الإشمئناط والشوفجة في عالم متحرر
محمد برو
2018-06-23
ربما يبدو العنوان الاستهلالي غريبا، وهو كذلك فعلا، لكنه ليس بخارج عما عهدته العرب، في نحت لمفردات جديدة، فهذه المفردات إنما جرى تداولها في المعتقل السوري، ففي سجن تدمر، كان من المألوف أن يصل بعض المعتقلين، إلى حالة إغلاق أمام المشهد الحالك، والذي لا تلوح في نهاية نفقه أية ومضة لأمل، وحيث يبلغ اليأس ذروة غليانه في النفس، ويشق على السجين استمطار مزيد من الصبر والتحمل، وتلوح مناسبة عامة "كيوم العيد"، تذكّر جميع المعتقلين بذلك الضجيج، والفرح الذي يطغى على البيوت والشوارع والأماسي، ويزيد المشهد بؤسا، ذلك الصوت الذي ينبعث من شوارع المدينة "تدمر"، وهي قريبة جدا من أسوار معتقلنا الرهيب، فنسمع صوت الباعة ومزامير الأطفال، وضحكهم وصيحات لعبهم، يضاف إلى ذلك كله قطار طويل من الذكريات، التي تموج في هذه الساعات، مع كل تكبيرة عيد من مآذن المدينة.
فوق هذا كله ينبري بعض الصابرين والمتعالين على آلامهم، ليصنعوا وسط هذا البؤس اللزج، شيئا من البهجة، أو مقاربة لفرح خجول بقدوم العيد،
يندر أن يمرّ يوم العيد، دون أن يُقتل أحدُنا أو تُكسر بعض أضلاعه، فهو ينتقم من اضّطراره لتفويت العيد، وبقائه حارسا علينا
كي لا تتحطم الروح بمطرقة بؤس جديدة يحملها إلينا العيد الذي يفصلنا عنه جدار وعدة سنوات من الظلام والحرمان والعذاب، فيطوفون على بقايانا البشرية المتهالكة، الغارقة في الأحزان، يلقون تحية العيد، وبعضاً من مواساة تعيد إلى الكثيرين بسمتهم، ورضاهم بما هو مكتوب عليهم.
رغم هذا يقبل الجلاد ليجتاح الجموع، ويسكب فوق جبال الحزن والألم، مزيداً من التعذيب المضاعف، ويندر أن يمرّ يوم العيد، دون أن يُقتل أحدُنا أو تُكسر بعض أضلاعه، فهو ينتقم من اضّطراره لتفويت العيد، وبقائه حارسا علينا، فمن وجهة نظره نحن علة بقائه في السجن وليس العكس.
في مثل هذه الأيام وأشباهها، ترتطم أدمغة البعض بالجدار، وتقفل المنافذ وتتعذر الرؤية، فيصبح شديد الغضب، لأدنى ملامسة مع المحيط، ويصبح السلوك الأمثل، مع هذا الشخص الحزين، تجنبه وتركه وما يريد، ويسمى في هذه الحالة مشمئنط، أي غير مستعد لأي ملامسة أو تعامل أو حوار، وربما يعبر عن هذه الحالة بانفعال حاد، يصل لدرجة الضرب أو الصراخ، أو بانكفاء إلى الداخل، فيغمض عينية ويكف عن الكلام، أو الاستجابة لأي كلام، وربما يمتنع عن تناول الطعام.
ويعرفُ المشمئنط من مشيته السريعة، وإطراق رأسه بالأرض، وجلوسه متدثرا ببطانية، فلا يظهر منه شيء، ومن محاسن ازدحام المكان، بما يقارب المئتي سجين في المهجع الواحد، فإن المشمئنط لا يترك منفرداً بآلامه، إلا بالقدر الكافي لتسكن نفسه، فسرعان ما يبتدره رفاقه المقربون، فيحتضنون غضبه، ويشاركونه الأسى، وما هي إلا ساعات حتى يعود إلى سابق عهده، معتقلا صامدا جاهزا لتلقي المزيد من التعذيب والجلد والجوع والقهر.
وكثيرا ما يواسي مشمئنط اليوم، مشمئنطاً آخر في يومٍ قادمٍ فالأيام دول.
أما في سجن صيدنايا، فقد انحسر هذا المصطلح إلى حد كبير، وكنا بالكاد نسمعه، فالحياة الجديدة في سجن صيدنايا، تفرض إحلالاً لمصطلحاتٍ جديدةٍ مكان مصطلحاتٍ قديمة،
فلان مشوفج، أي أنه يعبر عن غضبه وسطوة حزنة، بمسح الشوفاج بيده، وهو يمشي بسرعة، متجنباً النظر أو الكلام مع أيٍّ كان.
لم يعد الفضاء العام مناسبا لها، فالتعذيب في سجن صيدنايا "قبل عام 2000" غائب إلى حد كبير، والأمل بالخروج من المعتقل وارد، والحرمان الكامل من تنسم أخبار الأهل، بات مثقوبا بفعل تسرب الأخبار، عبر أصدقاء يحصلون على زيارة أهليهم، ويسربون أخبارنا، وأخبار أهلنا جيئة وذهابا، وتوفر فضاءٍ أرحب للحوار والقراءة، كل هذا يجعل السجن أقل مرارة من سابقه، لكنه رغم هذا هو سجن، وقهر وحرمان، وبعضنا يشق عليه دوام الاحتمال، فتراه ومنذ الساعات الأولى للصباح، يسير في أقصى طرف الممر العام، ماسحاً بيده على مشِّعات التدفئة (الشوفاج) المثبتة على الجدران، وما أن يلمحه بعضنا، حتى تسري النميمة، أن فلاناً مشوفج، أي أنه يعبر عن غضبه وسطوة حزنة، بمسح الشوفاج بيده، وهو يمشي بسرعة، متجنباً النظر أو الكلام مع أيٍّ كان.
وكما كانت العادة بالتعاطي مع المشمئنط، بتجنبه أولاً، وتركه لحزنه وغضبه إلى أن تهدأ عاصفته، فيبادره الأقربون لمواساته، والتربيت على قلبه الحزين.
ومن النادر جدا، أن نلاحظ أكثر من مشوفج في يوم واحد، وكأنما يجري ضبطٌ في اللاوعي الجمعي، يراعي قدرة الموجودين، على استيعاب حالة واحدة تخرج عن السياق، وتستنزف طاقةً كافيةً لإعادتها إلى الإيقاع العام.
في هذه الساعات ونحن في أجواء العيد، مازال هناك آلاف المشمئنطين والمشوفجين ينظرون إلينا من ظلمة زنزاناتهم في المعتقلات السورية، ونحن أعجز ما نكون، لمد يد العون إليهم، فلتكن صرختنا لأجلهم، في كل صباح إلى العالم المتحضر، وإلى كل دعاة الحرية، ساعدونا في تحرير المعتقلين.