.تَسَلَّمَ المواطن "سليمان العبودة" الورقةَ المرسلةَ إليه من المحكمة الشرعية في بلدته بلا أي اكتراث، وهذا ما أثار حفيظة الشرعي المصري "الشيخ عبد المتعال" الذي سلمه إياها، فقال له:
- ما لك يا حاج؟ أنت ما تعرفش إنّ المحكمة اللي باعتالَكْ الدعوة دِيَّة تابعة لإخوانك في جبهة النصرة؟
قال سليمان وهو يطوي ورقة التبليغة كيفما اتفق ويدحشها في جيبه:
- بصراحة؟ لا أعرف. ما أعرفه أن البلد اليوم فيها ثلاث محاكم، واحدة لـ "كتيبة زهق الباطل"، وواحدة لـ "جند الأقصى"، وواحدة لـ "جبهة النصرة"، وأنا أعرف أن الأولى والثانية تمنعان التدخين، والقاضي فيهما يقوم، إضافة لعمله في إحقاق الحق، بدور الخبير، إذ يطلب من المتهم أن ينفخ في منخاره ليرى أن كان نَفَسُهُ محملًا بالدخان أم لا، ثم يأتي بمكبرة ويمررها على أصابعه متتبعًا آثار النيكوتين عليها، ويضع أذنه على صدره ويطلب منه أن يسعل، وأثناء ذلك ينظر إلى مؤخرته، ويصيخ السمع، لاعتقاده أن سعال المدخن يؤدي إلى خروج صوت من الخلف، وإذا كانت القضية تتعلق بالحشمة فإن أسئلة القاضي تتركز حول اهتمام المتهم بأهل بيته، ودأبه على مَنْع الأخوات المسلمات أمه وزوجته وأخواته من الخروج في الأزقة دونَ مُحْرَم، وإذا كانت الأخت المسلمة تحضر جلسة المحكمة فإنها تُحال إلى مقصورة التفتيش الحريمية لترى الأخواتُ الشرعيات إن كان طرفُ جلبابها يلامس مشطَ قدمها أثناء المشي ويزحل على الأرض أم لا، ويكون الاستدلال على ذلك من خلال النظر بكمية الأوساخ التي تجمعت في أسفله من تأثير ملامسة الأرض أثناء المشي، فإذا كان نظيفًا فهذا يعني أن الحرمة ماشية على طريق الشيطان الرجيم، وأما محكمة جبهة النصرة فهي تركز اهتمامها بشكل أساسي على الكليات، لذا فإن ما يهمها هو ألا يكون لدى المتهم ميولٌ ديمقراطية، أو عَلمانية، أو ماسونية، اللهم عافنا.. وأنا أرى أن..
صاح الشيخ عبد المتعال مقاطعًا:
- يا شيخ أنت مالك؟ عامل فينا زي الست اللي طلقها جوزها، قلنا لك كلمتين رحت فاتحْ بقك وما بقيتش قادر تلمو.. بعدين تعالَ قُلْ لي، أنت عندك اعتراض إن سيدنا القاضي يحكم بـ اللي أمر فيه ربنا؟
قال سليمان: أبدًا يا حضرة الشيخ، لا يوجد لدي اعتراض، وأنا أعرف أن التدخين مكروه شرعًا، بل هو في حُكم المُحَرَّم، وأعرف أن اللباس الذي يرتفع عن مشط قدم المرأة سيجعل كعبَها ظاهرًا للعيان، وهذا يفتح عمل الشيطان في نفوس الإخوة المجاهدين، ويؤخر النصر على العدو الصائل، والخوارج، والصحوات، وكلاب أهل النار، إذ بدلًا من أن يفكر المجاهد كيف سيجندل الأعداء، سيجلس ويصفن في جمال ذلك الكعب الذي سبقه بصره إليه.
زفر الشيخ عبد المتعال، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. يا بني إنته عاوز تقول إيه بالظبط؟
قال سليمان: أريد أن أقول إنني، محسوب الطيبين، ومحسوب لحيتك المخضبة بالحناء، في الأساس، لا أدخن، ولا أحب المدخنين، ولا سيما بعدما توفي والدي بمرض التهاب القصبات الرئوية الناجم عن الإفراط في التدخين، وطُلِّقَتْ عمتي عيوش من زوجها بعد شهر واحد من الزواج..
