أخطار توظيف الصراعات المذهبية
عقاب يحي
2018-12-08
عام 2006، كان حسن نصر الله، زعيم تنظيم (حزب الله) في أوج شعبيته، واقتحامه عقول وبيوت ملايين العرب، وتنصيبه نفسه مرشدًا لانتفاضة الفلسطينية، واستمعت جموع الشعوب العربية المزهوة ببطولات المقاومة “الخادعة” وتحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي، استمعت له، في خطبته التقليدية كل عام في ما يُعرف بـ “أربعينية الحسين”، حين ألقى مجموعة من الخطابات الحماسية عن مقتل الحسين وآل الرسول في كربلاء، بحضور مئات آلاف الحاضرين، وملايين المشاهدين، وقد خصص واحدة منها لدور وحال السيدة زينب، ووصولها قصر يزيد، وما فعله برأس الحسين، وتفاصيل كربلاء، وقطع رؤوس آل البيت بتلك الطريقة الرهيبة، والكل في خشوع، لا يُسمع سوى الصراخ المنظم: “يا ثارات الحسين”.
كُتِبت كثيرٌ من المقالات عن التناقض بين المذهبية الموَظفة والوطنية، وعن صعوبة الجمع بينهما، وأن المذهبية تلك معادية للوطنية في النهاية، وسيجيء اليوم الذي تصطدم فيه معها، حين تصبح الخيارات ضيّقة بينهما، وهو حال حسن نصر الله، الذي كشفت الثورة السورية أوراقه بالتحاقه مع نظام القتل والإبادة انصياعًا لأوامر إيران، وانسجامًا مع ذلك الرباط المذهبي، ثم تحوله من رمز للمقاومة إلى مجرد رأس حربة للمشروع الإيراني، وإلى أداة طائفية مُدمّرة ضد إرادة الشعوب في الحرية والكرامة.
بعد سقوط بغداد على يد الاحتلال الأميركي، وتواطؤه لتسليم العراق للنفوذ الإيراني؛ انبعثت عشرات الفضائيات الشيعية التي تُعيد خطابًا متشابهًا، وكأنها نسخة واحدة تابعة لمدرسة منهجية لتوليد الحقد وزراعة الخلافات، وتأليب الناس على السنّة عبر “نكش” التاريخ بطريقة غرائزية، وتوظيفه بشكل مُتقن لحقن الناس ضد الآخر، وتحميله مسؤولية مقتل الحسين وآل البيت.
رغم معرفتي بدقة التنظيم الشيعي، ووجود مدارس عريقة في إعداد الدعاة، خاصة في قمّ، وتخريج عشرات الآلاف من هؤلاء وإطلاقهم في ربوع البلاد العربية والإسلامية، فإني لم أتخيّل أن يصل الوعي العام إلى هذا الدرك من الغرائزية، ومن الاستجابة لعمليات الحقن الحاقد ضد السنّة، حيث يُرى الآلاف من البشر من هيئات مختلفة: شيوخ عشائر، وأناس عاديين ومثقفين بينهم حملة شهادات عليا يستمعون للخطيب، وهو يسرد بطريقة مسرحية قصة كربلاء من وجوه مختلفة، وبتناوب في نغمة الصوت تتناوب بين البكاء والترداد والغناء، وموجة البكاء والحزن التي تشمل الحضور، وقد بدا الغضب واضحًا في الوجوه بمن فيهم صبية وفتيانًا يحضرون، وهو يركز على تفاصيل مذبحة كربلاء، وجزّ رؤوس آل البيت، وحمل رأس الحسين إلى دمشق إلى قصر يزيد.
تساءلت مرارًا عن هذا الإنسان العادي، والمثقف، كيف سيكون موقفه من الآخر السنّي الذي يُحمّله مسؤولية ما جرى منذ أكثر من 1400 عام؟ وهل يمكن أن يقبله أخًا في الدين والوطن؟ ألن يكون مستعدًا للانتقام منه وهو يتصوّر أنه يزيد، أو قتلة الحسين وآل البيت؟ وما انعكاس ذلك على الوحدة الوطنية ومستقبل البلاد؟
أمام هذه التعبئات المستمرة والمتصاعدة، تسقط جميع الشعارات الأخرى التي ترفعها إيران عن وحدة المسلمين، وعداء الصهيونية والغرب، والركوب على القضية الفلسطينية، وتتعرّى تمامًا جميع المقولات الإيرانية التي تخترق نخاع المجتمعات العربية وتزرع فيها الخصومة والحقد، وبذور التفكك والاحتراب، هذا فضلًا عن كل الأساطير العجائبية التي تنتشر عن قصة المهدي وقرب ظهوره، وبعض الروايات التي تطرح عن ظهوره هنا وهناك، وأثرها في تركيب العقل، وفي تحويل اهتمامات الإنسان وتشويه وعيه.
هذه الحالة هي التي تجعل من الصهيونية والإدارة الأميركية في موقع المشجّع للدور الإيراني، حيث إن النتيجة التي تنجم عنها تفوق كل الأخطار التي يواجهها المواطن العربي بإحداث شروخات عميقة على أسس مذهبية تدوم طويلًا، وصولًا إلى تهيئة الظروف لحروب أهلية داخلية، فشلت “إسرائيل” فيها على مرّ العقود، حين كانت القضية الفلسطينية القضية المركزية، وقضية العرب الأولى، واعتبار “إسرائيل” مغتصبة، والصهيونية العدو الأول للعرب وحتى المسلمين.
تتصدّر اليوم موجة العداء لإيران كلَّ الصراعات الأخرى، وتحسّ الدول العربية أن خطرًا داهمًا من داخل الإطار يهدد كياناتها ومجتمعاتها من الداخل، فتتصرف من موقع ردّة الفعل، وبمزيد من الانصياع للإرادة الأميركية، بل إن بعض الأنظمة قطع شوطًا كبيرًا في التحالف مع “إسرائيل”، سرًا وعلنًا، لمواجهة الخطر الأشد، الأمر الذي ستكون له انعكاساته ونتائجه على مستقبل المنطقة، والمجتمعات العربية من داخلها.
لقد وصل الصراع إلى أقصاه، وسقطت معه جميع محاولات المصالحة أو الترقيع أو حكاية الأخوة الإسلامية، وأدّى ذلك بالمقابل إلى تصعيد مذهبي في الجهة المقابلة، وإشاعة أفكار مشوّهة عن جوهر الصراعات، بإحلال الطائفي مكان الوطني والقومي والاجتماعي، واندفاع بعض الأنظمة في سبيل حماية نفسها إلى الحدود القصوى في التحشيد، وشراء الأسلحة، وتقديم المال للإدارة الأميركية، والدخول في حروب قد تكون طويلة أكثر مما نتوقع.