عبد الرحمن منيف بريشة علي رشيد
صالح الرزوق
2018-10-13
ما يلفت انتباهي في أعمال عبد الرحمن منيف هو قدرتها على التحريض لتوليد قراءات مختلفة. فلطالما كانت رواياته وأعمال السيرة، التي كتبها للمكان ولنفسه ولبعض الأصدقاء المغمورين، مجالًا للتأويل، من مشكلة الهوية الوطنية المركبة والمتردّدة بانتمائها، إلى مشكلة الوعي الكوزموبوليتاني بقضايا أساسية هي الحرية. وقد اعتبر منيف الحرية شرطا أساسيا لوعي الكائن بالوجود وأضفى عليها تفسيرا اجتماعيا. ولكن لا أعتقد أنه بأبعاد سياسية، إنما بقليل من التساهل يمكن النظر إليه على أنه ينبع من اهتمام وشجن سياسي.
لقد صدرت من أعمال منيف الكاملة طبعات عدة. وكان لكل طبعة غلاف تزينه لوحات لفنانين معروفين ربطت منيف بأغلبهم صداقات حميمة أشار إليها في بعض أعماله كـ"أرض السواد"، و"حين تركنا الجسر". فالطبعة قبل الأخيرة كانت بأغلفة من تصميم الفنان مروان قصاب باشي، في حين أن آخر طبعة حملت أغلفة للفنان علي رشيد. وكانت أغلفة قصاب باشي زاهية الألوان، تحمل مساحات بالأصفر والأحمر والأخضر، مع مشاهد طبيعية ووجوه، وكلها دون انطباعات. بمعنى أنها وجوه مسطحة وتائهة، ومختلفة مع نفسها. إنها أغلفة مشحونة بالمفارقات بين طبيعة الكائن ونفور الطبيعة، وتثير عند الإنسان وعيا خاصا بذاته.
ولكن ما علاقتها بأعمال منيف؟
يبقى هذا السؤال معلقا وبلا جواب. فـ "قصة حب مجوسية" بما تحمله من تأثيرات عن التفسير الشرقي للغرب، تختلف تماما عن روايته "حين تركنا الجسر" التي تهتم بعقدة الخصاء وندبة حرب حزيران، وبتحويل البارودة من مهمة تحرير الأرض لتحرير النفس من أغلالها وماضيها. ويمكنك أن تقول نفس الشيء عن خماسية "مدن الملح". إنها مشاهدات تراكمية عن قهر الطبيعة وجفوتها والندرة المفروضة عليها. وجاءت بعد نقاشات مثمرة وطويلة مع منيف، ولذلك هي تحمل كل علامات الميتانص ومفهوم التوازي بين المتخيل والمنظور. وقد وضعت بعين اعتبارها ضرورة جذب المشاهد وأسر أنظاره بلغة الألوان والأشكال. حتى الشجرة كانت بكل ألوان قوس قزح، وغريبة عن طبيعة بلادنا أو الطبيعة التي تستضيف الأحداث.
وهو ما لم يفعله علي رشيد. لقد حاول أن يقرأ النص وأن ينقل محتواه. ولدى الاستفسار منه: هل قرأت منيف قبل أن تصمم أغلفة أعماله أم اكتفيت بما لديك من معلومات متوفرة عنه؟ أكد أنه عايش الروايات، وحاول أن يقيم علاقة نفسية مع أبطالها. ولم يغفل ضرورة تفجير اللوحة لتكون على مستوى الحبكة وجزءًا من الكتلة الإجمالية للغلاف أيضا.
لا شك أنه توجد شيفرة تربط تصميمات علي رشيد بشخوص منيف. ولكنها أيضا شيفرة انفصالية. فالغلاف في بعض الحالات كان غريبا على المعنى، ويعمد إلى معارضته أيضا. أي أن قراءة الغلاف لم تكن تمهيدا أو مدخلا لجو العمل وإنما تفسير خاص من عنديات الفنان.
فغلاف "عالم بلا خرائط" مثلا حمل توقيعا بخط عريض وأسود على خلفية بيضاء. ولا أعلم لماذا اختار الفنان هذا التخطيط. هل هو بدافع من كلام جاك دريدا عن التوقيع الخاص لكل كاتب، وهل أراد أن يقول إن هذه الرواية هي متميزة وتختصر سيرة منيف الأدبية؟.
