“الجنون هو أن تفعل ذات الشيء مرةً بعد أخرى، وتتوقع نتيجةً مختلفةً”. آينشتاين
تهكّمَ “ورد اليافي”، أحد السوريين، في تعليقه على التظاهرات التي اجتاحت الشمال السوري قائلًا: “الأسبوع القادم، سنرى الجولاني في التظاهرات وبالصف الأول”؛ فرد عليه كثيرون بتهمة جاهزة: “شبيح، ضفدع”.
التظاهرات التي أعادت روح الثورة، والتي أعادت للعلم الأخضر أيام ازدهاره، والتي أعادت السوريين إلى الشهور السبعة الأولى في الثورة التي بدأت قبل 8 سنوات، مع ملاحظة أنني لا أصف المشهد، وإنما أعيد كتابة ما اجتمع معظم السوريين على كتابته، خلال الفرحة الهستيرية التي سادت لدى المعارضين، ولن أدخل في تفاصيل التعبير عن المشاعر، لأنها أكثر من أن يحتملها مقال واحد.
يمكنني أن أطرح بضعة أسئلة هنا: مَن يتظاهر في إدلب؟ أين (هيئة تحرير الشام) التي حصرت دورها في إدلب وريفها طوال سنوات في قمع أي رأي يخالف رأيها، وفي إحراق العلم الأخضر، وفي تفريق أي تظاهرة مهما كان حجمها صغيرًا، وفي تطبيق حدود الدين كما تراها هي، وفي تخوين الفصائل الموجودة؟! وأما الفصائل، فحافظت على القتال فيما بينها على مدى سنوات وجودها، في ما يسمى “مناطق محررة”، وبقيت وفيّة لتصفية بعضها.
هل يمكن لأي من النخب، التي تنافست بالاحتفال بالتظاهرات التي اشتعلت مجددًا، أن يكون صادقًا مع نفسه، وأن يمتلك جرأة في أن يصف المشهد على حقيقته، المشهد الذي يقول إن قوات النظام اليوم تشمل مقاتلي المصالحات من المدن التي هجرها، مقاتلين من داريا والغوطة ودرعا، وأن من تظاهر في إدلب بجانب أهل المدينة هم مهجّرو داريا والغوطة ودرعا؟ وهل يمكن أن يمتلك جرأة في أن يتخيل أن الواقع هو عكس الظاهر؛ لأن مشكلتنا الحقيقية تكمن في أننا نتعامى عن أن مثالية الوسيلة لا تغطي غموض الغاية.
الواقع يقول إن من لم يتعلم من تجربة 8 سنوات من القتل والموت والتهجير، فإنه بالتأكيد سيدفع ثمنًا لن يختلف عما دفعه سابقًا. والواقع يقول أيضًا إن إدلب اليوم محكومة من (هيئة تحرير الشام) المصنفة إرهابيًا، وإلى جانبها مجموعة من الفصائل المتناحرة في معظم الأوقات، وقد اتحدت ظاهريًا بأمر من الممول، وشكلت فصيلًا واحدًا.
بعيدًا عن نظرية المؤامرة، وبالعودة إلى واقع التصريحات السياسية العالمية، حول سورية وإدلب وإعادة الإعمار وإعادة اللاجئين، وبعيدًا عن التصريحات الإعلامية المستهلكة، فإن العالم الغربي المدافع عن حقوق الإنسان، والدول الضامنة سواء أكانت الراعية للنظام أم للمعارضة، اتفقوا جميعهم على أن يكون سيناريو إدلب مختلفًا عما سبقه من سيناريوهات؛ فالمحافظة التي تضم 3 ملايين سوري، على أقل تقدير، ستكوّن كارثة لا يمكن لتلك الدول احتمال عواقبها في حال تم اقتحامها، سواء من حيث عدد الضحايا أو عدد اللاجئين، وبالطبع النتائج في هذه الحالة ستقوض كل ما سعت روسيا من أجله، روسيا التي قضت الأسابيع الأخيرة في جولة دبلوماسية، من أجل إقناع الدول الغربية بدفع أموال إعادة إعمار سورية، الدول التي ربطت أي إعادة إعمار بالانتقال السياسي والإصلاحات السياسية، فضلًا عن رفض تركيا استقبال اللاجئين الذين سيتدفقون بأعداد ضخمة جدًا، في حال تم تدمير إدلب ودخولها بالقوة، بالإضافة إلى تهديدات أميركا بأنها لن تقف متفرجة على المجازر التي يمكن أن تقع على الهواء مباشرة، خصوصًا أن السياسة الأميركية اليوم لا تشبه سابقتها بالأمس، وترامب لا يشبه أوباما، من حيث نقض الوعود التي تثبت قوة أميركا، لتأتي النتيجة اتفاقًا روسيًا تركيًا، يرضي الأطراف إلى حد ما.
