في كل قارة كان له زوجة ومولود
2006-12-09
خاص ألف
طرق الباب ودخل ليبادره صاحب المحل بتحية باردة. كان الرجل في نهاية سن الخمسين، أزرق العينين، أشقر الشعر وضخم الجثة نسبيا. لباسه يعكس أناقة الباريسيين، وربطة عنقه معقودة بتفنن واضح، لا كربطة بعض أصحابنا الذين يظنون أنه كلما كبرت عقدة الربطة تقلصت العقدة الأخرى، أعني العقدة النفسية. رد عمر التحية قائلا:
- بنجور موسيوه
- نعم، أنا في خدمتك.
- أظن أن هذه الكمبيوترات المعروضة للبيع؟
- بالتأكيد. قل لي عن مواصفات ما تبحث عنه وعن حدود ثمنك وأنا أدلك على أحسن ما عندي.
- أبحث عن كمبيوتر نقال يساعدني على الكتابة، وحبذا لو كان مصحوبا بطابعة وكان الثمن مناسبا.
ابتسم الفرنسي، ثم أخذ وقتا كافيا للتفكير قبل أن يواصل:
- عندي طلبك، كمبيوتر محمول وثمنه مناسب جدا.
قام وناول عمر الكمبيوتر من داخل المحل وأخذ يعدد له محاسنه ويشرح ما تقوم به الأدوات المصاحبة له. شغله وبدأ يكتب ضاربا بأصابعه فوق لوحة المفاتيح من غير تركيز ليطبع ما كتبه بعد ذلك على صفحة بيضاء. اقتنع عمر وناوله الثمن المطلوب، بينما كان البائع يحضر الفاتورة ويخبره بأن الضمانة ستدوم ستة أشهر.
بعد ذلك، توطدت علاقة عمر بسيرج لتصل حد الصداقة الحقيقية. وبما أن عمر يعشق سهر الليل، قرر أن يقضي مع سيرج ساعات طويلة في محله. خلال هذه الساعات، كان سيرج يشتغل على برنامج معلوماتي يرتبط بالخيول المعروفة في حلبات السباق الفرنسية، في حين كان عمر يدون أفكارا متناثرة وكلمات جمعها في شوارع باريس خلال حديثه مع هذا الشخص أو ذاك.
لم يحل العمل دون الخوض في الأمور الشخصية. سيرج أب لفتاة في سن الرابعة عشر تعيش في بيت أمها منذ أن افترق عن زوجته قبل خمس سنوات. سأله عمر:
- ما سبب هذا الطلاق ؟
أجاب سيرج:
- كانت كلودين حادة المزاج، أنانية ومتكبرة. امرأة لا تطاق، خصوصا في السنتين الأخيرتين لزواجنا.
- هل كانت التجربة سيئة إلى هذا الحد؟
- كنت أحبها بكل أحاسيسي، وكانت هي تبادلني نفس الحب، أو هكذا خيل إلي. لكن بعد بضع سنوات، خبا ضوء ذلك الحب، تبدلت أحوالها نهائيا وأخذت تمارس علي تقلبات مزاجها الأنثوي المتسلط.
- هذا لا يكفي لإعلان الطلاق، فتقلبات الأمزجة من طبيعة كل البشر، خصوصا النساء اللواتي يصبن بهستيريا على الأقل مرة خلال كل شهر، هستيريا دورة القمر إن فهمت ما أقصد.
أومأ سيرج محركا رأسه بالإيجاب، ثم تابع:
- عندما تعتقد زوجتك أنها تملك ياقوتا بين فخديها وتساومك على ذلك بطرق ملتوية دنيئة، ماذا تظن أن على الزوج أن يفعل؟
- أن يعشق صاحبة الياقوت ويرضى منها بالقليل إلى أن تنقشع الغيمة وتعود إلى صوابها، بل إلى جنونها في العشق والحب.
- لا يا صديقي، بل يبصق على الياقوت الممتنع ويمضي للبحث عن ياقوت أقل استعصاء وأكثر عطاء، نساء جميلات يقدمن أنفسهن على طبق من ذهب غير عابئات بما سيحصلن عليه بالمقابل، نساء يرغبن في اكتشاف خبايا أنفسهن ومدى قدرتهن على ملامسة الحمق والجنون بين ذراعي رجل.
- هذا ما قمت به إذن؟
- بالتأكيد، حزمت الحقائب ووليت وجهي شطر الغرب، نحو القارة الأمريكية. لمدة سنتين وأنا أتجول متسكعا في أمريكا، متنقلا بين ولاياتها.
- وهل وجدت ياقوتتك هناك؟
- بل قل بحرا من الياقوت والذر واللؤلؤ والمرجان.
- ليس حبا إذن؟
- هكذا كان في البداية، لكن في الأخير وقعت في شباك أمريكية من أصل برازيلي. كانت جميلة، سمراء البشرة، رشيقة... كان حبا جنونيا، عصرت جسدي وجعلتني أبكي من شدة اللذة.
- إشباع رغبة جنسية، ليس إلا؟
- وماذا تستطيع أن تقدم لك المرأة عدا اللذة الجنسية والأولاد كنتيجة حتمية طبعا؟
- أأنت صادق فيما تدعي؟ أهذا هو تصورك حول المرأة أيها الفرنسي المتحضر؟
ابتسم سيرج بلؤم واضح، ثم واصل حديثه قائلا:
- دعنا من الكلام الفضفاض. لو أنك عشت لساعة واحدة مع هذه الأمريكية، لكنت لاعنا مثلي للعذاب والشقاء المصاحب غالبا لما نسميه بالحب الكبير أو الحب المثالي أو الحب الأفلاطوني. اعلم أن كل من يحاول أن يكسر الأشياء التي تجلب السعادة والفرحة لحياته بليد ومغفل. باسم الحب أو الارتباط الزوجي هناك من يجانب السعادة ويعيش في الشقاء. إن الجمال حقا موجود والفرحة أيضا موجودة، لكن يجب المغامرة والسفر للبحث عنهما.
- المسألة اختلاف في المقاربة. هناك من لن يبدل زوجته ولو قدمت له الحور العين، وهناك من لديه استعداد مسبق وجاهز لتجريب كل شيء، ومع أي كان. أعني أن الوفاء إما وفاء الجسد أو وفاء القلب أو هما معا أو لا هذا ولا ذاك؟
- لا يمكنك أن تعرف أشياء جديدة إذا حاصرت نفسك في شيء واحد بال قديم ونصبت حدودا تسجن داخلها رغباتك وأحاسيسك.
- لابد للإنسان من حدود، وإلا أصبحنا حيوانات تدب فوق الأرض وينتفي بذلك كل ما يميزنا عنها.
- حاصر نفسك أيها العربي كيفما تشاء، أما أنا فقد قررت بعد زواجي الفاشل أن أعيش فوضويتي وفجوري.
- لا بأس، أنا أيضا أميل إلى الفوضوية، لكن من دون ضياع في التوافه. ما علينا، قل لي: لماذا افترقت أنت والأمريكية وكنتما على أحسن حال كما تزعم.
- كل ما هناك أنني استيقظت يوما معكر المزاج، فحزمت حقائبي وعدت مسرعا إلى فرنسا
- أنت ترى إذن أن تغيير الركاب لا ينفع في شيء.
- الحب يا صديقي لا يدوم دهرا. سويعات، شهورا أو ربما بضع سنين في أحسن الأحوال، ثم تكتشف أنك تنام في فراش الملل.
مضى عمر في حديثه سائلا:
- قطعت إذن علاقتك نهائيا بالأمريكية ذات الأصل البرازيلي؟
- لا، بل ستخبرني ستة أشهر بعد هجراني لها أنها حامل بطفل ذكر ولا ترغب في أكثر من أن أعترف بأبوتي للولد، وإن لم نعش معا.
- ابنة في فرنسا وابن في أمريكا، أليس كذلك؟
- لا تقف عند هذا الحد... ثم ابتسم.
- لا تقل لي إنك تزرع حيواناتك المنوية في كل قطر تحل به!
- للأسف أو لحسن الحظ الأمر كذلك.
- وماذا تنتظر من وراء ذلك؟
- تحقيق حلمي الكبير.
- وما هو حلمك يا ترى؟
- أن يصبح لي ابن في كل قارة. أليس الأمر في غاية الجاذبية؟
توقف عمر لحظة قبل أن يجيب:
- إنكم في الغرب هزأتم لسنوات عديدة من الشرقيين وحريمهم واصفين إياهم بالمتخلفين لأن دينهم يسمح بتعدد الزوجات. وها أنت الآن تعوض تعدد الزيجات أو الطليقات، بتعدد الحبيبات، العشيقات، الخليلات... أو أي اسم آخر، لأنني لا أجد نعتا أصف به حريمك هذا.
