ما بعد الحداثة في الاقتصاد ستافروس د. مافرودياس* ترجمة
خاص ألف
2019-01-19
شقت ما بعد الحداثة في العقود الأخيرة طريقا لها نحو حقل الاقتصاد. وهذا ليس غريبا لأنها تضع بعين الاعتبار أن للاقتصاد أولوية في دراسة العلاقات الاجتماع اقتصادية لأنه أساس جوهري في اقتصاد ما يسمى خطابات الحداثة (الكلاسيكية الجديدة، الماركسية، إلخ...). ولكن من الصعب أن تصنف اتجاهات اقتصاد ما بعد الحداثة، لأن هذا التصنيف بمعنى من المعاني، هو "بعد حديث" ومختلف بأصوله وتحليلاته ومجاله. وقد اقترح سكريبانتي (2000)* انطلاقا من رؤية بعد حداثية، تصنيفا خاصا به. وأكد أن كل النظريات الاقتصادية السابقة( الكلاسيكية، الماركسية، والكلاسيكية الجديدة) هي حداثية لأنها تشترك بنفس الافتراضات، فهي:
1- أنطولوجيا إنسانية، ذلك أن الاهتمام الشاغل للعلوم الاقتصادية يشمل "الوسيط العقلاني" وهو الذات الفاعلة في العمل الاجتماعي. وتقترح الكلاسيكية الجديدة الإنسان الاقتصاديhomo economicus ، بينما تقترح الماركسية النشاط البشريhomo faber .
2- نظرية قيم مادوية، ذلك أنه وراء مشكلة الأسعار الظاهرة (بالمصطلح الماركسي للظواهر) يوجد دوافع وأسباب حتمية خفية، وهي القيمة (جوهر أو مادة). وبالنسبة للكلاسيكية الجديدة، هي قيمة الميول الذاتية؛ ذلك أنه بالنسبة للماركسية والكلاسيكية، هي القيمة الموضوعية للعمل.
3- تحليل التوازن.
4- ما وراء السرديات الخاصة بالجنس البشري، حيث يسود اعتقاد أن الذات الإنسانية قادرة على قيادة الواقع باتجاه هدف كوني يمكن استيعابه منطقيا.
وبالنسبة لسكرابانتي يمكن تلخيص كل ذلك في توأم الخطيئة الأصلية: وهما الحتمية والجوهرية. فأفضل أمل برأيه لإعادة بناء الاقتصاد موجود في التيارات المختلفة التي تتضمن باقة ناشئة من اقتصاديات ما بعد الحداثة . وهي تشترك في رفض توأم الخطيئة الأصلية هذا. ويضع في هذا الحقل المدرسة النمساوية الجديدة، وأساليب معالجة الأنظمة المعقدة، وما بعد الكنزية. ثم يضع المؤسساتية الجديدة وما بعد الماركسية في حقل آخر ينم عن التفاؤل والتبشير. ومن السهل أن تفهم أنه يهدف لبناء مؤسسة جديدة، وهي على ما يبدو تحتوي كل الاتجاهات المختلفة تقريبا. وينفي سكريبانتي بلا تردد عن المؤسسة الكلاسيكية الجديدة أنها تمثل ميول ما بعد حديثة محدودة فقط. ويؤكد أن المؤسسة الراديكالية الجديدة هي نتاج لجهود تأتي من اقتصاديات الماركسيين وما بعد الكنزيين وناشطي المؤسسات التقليدية، وهي كلها ضد القداسة الأنطولوجية الأصلية لتقاليدهم، ومتقبلة لرؤية تشاركية جديدة. وأساسها أنطولوجيا ضعيفة وجديدة تعتمد على ملاحظة الناس، حيث أن الأفراد يكونون وسائط مقصودة ولكن لديهم عقلانية وانضباط، أو أن أساسها مؤسسات هي أخطاء تبسّط اختيارات البشر وترعى تثبيت العلاقات الاجتماعية. وباتجاه مماثل، ذكر غرانيت (1999) أن ثورة ما بعد الحداثة في الاقتصاد ترتكز على حوار متعدد الأطراف بين المؤسسات الماركسية والشيوعية. وجدول هذا الحوار ينطلق من رفض نظرية قيمة العمل واستبدالها "بالقيمة الاجتماعية" التي قامت على المؤسسات الاجتماعية العارضة (النقود، الثقافة، إلخ...). وذلك حسب رؤية ميروفسكي (1991) لبنية المؤسسة. ولو هناك شيء بحاجة مؤكدة للتفكيك، فهذا تجده في مخطط سيكريبانتي.
لقد تسرع في خلق وسيط لثورته الاقتصادية الجديدة - وهو وسيط أكثر راديكالية من ثلاثة أنماط سابقة (الماركسيون الكلاسيكيون، الهامشيون، والكنزيون) - وذكر اتجاهات مختلفة تماما ووضعها في ما بعد الحداثة. بعض الاتجاهات كانت غير هامة وتعمل مثل الترويج لمساحيق تجميل وليس مثل "وسائط" حقيقية. وكان أيضا متسرعا في خلق "العدو". وعليه، وضع معا تحت معاييره الحداثية الأربع: الكلاسيكيات، الماركسية، والكلاسيكية الجديدة بغض النظر عن الفروقات التي لا يمكن غض النظر عنها.