المشكلة أن هذا العمل كان بالاشتراك مع جبرا إبراهيم جبرا. ولكن بقية السلسلة تحمل وجوها ومساحات لونية، وبطريقة الكولاج. وتنفصل عن الفهم الواقعي لرؤية منيف للطبيعة. وتغامر بتفسير رمزي لذهنية النص وليس لشخوصه. بمعنى أنها أغلفة تقرأ النشاط النفسي لعقلية الكاتب أثناء تركيب شخوصه. وأعتقد أن علي رشيد نجح في ترميز عالم منيف وفي تعويم أجوائه. وقرأ تلك الروايات بلغة تجريدية.
الشخصيات هي مساحات دون ملامح، وذات محتوى لوني ينم عن الغضب واللامبالاة والالتزام أو التضحية (بوجيز العبارة المكابدة والمعاناة)، وبينها وجه مندثر التعابير ولكن ثقيل الملامح. وعلى الأغلب هو وجه الكاتب نفسه، أو الراوي الضمني والعليم بكل الملابسات، الذي يملي علينا رؤيته.
ويوجد هنا فرق واسع عن وجوه قصاب باشي. فقد كان باشي يضعنا أمام إنسان مشوه وباهت ويغلب عليه الشعور بالندم والتشابه مع ما حوله، وليس في ذلك عيب أو نقيصة، لأن كل أبطال منيف هم نسخة من يسوع يساري يحمل صليبه ويتقدم نحو مصيره المحتوم. في حين أن وجوه علي رشيد تعي ما حولها. فهي ذات ظل داكن وواضحة وفي حالة نشاط، وتعلو الرأس أسهم وخطوط تدل على التفكير. أو لها عيون واسعة يحاول أن يتستر الفنان على معانيها. لكن نلاحظ كيف أنها تسترق النظر.
ومثلما أعتقد أن عبد الرحمن هو شهادة فكرية على مرحلة معقدة من تاريخنا الاجتماعي المعاصر، فإن الاختلاف في قراءته يعني أن أعماله ذاتية وليست واقعية كما نحب أن نروج لها. وبالعودة لأولى رواياته وهي "الأشجار واغتيال مرزوق" يمكن أن تشاهد توسيع الهم الوجودي على حساب التفسير الواقعي. وأجزم أنه بدأ من حيث انتهى تولستوي. وهنا أرى أن منيف كان مغرما بهذا الكاتب الروسي، وهو تحت تأثيره حتما. فافتتاحية أول أعماله تكرر صدى خاتمة تولستوي في "آنا كارنينا". فقد رسم صورة لشخصية إنسان مشغول بفكرة القيود والحركة. ووضعه على متن قطار يجر نفسه على القضبان.
وفيما أرى، شكّل هذا المشهد إطارا لكل لوحات قصاب باشي، الطبيعة التي يراها البطل من النافذة ووجوه الركاب المتشابهين الذين كانوا معه في العربة. بينما نظر علي رشيد لوجه البطل على أنه هو الكاتب، وللركاب على أنهم هم شخصيات الرواية.
إن الجانب الدرامي في التصوير والخطوط لا يقل أهمية عن دراما الكتابة نفسها. فاللوحة تجريد آخر للخيال. وربما خلال ذلك تتعرض الفكرة لشيء من الانزياح المعرفي، فتلغي معنى وتثبت غيره. وتخلخل المعاني وتقويضها يغطيان النقص المعزو للمادة. فأبطال منيف خاسرون وأنهكهم البحث عن عالمهم المفقود. وبالمثل تبديل أغلفة أعماله تدل على تبدل معنى الشخصيات وهي تنتقل من جيل لجيل ومن فترة لفترة. إن النص ليس مساحة متعالية على التفسير. ويخضع لمؤثرات من الواقع الذي جاء لتفسيره وليس لتفريغه.
فهل كان مروان قصاب باشي ينظر لعالم منيف على أنه صور ساكنة من عالم مفقود، والروايات مرثية تبكي على ما فرطنا به؟. وهل ينظر علي رشيد لمنيف على أنه "بطل من زماننا"، بتعبير الكاتب المعروف ليرمنتوف، وينفخ بالنفير لقيامة فورية؟؟..
على الأغلب أعتقد ذلك.
حلب، 2018