دورة عَروض في سجن تدمر
2019-02-16
في بداية تسعينيات القرن الماضي كنا ثمانية عشر سجينًا أو ملاكًا أو شيطانًا في أحد مهاجع سجن تدمر، وكان معظمنا في الأصل أصدقاء.
لم يكن لدينا كتب ولا صحف ولا راديو ولا زيارات، ولا أي نوع من مثل هذه اللطائف والرهافات، لهذا؛ كان الزمن يمضي بخطوات بليدة ومتثاقلة، وإن شئتم لزجة رجراجة سيئة النية، وفي منتهى الدّنَس.
اقترح عليَّ أحد الأصدقاء، بوصفي شاعرًا وخرّيج أدب عربي، أن أقيم دورةً لتعليم عروض الشعر؛ نزجّي بها الوقت، ونركِّز على ما لم نركِّز فيه أيام المدرسة إلا من أجل تحصيل “علامات” أعلى.
كان عدد المشاركين في الدورة خمسة عشر سجينًا.
قدّمت في البدايات لمحات عن أوزان الشعر العربي وتطوراتها وعلاقتها بالموسيقا والغناء، وتطابقات التفعيلات العروضية مع مصطلحات الإيقاع الموسيقية، من “تك تتك دُم”، أو مع النوتة الموسيقية من سوداء وذات السن والسنين، ثم علاقة مخزون كل شخص من الشعر والغناء بإحساسه بالوزن والإيقاع… إلخ.
حاولت ربط كل وزن بأغنية أو بنشيد معروف لجيلنا، مع تطبيقات على أداء بعض القصائد بلحن الأغنية نفسه أو النشيد، فبحر “الرمل” -مثلًا- أدّيناه على نسق نشيد الجزائر “قسمًا بالنازلات الماحقات”، والبحر “الكامل” على نسق النشيد المصري “الله أكبر فوق كيد المعتدي”، والبحر المتقارب على نسق النشيد السوري “حماة الديار عليكم سلام”، والبحر “الوافر” على نسق أغنية “سكابا يا دموع العين سكابا”، مع تحريك السين في كلمة سكابا، وهكذا.
حاولت -أيضًا- ربط الإيقاع بحركة الخطوات والشهيق والزفير، وكيفية تقطيعها وتسريعها وتبطيئها، وأجريت تطبيقات متنوعة على ذلك العدد من البحور. تلك طريقة تدربت عليها كثيرًا وأنا أردِّد إلقاء المعلَّقات في طريقي -ذهابًا وإيابًا- إلى المدرسة الإعدادية في قرية مجاورة.
كل شيء له إيقاعاته، وليس الخطوات والأنفاس فحسب. للصحراء -مثلًا- إيقاعاتها، وكذلك الليل والنهار والمجرّات وحركات الجسد والشجر والطيور والغيوم والأنهار والرعد والظلال، وكل شيء.
كانت الخطة ألا ننتقل من وزن إلى آخر إلا بعد إتقانه الذي لا يكتمل ما لم ينظم كل منا بيتًا أو أكثر، على البحر المطلوب.
كان لدينا حبر اكتشفناه بعد تجارب كثيرة من تخمير أوراق البصل والشاي وغيرهما، وتدبّرنا أقلامًا من العظم أو العيدان التي نعثر عليها في باحة التنفس، وكان لدينا أوراق القصدير الموجودة داخل علب السجائر. ركزنا -في خلال الدروس- على تكرار ضابط كل بحر وتفعيلاته الموقّعة بأيسر أداء ملائم. سألني أحدهم عن رأيي في إمكانية أن يرتجل شاعر قصيدة طويلة، وهو على ظهر حصانه، كما قرأنا في قصص كثيرة، عن شعرائنا القدامى؟ هناك إمكانية، إذا كان الشاعر مدرّبًا جيدًا، ولديه مخزون كبير من الشعر، أن يرتجل بيتًا أو بضعة أبيات، ولكن من المستحيل أن يرتجل قصيدة طويلة، وإلا لما كانت هناك الظاهرة المعروفة باسم الشعراء الحوليين، أي الذين تستغرق معهم القصيدة حولًا كاملًا.
سألني آخر عن الشعراء المعاصرين، وإن كان هناك من يستطيع ارتجال بيت من دون أن يستخدم القلم والورقة وتقطيع الوزن، فقلت إن ذلك ممكن بقليل من التفكير. قال لي: أنظر إلى تلك العاصفة الرملية العاتية المقبلة إلينا من بعيد، فهل تستطيع أن تصفها لنا ببيت ترتجله الآن؟
قلت: في هذه الحال سيكون نظمًا وليس شعرًا حقيقيًا.
قال: حسنًا.
قلت: أناخَتْ ظلمةً وطغتْ رمالا = كأن الغيب أحجم واستقالا
قال: ولكن من المستحيل بالنسبة لنا ارتجال بيت صحيح وزنًا، ونحوًا، ومعنى.
قلت: المهم -أولًا- أن يكون الوزن سليمًا، وبعدئذ نرى كيف نتحايل على النحو والمعنى.
بعدها بدأنا تدريبات ارتجال لأبيات سريالية أو غامضة، أو لا معنى لها، فالشرط الأساس كان الوزن. كنت أبدأ بشطر وأطلب إكماله، أو يبدأ أحدهم بشطر، وأنا أكمله، أو غيري.
من جملة ما ارتجلناه في لهوِ تدريباتنا ما زلت أتذكّر هذين البيتين:
ماموثُ البرد بأكمامي = ودمٌ خشبيٌّ في المرآةْ
أنا وحدي (نمشي) قُدّامي = أنا حَرْفٌ مسنودٌ بحصاةْ
في نهاية الدورة تبيَّن لي أن أربعة من الخمسة عشر تابعوا كتابتهم للشعر، وبسوية جيدة حقًا. صحيح أنها كانت أشبه باللعبة، ولكنها كانت مسلّية وممتعة وقادرة على السخرية من وطأة زمن السجن في تلك العزلة التامّة عن العالم الخارجي.
الوزن في الشعر كان نوعًا من استعادة التوازن، أو تعويضًا عن تكسّرات وخرائب وشظايا وعواءات مقلوبة وصهيل ووهوهات تطغى في دواخلنا، وتنوء بها أحوالنا الحجرية في ذلك السجن الصحراوي الفظيع.
08-أيار-2021
28-تشرين الثاني-2020 | |
08-آب-2020 | |
18-نيسان-2020 | |
07-آذار-2020 | |
16-شباط-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |