حُجُرَاتُ المَوتِ الأنيقَة
جوان تتر
2018-09-29
العامُ الصِفر:
وُلِدْتُ قَبْلَ كُلِّ شَيء، قَبْلَ الحَربِ وَالزَمَن، أبصَرتُ نُوراً آنَ خُروجي من مأوايَ إلى العالَم...
الوِكرُ الباطنيّ كانَ هادئاً ومعتِمَاً، وثمّة متّسَعٌ لاصْطيادِ النُجومِ والأبريَاءِ مِثلي في ذاكَ المأوى، إخوَتي خَبِرُوا السِّردابَ عَينهْ، تَعَرّفوا عَلى المَكَانِ الذي كُنْتُ فيهِ قَبلَهُم، رَكَلوا الجُدرَانَ!، لا، لَمْ تَكُ جُدْرَانَاً، سَائِلٌ أحمر قَالوا عنه: "دَمٌ" يَتَسَلّلُ إلى أنوفهم وَيَتحرَّرُ من الأذُنِ اليُسرى!، كَانت يَدَايَ مُلَطّختينِ بالسَّائلِ، كَأيدي إخوَتي.
لَم أُخَالِف، خَرَجْتُ كَمَا يَخْرجُ الآخرونَ بِصَرْخَةٍ مَكتومَةٍ، عَلامَةُ الحَياة، صَفَعَني الطبيبُ عَلى مُؤخّرتي كَي أستفيقَ من العَتمَةِ الهَانِئَةِ التي كَانت تَلُفّني قَبل تِسْعَة أشهُرٍ، بعد ذلكَ، تُهْتُ، كَمَا تَاهَ الآخرون، أو - كَمَا يَتوهُ الآخرونَ عَادةً -، يَتَفرّسونَ بالمرايَا، يَرومونَ شَيئاً سَيعيدُهم إلى صَوابِ العَتمَةِ القديمة، يقيناً يصفعهم كي يَنسوا الشمسَ وكلّ الأشياء التي أبصروها في حياتهم.
أحببتُ بعدها، تفّاحةً على اليمين، وأخرى على اليسار في مَسَاحةٍ فارهةٍ من الصَدرِ، قيلَ عن الشيءِ نِصفٌ آخر، أو ربمّا، امتدادُ الخلقِ، لا أعلمْ، وقيلَ عنهُ كَذلكَ وَهمٌ. تُهتُ، ونَسيتُ أن أُغلِقَ البابَ والنافذة عند خروجي لأي عملٍ،
قالوا: أفِقْ!، دع عنكَ هذا الشيء وامضِ بمفردِك!!.
العامُ الأوّل:
يدايَ تنموان، تَدبُّ الحياةُ في شراييني، تمرّنتُ على أن أحرّكَ حاجبيَّ كي أبدو وسيماً أمامَ الضيوف: "أتيتَ بعد سنواتٍ طويلَةٍ، وقَفَزنا فوقَ مقابرِ الأولياء كَي تخرُجَ من وِكرِكَ، هَدَمَ ماءٌ منزلَنا الترابيّ، لكنَّك أتيت" قالَ أبي.
لم أتعرّف على جدّتي بجلاءٍ، وعمّي الصغير كان يحاولُ رسم ابتسامتي فيفشَل، عمّتي شبّهتني بأبي النَّزق، وكنتُ أعاندُ كي أتخلّصَ من قِماطي، فتنهرُني الوالدة.
أبي دوّن رسائلَ ليليَّة فقدتُها حينَ كَبُرت، واحتفظَ بورقة الروزنامة صباح مجيئي إلى العالم.
النورُ كلُّهُ خفيضٌ الآن، هكذا أتذكَّرُ النورَ في الغرفةِ الطينيَّة الرؤومة، نفترشُ الأرضَ ليلاً كي لا تتصدّع العظامُ في الظهور، أقنعني الجدّ فيما بعد.
مساءً كانَ النسيمُ يخبرنا حكايات الأعوام القادمة، قلنا: وهمٌ، ما سيأتي، اللعبةُ تنتهي، وسيكونُ كلُّ شيءٍ على ما يرام.
العامُ العاشر:
تكشّفت الجثامينُ، أجسادٌ غضَّة تمرّ كل أسبوعٍ مَحمولَةً على نعوشٍ، يتوقّف الأب محنيَّ الرأسِ أمام باب المسجد في انتظار الغَسل أو "الطهارةِ" كما يروَّج عن الأمر، يُتمتمونَ ويبعثونَ التحَايَا لذكرى الميّتِ الممدَّد،: "إنّهم يؤوبونَ إلى غيابهم"! قالت أمي، وكنتُ أتأمَّلُ مكبِّر الصوتِ أعلى القبَّةِ الخضراء يصدحُ باسم الميِّتِ الذي كانَ قد استدانَ علبة سجائر من الحانوتِ نهايةَ الحيّ، غفرَ لهُ صاحبُ الحانوتِ ممتعضاً، كيف لي أن أطالبهُ الآنَ وهو في مكانٍ لا يحتاجُ فيه إلى الشراء؟!. كلُّ الأشياء الصغيرةِ داخل قلب الميِّتِ تبقى حيث هيَ، يحملونه، ومن ثم يسيرونَ خلفه جَمعَاً، يوصلونه إلى المكانِ/ الأزلِ، يفتحونَ راحات أكفّهم ويتمتمون مرَّةً أخرى،: "لا ينبغي ترك الميت وحده"! قال أحدهُم، وهو الموحِشُ مُنذ أن غادرَ المأوى، تتلقّفه يدُ التراب الآنَ كأبٍ يتلقّف طفلهُ من يدِ الأمِّ وهو يتهادى في النزول. يودّونَ قول شيءٍ له، أن يسألوه عن دمهِ، وعن صورهِ القديمةِ، وعن أطفاله خارجَ الحفرةِ/ القبرِ، ينسونَ بغتةً الأمرَ، ويتذكَّرُ كلٌّ حفرتهُ القادمة، يتأكّدون باستراق النظرِ العميقِ إلى الداخل، لا مساحةَ لجلبِ الأواني التي نحبُّ، ولا مكانَ لتلفازٍ أو مكيِّفٍ، ضيقٌ وضيقْ. وحدهُ من حفر الحفرةَ، يبتسم، يضيفُ خطّاً مائلاً بقلمِ الرصاص على الروزنامة، يحملُ عدّته ويمشي بضعَة أمتارٍ ليسقي زهرةَ الموتى.
العامُ العشرون:
رأيتُ عمَّال التنظيف بقبعاتٍ حمراء متهرِّئة، يمضغونَ كسلَ الليلِ السَّابِق وينفضونَ عتمةً عن الأعين، تناولوا الفطورَ تحتَ ظلِّ شجرةٍ وهميَّةٍ في باحة دارٍ وهمٍ، قبّلوا أطفالهم المتأخرين، راقبوا الأبنيةَ وهي تعلو أرواحَهم، - تخنقهم الأبنيةُ في علّوِها نحو الله -، أعطوا بطاقاتهم الشخصيَّة للمدير، ارتدوا لباساً وسخاً، ماذا نفعلُ بورقٍ مقوَّى يحملُ رسوماً ليست لنا!؟، أشباحُنا طليقةٌ، ذلك كافٍ كي نكون داخل شرايين الحياة، آمنوا أنّ السردَ يوماً سوف ينصفُهُم، يرتّب لهم حجراتٍ أنيقة في الخيال ويحقّق الوعدَ، لاحَظُوا كتباً ممزَّقةً مرميَّة أمام الأبواب، أقلاماً مكسورةً وصوراً للمقابرِ وعلبَ بلاستيكٍ، أرواحاً محبوسَةً داخل أكياسٍ مُحكَمة الإغلاق كي لا تنتشر الروائح، هكذا خمَّنوا تحت شمسٍ صباحيَّةٍ تلدغُ، أحدهُم غنَّى ضَجَراً من ورقةٍ نصفِ مبلَّلة: "أولادي في الخارج، أولادي داخلَ الكتب".
العامُ الثلاثون:
رقّموا الأمواتَ من الصفرِ إلى المائة، احتاروا من يكون الأوّلَ في القبر، منهم من تَشَبّهَ بالميَّت كي يصيرَ رقمَاً، ومنهم تكفّل بحملِ النعوشِ كلّ موتٍ، ومنهم من غافلَ الحاجز العسكريّ بعد أعوامٍ طويلَةٍ من السيرِ الوئيد، قَضَى المَوتَى حياتهم وهم يُشْهِرونَ بطاقاتهِم الشخصيَّة في وجوهِ العساكرِ والعالَمِ، أرقامٌ... أرقام..، لم يحملوا سكاكينَ أو رصاصاتٍ أو مسدسَّات، تأبطّوا أوراقَ السفارات وحجوزاتَ الفنادقِ الحقيرة،: "أخذوا منّا أطفالنا ورموهم في البحار الجائعة" قالوا.
أنا كنتُ في غفلةٍ، أو ربمَّا ادّعيتُ الحزنَ لعلّني أصِلُ إلى رقمٍ، أو أرقَّمَ مرَّةً، يحملونَ القلمَ الغليظَ ويدوّنونَ على جبهتي أربعة أرقامٍ في أربع خاناتٍ، رآهُم العالمُ كلُّهُ عراةً، - رأيتهُم كذلكَ -، لم يبقَ أحدٌ إلّا ورأى دماءَهم تسيلُ في الشوارعِ، بقلوبهم رمّموا الجرحَ ومن ثمّ أوصدوا الأبوابَ وماتوا.