أبدى سيرج عن صفي أسنانه البيضاء وهو يبتسم ساخرا من غير أن يعقب على ملاحظات عمر هذه، كأنما لا تعنيه.
بعد أن عاد سيرج من أمريكا قرر الذهاب إلى الصين لإجراء صفقة عمل في مجال الإعلاميات يجلب بمقتضاها عددا من الكمبيوترات. هناك، سيتعرف على سيدة جميلة وينهل هذه المرة من ياقوت صفراء تحلم بالهجرة إلى فرنسا. لكنه بعد أن شحنها وقذف فيها ما قذف، عاد مهرولا إلى بلده الأصلي خائفا من أن تحكم الصينية سيطرتها عليه. مرت سنتين قبل أن يتلقى رسالة من الصين تحوي صورة لطفل بشرته صفراء وعيناه زرقاوين. وإن كانت العينان ضيقتان، إلا أن الشبه بين الطفل في الصورة وسيرج كان جليا. خلف الصورة، كتبت العبارة التالية باللغة الإنجليزية: "مبروك عليك يا سيرج، ابنك يسلم عليك ويتمنى أن تأتي يوما لزيارته".
واصل عمر حديثه مع سيرج.
- وهل أنت اليوم على اتصال بأبنائك الذين قررت أن تجعلهم شتاتا في الأرض؟
- بالطبع، لن أقطع علاقتي بهم ولن أنكر أبوتي لهم.
أضاف عمر مازحا:
- بقي لك أن تغتصب أنوثة القارة الأفريقية والقارة الأسترالية. لكن لا تحلم أن تقوم بذلك في بلد عربي، فأنا سأفضح طويتك وأخبر جميع النساء هناك أنك ''عاشق ملول''.
ابتسم سيرج بعد أن رفع يديه في علامة النصر، ثم واصل:
- لا عليك، سأسافر قريبا إلى السنغال في مهمة تدوم ثلاث سنوات. الزنجيات يا صديقي، الزنجيات...
- هب أنك مضيت في مشروعك الغريب والجنوني هذا حتى النهاية، ماذا تنتظر من ذلك؟ أم أن الأمر فقط رغبة خرقاء راودتك؟
- افترض معي أنني حين أصبح شيخا طاعنا في السن، أوجه دعوة لجميع أبنائي وبناتي وأجمعهم تحت سقف بيت واحد.
- ستسود طبعا الفوضى ولن يعرف الأخ بأي لسان يكلم أخاه أو أخته.
قال سيرج متحمسا:
- وهذا هو الممتع والمهم في الأمر. ألم تقرأ عن قصة برج بابل؟
- بلى، لكن أريد سماعها منك حسب تأويلك.
- يعود مجمل هذه القصة التي تناقلتها التوراة إلى أن أولاد سام بن نوح نزلوا بعد الطوفان أرضا فيما بين النهرين، فأقاموا بها مدينة يزينها برج عال أرادوا أن يبلغ عنان السماء حتى يطلعوا على أخبارها، فعوقبوا بأن أحبط الإله أعمالهم وفرق شملهم ولبس لسانهم، حتى أضحوا لا يدركون مقاصدهم فيما بينهم. لكن الترجمة ستحل المشكل فيما بعد بين الأخوة أبناء سام بن نوح.
- إذن كل واحد من أبنائك وبناتك سيأتيك مصحوبا بترجمان يسهل عليه التواصل مع أخوته؟
- التواصل بين الشعوب صار اليوم إلزاميا، وأنا أول من سيدفع أبناءه إلى حمل هذه الرسالة النبيلة.
- إن كان هوليوس قد قال: ''جئت، رأيت وانتصرت''، فأنت يجب أن تقول: ''جئت، تزوجت، طلقت، ثم هرمت''.
شيع سيرج عمر بنظرات قاسية، ثم رد عليه:
- وإن هرمت، فحبهن ناغل في الحنايا لا يمكن الاستغناء عنه أيها العربي.
08-أيار-2021
09-كانون الأول-2006 | |
22-تشرين الثاني-2006 | |
28-تشرين الأول-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |