البكاء الكاذب.. إدلب في ذمة مَن؟
هنادي الخطيب
2020-01-04
"حين تكرر ارتكاب خطأ ما، فلن يكون خطأ بعد ذلك: إنه قرار واختيار"
باولو كويلو
وكأن كلام كويلو قيل خصيصاً عن خسائر السوريين المتراكمة خلال سنين وعقود، والتي تبدو إدلب وما حدث فيها خلال الأيام الماضية من مجازر وكأنها شريط فيديو يتكرر بدون أي تغيير، إذ قبل ريف إدلب كانت درعا والغوطة وبالطبع حلب وحمص.
أكثر من أسبوع مضى على مباشرة تطبيق سياسة الأرض المحروقة بأقسى وأبشع وسائلها على بعض مدن ريف إدلب، وبضعة أشهر مضت على التمهيد للمجازر التي نتفرج عليها هذه الأيام، وبضعة سنين أحرقت سوريا كلها، ولا تراجع لعدد ونوعية المجازر الجماعية؛ ولا ندري كم من الوقت ستستمر تلك الهجمة رغم كلام الضامنين التركي والروسي عن هدنة ما، ورغم ارتفاع صوت الرئيس التركي قليلاً ضد الهجوم الروسي والأسدي على تلك المدن التي غرقت بدمائها.
لا يمكن أن نعرف عدد الأشهر والسنين، ولا عدد السوريين الذين سيُشردون في العراء، ولا عدد الدروب التي ستغطيها جثث الضحايا. لكن ما نعرفه جيداً هو النتيجة الحتمية المتكررة التي سنصل إليها: استسلام غير مشروط، ضحايا مدنيين وغير مدنيين، وعشرات آلاف النازحين والمشردين؛ لتستمر المأساة السورية وكأنها فيلم رعب خيالي، لكن صيحات المصابين فيه حقيقية لا يسمعها أحد.
يقول المثل الأميركي: “إن خدعتني مرة فعار عليك، وإن خدعتني مرتين فعار عليّ”؛ فكم من المرات علينا أن نُخدع بسبب تعنّت ما يسمى الفصائل المسلحة، وشعاراتها الرنّانة، التي تخفّت دائماً خلال ساعات مع بدء روسيا الهجوم، وإحراقها للأرض ومن عليها ومن فوقها. فتنطلق التبريرات والاتهامات والتخوينات، مترافقة مع كم الأفواه والتشبيح ضد كل من يجرؤ على السؤال عن سبب تكرار السيناريو، أو كل من يحاول أن يفكر منطقياً ويطرح حلولًا أخرى تجنّب المدنيين القتل والتهجير والدفن تحت الأنقاض؛ وضد كل من يسأل السؤال البديهي: هل وقوف الفصائل عاجزة عن حماية أي مدني، وعن توفير خيمة لنازح واحد، وعن التصريح عن الوعود الحقيقية التي تلقوها، سوف يغير الخاتمة؟
حتى اليوم، ترتهن مناطق المعارضة في سوريا لمصالح أو ربما لمزاجيات وأحياناً لعنتريات وغالبا لبيع ولشراء ذمم، من دون أن يخرج واحد من تلك المعارضة ويعترف بالخطأ، أو يعتذر عن تلك الأرواح التي تسفك كل بضعة أشهر. بل الأشد مرارةَ على النفس أن نفس من انتهز واستغل وباع واشترى يوزع شهادات الوطنية والشرف والثورية على السوريين، وكأنه بدلا من بشار واحد، تم إغراقنا بألف بشار.