نط الشيخ عبد المتعال من مكانه وقال: عمتك؟ وإحنا مالنا ومال عمتك يا راجل؟
قال سليمان: إننا نحكي عن التدخين يا شيخ، وعمتي عيوش كانت تدخن كثيرًا، وأما زوجها عبد الحميد فكان مولعًا بالأفلام السينمائية المصرية، وذاتَ مرة، وكان قد مضى على زواجهما شهر تقريبًا، كان جالسًا يتفرج على فيلم مصري، وبالمصادفة كان البطل يبوس البطلة من فمها، فهب واقفًا وركض باتجاه عمتي عيوش، عبطها بكلتا يديه، وشدها إليه وَهَمَّ بتقبيلها من فمها، فصُدِمَ برائحة التبغ المعتق المنبعث من فمها، وصَدَّت نفسُه.. وجلس يفاوض عمتي على الإقلاع عن التدخين عسى أن يأخذ، في وقت لاحق، بوسة على نظافة، فقالت له:
- اعلم أنني أتخلى عن حياتي ولا أتخلى عن التدخين!
غضب عبد الحميد مما سمع، وخلعها الخَلْعَتين الأولى والثانية دفعة واحدة، وقال قولته الشهيرة، إن المرأة مثل الأحذية، يستطيع الرجل أن يشلحها من رجله ويرتدي غيرها.. وصدقني، يا شيخنا الجليل، أن قضية عمتي عيوش وزوجها عبد الحميد لو عُرِضَتْ على أي من المحاكم الثلاث لسارعتْ إلى إنصاف زوج عمتي منها، فالرجل، كما تعلم، مشروع مجاهد، والمجاهد يجب ألا يشغله عن الرباط على ثغور الأعداء شيء مهم، فما بالكم بأن تلهيه امرأة غبية وفوق ذلك مُدَخِّنة؟
ذهل الشيخ عبد المتعال، ويبدو أنه نسي الأساس الذي بني عليه الحديث مع سليمان، فقال:
- طب وبعد كده، حصل إيه؟
قال سليمان: عمتي عيوش، من جهتها، لم تكترث لطلاقها من زوج عمتي، بل إنها شعرت، حينما حلف عليها اليمين ذا الخلعتين، بالانفراج، وكانت قد صرحتْ أمام أخواتها وصديقاتها وجاراتها أنها تزوجته على مضض، ولئن كانت تعرف، وتعترف بأن التدخين عادة ذميمة، وتتمنى أن تواتيها الفرصة يومًا ما للإقلاع عنه، ولكن التدخين، كما قالت، قدم لها خدمة العمر، إذ خلصها من هذا الرجل الذي يمتلك صوتًا رفيعًا كأصوات الجراء الصغيرة، ولحية خفيفة موزعة على مساحة وجهه بطريقة مزعجة، وفوق هذا يزعم أنه رجل ورع، مع أنه قد أمضى عمره في ملاحقة الأفلام المصرية وبالأخص المناظر التي يتبادل فيها البطل والبطلة بوسات من الفم. المهم يا شيخنا المحترم أن عمتي عادت لتقيم مع أسرتها في مناطق النظام، وهناك يا حاجّي التدخين (على أبو موزة)، ويتناول الناس، كذلك، العرقَ، اللهم عافنا، والويسكي، والحشيش، والمرأة تخرج من البيت في أول السهرة ولا تعود حتى الساعة الثالثة، ولكن عمتي، وأنا أعرفها، ومتأكد، امرأة شريفة، وحتى لو خرجت من البيت يستحيل أن تسمح لأحد بأن ينام معها، ولا حتى..
زعق شرعي النصرة: اخرس بقى، اخرس أحسن ما أدبّ صباعي في عينيك، أما قليل أدب بصحيح، يا راجل، تعرف إنته بتتكلم على مين؟ دي عمتك.
قال سليمان: سؤالك هذا يجعلني أصل إلى القسم الأخير من سؤالك السابق..
دهش الشرعي وقال: سؤالي أنا؟ أنا سألتك حاجة؟ ما افتكرش... بصحيح قلي، نحن منتكلم على أيه؟
قال سليمان: أنا، كما ذكرتُ لك، لست بمدخن، كما أنني لست عَلمانيًا، ولا ديمقراطيًا، ولا ماسونيًا، والحمد لله، ولا يهمني، بالتالي، أن تكون المحكمة التي أبلغتني للمثول أمامها تابعة لكتيبة زهق الحق، أو جبهة النصرة أو جند الأقصى، أو حتى لداعش... وغدًا سأمثل أمامهم، ويا حبذا لو تحضر أنت المحاكمة لئلا تضطرني لأن أروي لك ما جرى بيني وبين القاضي، فأنا، أساسًا، لا أحب الحكي، وخصوصًا الحكي الفاضي!