون مفتوحة لا تنام راقبوا من وراء الزجاج “المشعور” المشاهد الأخيرة من بلادهم، أي كلام قالوه لأنفسهم حينذاك، أي مشاعر؟
لقد وصلوا أخيراً إلى تلك القرى التي رفعت على جانبي الطريق إشارات بذيئة في مواجهتهم، أو لافتات تتحداهم، تسخر منهم وتشمت.. بكت النساء (على ما وصف البعض)، أغمضن أعين أطفالهن، واستشاط الرجال غضباً. عضّوا على الجرح: وهذه أيضاً ستمضي.
لوقت طويل تغزّل سوريون مع أشقائهم الفلسطينيين بأسطورة الطريق، تلك التي تقول إن “الطريق إلى البيت أجمل من البيت”، لم يخطر ببال أي منهم أن يتأمل الطريق بعيداً عن البيت، أن يحمل هذا الطريق معاني لا تخطر على البال، أن يكون نقطة التقاء الماضي بالحاضر بالمستقبل.
ماذا يقول “سوريو الباصات الخضر” لأنفسهم وهم يعبرون الطريق الطويل لمرة أخيرة؟ أهو “الرحيل عكس الوطن من أجل تصويب أدق”؟ و”إننا لعائدون”؟
قد تكون كلماتهم، تأملاتهم، خواطرهم أثناء تلك الرحلة بالذات، فوق تلك الطرقات، هي ما سيرسم المستقبل السوري.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...