خلال شهر ونصف "ما بين مطلع تشرين الأول حتى 21 كانون الأول الجاري" أحصى فريق "منسقو الاستجابة السريعة"، مقتل أكثر من 225 ضحية بينهم 74 طفلاً وتهجير أكثر من 200 ألف إنسان، توزّعوا على مناطق حدودية ومخيمات عشوائية، بعد أن سيطر النظام على عشرات القرى والبلدات بالريف الجنوبي والشرقي من إدلب. ومع هذه النتيجة هل يحق لنا أن نسأل الفصائل المتباهية بشعاراتها، ماذا فعلتم ولماذا، وماذا أنتم فاعلون الآن؟
لما قبل أيام قليلة حافظ "الجيش الوطني" في مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات، على موقف صامت إزاء المعارك الدائرة في إدلب، ورغم المطالبات الكثيرة لهذا الجيش، المحسوب على المعارضة، والمدعوم من تركيا، بالتدخّل لتخفيف الهجوم الوحشي على قرى ومدن إدلب، ولمساندة الفصائل على تلك الجبهات، ظلّت قيادة ذلك الجيش متجاهلة لكل النداءات، ولم تتخذ أي خطوة لدعم جبهات إدلب، وبعد آلاف النازحين والمشردين ومئات الضحايا، تحرك "الجيش الوطني" نظرياً، معلنا نّيته التدخّل، إلا أنه سرعان ما خرج خبر للإعلام عن منع "هيئة تحرير الشام" مقاتليه من الدخول لجبهات إدلب، رغم أن إعلان المتحدث باسم الجيش عن النية بالتدخل، اقتصر على قرار إرسال 1000 مقاتل
الكوميديا السوداء تستمر، وتجاهل مأساة السوريين في مناطق إدلب غرق أكثر في انعدام المسؤولية، مع تصريح "وزير الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة"، اللواء سليم إدريس، عن عقد اجتماع في سورية مع قادة التشكيلات في "الجيش الوطني"، وإعداد الخطط للمشاركة في التصدي للحملة على إدلب"، وأنّ "قوات منه قد بدأت بالفعل التحرك نحو جبهات القتال في ريف إدلب الجنوبي الشرقي".
لنتذكر، امتناع فصائل الجنوب عن التحرك أو إطلاق رصاصة واحدة، على رغم استغاثات الغوطة قبل سقوطها، والتي كانت نتيجتها سقوط الغوطة بعد أن سوّى نظام الأسد وروسيا بيوتها بالأرض، وبعد أن قصف دوما بالكلور، ومن ثم انصاعت الفصائل بعد أن ملأت الإعلام ضجيجاً عن الصمود والتصدي، وبدأت الفضائح بعد السقوط بالتوالي.
كعادتنا في كل مصيبة تحدث، وكلما اتخذ قرار روسي بتهجير منطقة والسيطرة عليها، نبدأ بالندب، ونلقي المسؤولية على التخاذل الدولي وتخلي أميركا عن المنكوبين، وكأن أحداً في هذا العالم بما في ذلك الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية والحقوقية لديه أدنى اهتمام بما يقوله أولئك، أو كأن تلك الشعارات ستمنع القصف الروسي، لتصبح التساؤلات السابقة جريمة، وكل من يحاول التذكير بها أو التحذير من السيناريو المعروف الذي سيحدث، خائن تارة ومتخاذل تارة أخرى، وبالطبع سيصبح هدفاً سهلاً للشتيمة وتشويه السمعة، إذاً هل يحق لنا أن نسأل ماذا وراء كل ذلك التعنّت؟
سنخرج من معركة إدلب، بلا بيوت ولا بشر، بلا مصالحات، ولكن بمهجرين ونازحين، ولن يعتذر أحد. لا أميركا التي تصرفت بشكل روتيني ومكرر، وفق وعود خلبية وغيوم إدانات لم ولن تمطر. ولن تعتذر روسيا لأنها تقتل السوريين منذ سنوات بطريقة ممنهجة ومنظمة، ولن يعتذر "الجيش الوطني" ولا الفصائل، ولا تركيا كدولة ضامنة للاتفاقات والمحادثات مع روسيا وإيران، ولن يعتذر العالم لأنه اعتاد رؤية الموت السوري، ولن يعتذر المطبلون ومطلقو الشعارات الرنانة التي أُثبت أنها مجرد كلمات ترمى لحصد شعبية وهمية، لن تعتذر الفصائل لأنها رفضت الجلوس على طاولة التفاوض على أمل حقن بعض الدماء.
نعم أيها السوريون، لقد أصبح قتلنا عادة، وتشردنا خبرا، وألمنا شريطا إخباريا، ومآسينا سلسلة أفلام رعب لم تعد تستقطب المشاهدين والمتابعين.