الواقع يقول إن الاتفاق التركي الروسي الذي جرى مؤخرًا، ما يزال غائمًا، على الرغم من أنه أجّل أي تحرك عسكري، وأقر منطقة منزوعة السلاح بين مناطق “المعارضة” و”النظام”، ولكنه بالمقابل ترك الأمور غائمة، فالتهديد الحقيقي بالنسبة إلى روسيا -حسب ما قال لافروف- هو الكيانات في الضفة الشرقية للفرات التي ترعاها أميركا، ويقصد مناطق (قسد) التي تتخوف منها تركيا أيضًا، وفي الوقت ذاته، فإن جبهة “النصرة” عليها أن تختفي، وهو الأمر المتروك لتركيا. وقد قالها لافروف صراحة: “خطوة مرحلية، لأنها ستتيح منع القصف من منطقة خفض التوتر في إدلب، لمواقع النظام وقاعدة حميميم”، فهل فهم السوريون شيئًا؟
المشهد في سورية اليوم سوريالي، ولكنه منظم، وليس عبثيًا، إذ تتابع سوريالية الأحداث في سورية تتاليها، وكأنها مخطط دقيق مرسوم، يقوم أبطاله بالتنفيذ الدقيق، فيخرج الجولاني، ليحتل دور البطولة من جديد، بالتسامح مع التظاهرات هذه المرة، بالطبع ثمة أوامر ينفذها، ولكن الشعب “المعتر” الذي انخدع سنوات ما يزال قيد الخديعة، ومع غياب دور النخبة وانغماسها مع مشاعر الشعب، تصبح الصورة دامية، لجهة طريقة الفهم، ولجهة تجاهل التاريخ، ولجهة غموض الغايات والنتائج.
العالم يتعامل مع إدلب على أنها معقل للإرهابيين، ويتناسى الجميع أن في إدلب تجتمع سورية، كل المدنيين الذي تم تهجيرهم من مدنهم، هؤلاء المدنيون مع أطفالهم وعوائلهم عرضة للخديعة من الدول الكبرى والضامنة، فماذا يفعل السوريون المهللون للخديعة، والمتعامون عن قراءة الواقع، والجالسون خلف شاشات الكومبيوتر يصفقون للتظاهرات السلمية التي خرجت، في مكان غير مكانها، وزمان غير زمانها.
الوضع في إدلب معقل المعارضة الأخير معقّد وفوضوي، لكن هناك نوعًا من النظام في هذه الفوضى، على الأخص بسبب استثمار تركيا المحفوف بالمخاطر، في محاولة توحيد المعارضة السورية في شمال غربي سورية، وتهميش المتطرفين فيها، وتأكيد سيطرتها على مختلف أطراف المعارضة، وإذا ما سُمِح باستئناف العمليات العدائية؛ فإن الخراب الناجم عنها سيكون غير مسبوق في هذه الحرب المستمرة منذ سبعة أعوام، وستكون التداعيات واسعة النطاق، وسنحمل نحن -المعارضين المتجاهلين “وليس الجاهلين”- على عاتقنا بعضَ الدم هذه المرة.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...