إسطنبول: حين يكون التوليب في الحَجر
محمد برو
2020-06-06
هل صادفت مدينةً تعرفها، وهي عاريةٌ إلّا من بهائها؟
حين مررتُ عابراً الحديقة العامة في مدينتي حلب، في يومٍ ربيعيٍّ قبيل بزوغ الشمس بدقائق، فاجأتني كيف بدت عماراتها الحجرية، و وجهها الذي لم تلوثه الحركة اليومية بعد. كثيراً ما عبرت من نفس المكان في أوقات مختلفةٍ، لكنَّ زحمة السير وحركة المارة، وانشغالي بحديث صاحبي في الطريق، كلُّ هذا حال دون أن ألتفت إلى كل تلك الزوايا البديعة، التي دهمتني مجتمعةً مرةً واحدةً، وكأنني أنظر للمرة الأولى إلى سيدة طالما رأيتها بأنواع متعددة من ثيابها، لكنني للمرة الأولى أراها عارية كما ولدتها السماء.
إسطنبول هي الأنثى التي تأتيها مئة مرة، وحين تأتيها في المرة الأُولى بعد المئة تجدها بكراً، فهي تدهشك دائما بكل جميل وجديد، ويمكنها أن تدهش زائرها لعشر سنوات متواصلة، بمساحاتٍ ومنعطفات لم يرها من قبل.
حميميةٌ هذه المدينة ووافرةٌ خيراتها، وهي إن بدت في صباحها كالسيدة الجادة، في لباس العمل وصرامة المظهر، لكنها لن تلبث في أول المساء أن تلبس أجمل ثيابها وتتحلى بأجمل مصاغها، وتباغت من يقترب منها بسحائب عطرها الذي لا تخطئه الحواس.
وبالرغم من تنوع الهويات في هذه المدينة الشاهدة على حضاراتٍ متعاقبة ومتصارعة، وبالرغم من تناصف المدينة بين هويتها الإسلامية، وحداثتها العلمانية، إلا أن إسطنبول بكلُّ جوارحها، مدينةٌ صوفية الروح، تشكل الجمعيات الأهلية التي يغلب على معظمها الطابع الخيري، حاملاً أساسياً لطبقةٍ واسعةٍ من أبنائها، سرعان ما تهرع إليهم عند أوَّل حاجةٍ أو نائبةٍ لتقدم يد العون لمن يحتاجها، حتى الحيوانات فيها تحظى بهذه الرعاية، فالكلاب والهررة في إسطنبول وحتى الطيور، تلقى رعايةً عز نظيرها، وكثيرا ما تجد من اشترى طعاما للكلاب أو الهررة، ووضعه في إناء كيما يأكل منه كلبٌ عابرٌ أو هرةٌ هرمة.
وتحار وأنت تتجول في أحيائها وبين معالمها، ففي شطرها الأول لن تجد إلا أناساً ماضين من بكرة الصباح إلى ميادين العمل وكأن المدينة خلية نحل لا تهدأ، وكنتُ أحدث نفسي حين كنت أزورها، منذ عشرين عاماً، أنني لو نظرت إليها من علُ، لوجدت فيها أمةً تعمل بكل دأب، وهذا بالفعل ما حقق قفزتها النوعية في أقل من عقدين من الزمن، وفي مساحات أخرى لا تجد فيها إلا السائحين والزائرين، والمترفين المنقطعين إلى متعتهم، وتجوالهم الذي لا يفتر، فتجد الحافلات والقاطرات تغصُّ بهم، في كل ساعة من ساعات الليل والنهار، فكأنها مدينة خلقت للفسحة والمتعة وتذوق أطايب الطعام وحسب.
واليوم تراها وقد لبست الحداد الأبيض، وكممت وجهها البديع، وحجرت على محبيها في بيوتهم، فلا ينظرون جمالها إلَّا لماماً.
منذ أشهر التقيت في إسطنبول الأديبة والناقدة الأردنية “زليخة أبو ريشة” وهي سيدة تتمتع بذائقة استثنائية للجمال والأصالة، وكانت تشارك في اجتماع لجنة تحكيمٍ لجائزةٍ عالميةٍ للرواية العربية، وحين سألتها عن أهم شيء تريد فعله في هذه المدينة الساحرة، أجابتني دون تلكؤ هناك أمران مهمان، أن أزور متحف البراءة، وأن أنال وجبة غداء عند “نصرت”.
متحف البراءة هو المتحف الذي أنشأه الروائي التركي “اورهان باموق” في إسطنبول سنة “2012”، باسم روايته “متحف البراءة” التي نشرها عام “2008”، وقد جمع معظم معروضاته تلك من الأسواق الشعبية، ومن مصادر متنوعة، وكان لهذه الأشياء العادية والأدوات الشخصية، دورٌ هام في تكوين البناء الروائيّ، لقصة الحب التي ضمها كتابه.
أمّا “نصرت غوكشيه” صاحب أحد أشهر وأغلى المطاعم في إسطنبول، وأكثرها جذباً للسواح، فهو مطعم يحمل اسم صاحبه، وهو شاب يمتلك براعةً استثنائيةً، في تحضير وتقديم شرائح اللحم المشوي، ويتميز بطريقته الطريفة في رش الملح على هذا اللحم، ومنذ عام “2010” وهو يحظى بشهرة، واسعةٍ، جعلته محجاً لطالبي متعة التذوق والرفاهية الاستثنائية.
واليوم وأنت تتجول خلسة في شوارعها الواسعة وازقتها الضيقة، لا تجد فيها إلّا من ألجأته الضرورة للخروج من منزله، فقد أرخى فيروس كورونا غلالته البيضاء، على الحياة في هذه المدينة التي لا تهدأ.
على مدى ثمانية أعوام عشتها في إسطنبول، كان رمضان يعني عشرات الموائد العامة، التي تحتل الساحات الكبرى، باحتفالية لا تقتصر على الصائمين، فهي فرصة للمشاركة العامة، وليجلس الناس الى بعضهم البعض، وإن باعدت بينهم الأصول واللغات، فتجد التركي إلى جانب العربي والكردي والسائح الأوروبي، يجلسون إلى ذات المائدة وينتظرون موعد الإفطار.
معروف عن الشعب التركي عموماً، انضباطه العالي بالقرارات العامة، فالدولة العليَّة تحتل مكانةً رفيعةً في نفوس الأتراك منذ قرون، وهذا ما يفسر التزام قطاعاتٍ واسعةٍ منهم، بأعلى مستويات التباعد الاجتماعي طوعاً.
سيغادرنا فيروس كورونا قريباً جداً، وستعود جميع المدن إلى إيقاعها وحياتها المألوفة، إلَّا أن سيدة المدائن الساحرة إسطنبول، ستحظى بسيلٍ استثنائيٍّ من الزائرين، العاشقين لهذا السحر الشرقيّ، الممتزج بكل ما هو غربيٌّ وحديث، وما تزال حدائق التوليب تنتظرهم.