أولا، المفهوم الماركسي عن العمل الاجتماعي (و لحد معين الكلاسيكيات) لا يمكن تخفيضه إلى عمل بشري لأنه قريب من الإنسان الاقتصادوي الكلاسيكي الجديد. وأرى أن سكريباني يرتدي بلا مبرر الماركسية بحلة أفراد ينتمون للكلاسيكية الجديدة وذلك بدوافع شخصية. وفوق ذلك، كما سنرى أدناه، إن ما بعد الحداثة تشترك بالكثير مع استقلالية أفراد الكلاسيكية الجديدة.
ثانيا، ديالكتيك الماركسية بين الشكل والمضمون ونظريته الموضوعية عن قيمة العمل لا علاقة لها بتجريدات الكلاسيكية الجديدة ونظرية التوظيف الذاتي للقيمة اللتين تفتقران للمضمون (انظر مافرودياس: 1999-أ).
الأول يضفي مادة على فضاء الانتاج وشكلا على فضاء الدورة الطبيعية. ويوظف التجريد للانتقال من ظاهرة يمكن ملاحظتها (فضاء دورتها الطبيعية) إلى مسبباتها غير المرئية (في فضاء الانتاج). وبالعكس، إن نظرية استعمال القيمة تتأرجح بين الأسعار والأذواق الفردية. ولكن ينقصها التفريق الواضح بين الفضاءات، وإن تجريداتها تكون حقا بلا محتويات لأنه هناك تجد مشاكل معروفة جيدا تواجهنا خلال تعريف أو تحديد معنى وشكل الوظيفة. أضف لذلك، أن منهجية التجريد الديالكتيكي تكون مختلفة راديكاليا عن التجريد النشيط (الفعال أو الموجب). وأخيرا، ولكن ليس آخرا، إن الاقتصاد الكلاسيكي الجديد توقف من فترة طويلة عن استعمال أي نوع من أنواع نظرية التوظيف. وما أن باشر مفهوم الانتاجية الهامشية لم تعد هناك حاجة لمرجع يحيل إلى أي نظرية عن القيمة (انظر غراهام 1998).
ثالثا، إن نقد سكريبانتي للتوازن مناسب على وجه الاحتمال لأنماط التوازن العامة في الكلاسيكية الجديدة ولكنه ليس ذا علاقة مع استخدام الماركسية لتحليل التوازن داخل مجال عمل النماذج الديناميكية. والاقتصاد الكلاسيكي الجديد يقلل من ميول الاقتصاد للتوازن. وعليه، يفترض أن تحليل التوازن يعكس آلية الاقتصاد الحقيقية. وحتى إن معظم نماذج اللاتوازن الكلاسيكية الجديدة هي ببساطة نسخ دقيقة وحساسة من هذه المقاربة. وبالمقابل، إن تحليل الديالكتيك الماركسي يستعمل التوازن بمعنى مختلف تماما. ويعكس مراكز جاذبية طويلة الأجل (بمعنى قوى توازن) ظهرت نتيجة نظام في اللاتوازن. ولكن التوازن ليس قضية حقيقية، وإنما العكس. وتعامل ماركس مع علاقة القيمة - السعر لها معايير: فالقيم تحدد الأسعار(وهي لفترات طويلة مراكز جاذبية للأسعار). ولكن التسعير في الحقيقة لا يتوافق معها فعليا. ومنه، حيثما بحثت أنماط الكلاسيكية الجديدة عن توازن مفترض مسبقا (استقرار)، إن النماذج الماركسية تحلل بالعادة الأزمات والاضطرابات (اللاثبات وعدم الاستقرار).
وأخيرا، انتهى سكريبانتي إلى ما وراء سرد من عندياته: قدم لنا فكرة اقتصاد بعد حديث بشكل مشروع تحليل راديكالي للاقتصاد يستوعب ويعكس ضمنا أخطاء ما قبله. وبمقاربة أكثر توازنا تكشف أنه هناك أساس ضعيف ولكن شائع ويخدم مختلف اتجاهات الاقتصاد بعد الحديث. وهذا يتوفر في رفض (أو إضعاف راديكالي) للسببية، أو أولويات الخطاب، ورفض ( أو إضعاف راديكالي) لفكرة البنية. وهذا يدعمه استعادة لفردانية منهجية أو مؤسساتية. ويمكن تصنيف طرق ما بعد الحداثة في الاقتصاد في ثلاث فئات نظرية عريضة:
1- اتجاه في وسط الطريق، مرتب في قطاع الاقتصاد السياسي الثوري حول بقايا بعض النظريات الأحدث "متوسطة المدى" وغير الأرثوذوكسية: الضبط ( أغلبتا 1979، لايبيتز 1983)، والتخصص المرن ( بيور وسابيل 1984).
2- تيار مشتق من التقاليد الألتوسيرية (أماريغوليو وروكيو 1994، كالاري وكولينبيرغ وبيوينير 1994).
3- مضيفون يأتون من الكينزية وما بعد الكنزية والنظم المؤسساتية، ولكنهم أيضا خليط من تيارات كلاسيكية جديدة (صامويلز 1990، 1991، ميروفسكي 1991، مكلوسكي 1985، كالمير وماكلوسكي وسولو 1998، واينتروب 1991).
*المقصود هو سكريبانتي E. Screpanti ودراسته عن أزمة ما بعد الحداثة المنشورة عام 2000 في مجلة Rethinking Marxism ، مجلد 12، عدد 1.
ستافروس د. مافرودياس Stavros D. MavRoudeas يعمل في قسم الدراسات الاقتصادية، جامعة مقدونيا، سالونيك، اليونان.
ترجمة صالح الرزوق
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |