أزمة التسامح في الدين والحياة (1-2)
صالح الرزوق
خاص ألف
2019-03-05
*معنى التسامح
في ظل الواقع الحالي الذي يشهد خلافات سياسية طاحنة، مع عودة لظرف الحرب الباردة بين الشرق والغرب، تنتشر ظاهرة العنف والتكفير، كما لم تنتشر من قبل. ويرافقها اتباع ليساسة إنكار الآخر سواء على مستوى الكل (الدين والأمة) أو الجزء (الطائفة والعشيرة ) وسوى ذلك.
ويزيد النار سعارا الاحتكام لجانب من تاريخنا الأسود، وهو جانب الصراعات السياسية على الدولة. يعني الاحتكام لنصف الحقيقة ودفن ما تبقى من صفحات ناصعة وبيض كانت هي الأساس أو الدينامو لبدايات الدعوة. وغني عن القول أن الدعوة جاءت لإنصاف الفقراء والمهمشين، ولتحسين مستوى الحياة، ولكسر قيود التعصب الأعمى والفهم المادي والانتهازي لمعنى الحياض، ومنها المرأة والمسكن والأرض والثروة وغيرها. إن ما يحصل اليوم من تفاقم لمشكلة السلفية المعاصرة ينعكس سلبا على واقعنا الاجتماعي والسياسي، ويقف سدا بوجه أي محاولة للنهوض. ولا يمكننا أن ننسى كيف قاومت الكلاسيكية الجديدة كل محاولة لتحديث وتجديد ركائز العقل العربي مدعومة بجهاز من أنصاف الكتبة والبيروقراطية المبكرة وبقايا الإقطاع القروسطي. لذلك تكتسب دراسات موجة التنوير الثانية، أهمية خاصة لأنها تفند دعاوى السلفية وسلبياتها الخرقاء. وأيضا تنظر بعين التأمل والتساؤل حول أسباب فشل موجة التنوير الأولى التي بدأت في نهايات القرن التاسع عشر وامتدت حتى حرب عام 1914.
وإذا كان مشروع الجابري وأرغون وتيزيني قد أصبح معروفا بماكينته المعرفية والإيديولوجية، لا يزال لدينا مشروع متمم، ينمو ببطء لكن بمقاربة مختلفة. وهي مقاربة إيمانية وفقهية ترفدها جيوب من العلوم الحديثة في المعرفة واللغة وعلوم الاجتماع، وعلى رأس هذه المشروعات يمكن أن نذكر جهود وإضافات ماجد الغرباوي، مؤلف كتاب (التسامح واللاتسامح) و(إشكاليات التجديد). بالإضافة لكتابه الإشكالي الصادر عام 2017، والذي شاركه به طارق الكناني، وهو (مدارات عقائدية ساخنة).
ماذا في مشروع الأستاذ الغرباوي؟.
كما يقول طارق الكناني، محاوره في كتابين حواريين، إن الغرباوي رمز من رموز القراءة الواعية لمفاتيح الدين، ومؤلفاته ما هي إلا حملة توعية لمناقشة كافة المعتقدات الموروثة لتنقيتها مما فيها من خرافات وأساطير سببها السباق المحموم للدفاع عن حق أشخاص دون غيرهم في الإمامة والرئاسة (1). بمعنى من المعاني إن أساس أو جوهر فكرة العقيدة لدى الغرباوي أن الصراعات على الأفكار منشأها أرضي، وتعكس مصالح الفرقاء، وتقف وراءها مشكلة التعصب الأعمى وعدم هضم فلسفة التسامح (أو التعايش كما يفضل تسميتها). ويرى أن التعبئة وشحذ السيوف، هو المسؤول عن التركيب غير المتوازن للمجتمع، وعن إنتاج طبقة أو شريحة اتكالية، هي عامة الناس، مقابل نخبة من الفقهاء والزعامات الروحية، احتكرت معنى الحقيقة، وركزت بيدها أدوات سخرتها لتنويم وتخدير الغالبية الساحقة من البسطاء.
*فكرة المخلص عند الشيعة
ولنأخذ كمثال دراسته عن ظاهرة المخلص التي تنتشر في أوساط الشيعة.
المخلص فكرة تحمل معنى وسيط، جسر نعبر منه إلى السماء والروح الكلية، أو أنه صلة وصل بين طرفين، أحدهما ضعيف والآخر قوي. وهذه اللامساواة تنبئ عن بحث ميتافيزيقي ينتابه التوسل والحاجة. ويبدأ الغرباوي بتحديد أصل الفكرة من السؤال التالي: من هو هذا المخلص، ما هويته، وكيف يعمل؟. ولماذا يجب أن يرتبط بفترة عطالة زمنية نسميها فلسفيا الانتظار، مع أن الله تعالى قادر على تطهير العالم بغمضة عين وتخليصنا من الشدائد والمحن.
وفي محاولة للإجابة يرى أن الفكرة غائية ونضالية كذلك. بمعنى أن المشقة جزء منها. فالهداية إحدى أهم صفات المخلص، وهو ما يضفي عليه صفة كونية غير محدودة بعوامل الوقت (ص21 )(2). والفكرة كما يردف لاحقا: تلخص تطلع الانسان لقيام مجتمع العدل على يد شخصية تتسم بفرادة الصفات (ص21 ). ويعيد بهذا الكلام لذاكرتنا ما فعله أخناتون في توحيد الدولة، لقد استبدل الآلهة بشخصية رب قوي يمكن تجسيده. ومثل هذه الطموحات في التسلط تتجاوب مع الإنسان الضعيف وتسهل عليه حل مشكلة الترابط بين الالتزام أو المسؤولية والاختيار أو المنفعة. فالصراع مع الطبيعة هو في أحد أبعاده صراع مع كل أدوات القهر والظلم والكبت. ويتفرع من هذه الفكرة فهم أعمى لمعنى السبب والنتيجة (ص 22)، ويبرهن الغرباوي على ذلك بحتمية الفساد قبل ظهور المهدي، ولهذا التفكير تداعيات خطيرة لأنه لا يوجد شيء في كل العالم يبرر ارتكاب الجرائم والموبقات بحجة التوطئة للخلاص (ص24). فوجود الطبيب ليس مرهونا بوجود الأمراض. لكن ممارسته للمهنة يكون في أوقات انتشار الأوبئة. وكذلك ليس من الضروري أن تنشب الحرب لتشكيل الجيش المقاتل. وقس على ذلك..
لقد كان الإسلام هو التعبير السياسي والمادي عن سياسة ملء الفراغ، أو مد الجسور بين حضارات بائدة وحضارات يستنزفها الكسل العقائدي والذبول الروحي.
إن فكرة المهدي الغائب ذات أبعاد تجريدية. بالإضافة للانتظار تنطوي على الخوارق والمعجزات (أو المعاجز بلغة الغرباوي). وهذا ليس شيئا غريبا على التفكير الإنساني. فالغرب ترجم نفس الفكرة بلغة عملية وذات مردود فوري، والشخصيات الخارقة موجودة في أساس التربية الغربية، وهي كلها صور تردم الهوة بين الواقع والخيال وتحض الإنسان على الثقة بغيره والإتكال على الخوارق. وهذا لا يبدل من واقع الفروقات بين التفكير السريالي عند شعوب المشرق والتفكير المادي الملموس في الغرب.. وهنا تبدأ مشكلة الشفاعات التي هي دينية واجتماعية (ص47). وهي تحمل بذور الضعف أمام مصادر الشر غير الرحيمة، التي تفهم التسامح بشكل معكوس.
فالتسامح بنظرها تبريري ونفعي، و لا يفيد أغراض التهذيب والتربية. ولذلك نصب القوي من نفسه مرجعا للثواب وأداة تنفيذ للعقاب. ويرى الغرباوي أن هناك أسبابا مادية أدت لتفشي هذه الظاهرة. ومنها الحفرة التي تعزل الشرائح والفئات، فالطبقات العليا تتخذ من أهل النفوذ شفاعة لتحقيق مآرب خاصة، بينما الطبقات المتدنية تتخذ من الأولياء والرموز المقدسة والأرواح وسيلة لعقد الصلح مع الذات الضعيفة التي تركها التخلف رهن الإهمال. وهنا يجب أن نتذكر ما كان للعرافة والكهانة في الغرب من صفحات سود لا يطويها النسيان. ومعظم الأعمال الإبداعية، التي تتحدث عن العصور الوسطى، وما شاع فيها من ثقافة تحض على الجور والاستسلام للموت والغيبيات، تتوقف مطولا عندها..
من الواضح أن الشفاعة ضد التسامح، وهي دليل على التأقلم والخضوع وطلب المغفرة والرحمة من جهة لدنيّة. وإذا لم ينص الغرباوي على ذلك صراحة تجد أكثر من إشارة في مؤلفاته السابقة عن دور الفرقة الناجية ومعناها. فهي نخبة محصنة من العذاب ولديها مناعة من الأخطاء، وتحل محل المهدي المنتظر عند الشيعة. ومثل هذه الفراغات في بنية العقل الديني تشير بلا مواربة لفجوة روحية. إنها تعزل العامة عن الخاصة، وتشجع على الفروقات الطبقية (وأحيانا العرقية). وإذا كان العزل بشكل أحزاب أو جماعات عند أهل السنة، فهو بشكل أفراد متميزين في إيديولوجيا الشيعة. وهذ ما نص عليه محمد أرغون في مجموعة بحوثه، وذلك حينما وضع وحدات السرد الأساسية للدين الإسلامي على سوية واحدة. وقد اختار لها اسم "الأرثوذوكسيات" . وتشمل عنده السنة والشيعة والخوارج. ويضيف لها الباحث المعاصر صالح الطائي "السلفيات المعاصرة" على اختلاف أشكالها، ويسميها خوارج العصر الحديث. ولا يعني بها التنظيمات الحركية التي تنتمي للإسلام السياسي وإنما تنظيمات الجهاد، والتي اختارت الحل العسكري فقط، وأسقطت على التفكير مهمة الاتباع، وعلى العمل مهمة المغالبة. فهي اتجاهات تحريمية تمنع ما أجازه الوحي، وتصر على عودة التاريخ إلى الخلف وعنوة. والمنع ينسحب على الذات والموضوع. أضف لذلك أنه منع وجودي أعمى لأنه لا يعترف إلا بكيانه الشخصي المحصن من التطور. فهو أقرب تفكير لعقدة التناهي البشرية أو لأزمة النهاية التي جاءت ما بعد الحداثة لتذويبها وتخطي مشاكلها. وغني عن القول أن هذا الشكل من الحرابة، والمطلح للغرباوي نفسه، ليس جزءا من فكرة الجهاد عند المؤمن، فهو لا يتضمن معنى الدفاع ودرء الخطر، ولكنه جزء من ثمار الرأسمالية العالمية بعد أن وصلت لجدار أو سقف التوسع والربح. إن اندلاع إيديولوجيا التعصب والإنكار، وانحسار فكرة التعايش ليس صناعة محلية، لكنه جزء من أزمة الشركات متعددة الجنسيات والعابرة للحدود. فهي تقفز من فوق معايير الهوية الوطنية والانتماء الروحي لدين أو عقيدة. إنها ظاهرة لأنطولوجيا إنسانية تحصر "الوسيط العقلي" بخصوصيتها، وتعزله عن النشاط البشري بعموميته، كما قال ستافروس مافرودياس في بحثه المسهب عن دور ما بعد الحداثة في إعادة ترتيب علاقات الإنتاج (3). وبالاستطراد إعادة ترتيب علاقات المستثمر مع آلية العمل سواء كان النشاط في سوق العمل أو سوق الأفكار. بتعبير آخر، وبلغة الغرباوي، سواء كان له علاقة بالسلطة الأبوية أو بسلطة الفقيه.
وبهذا الخصوص يدين الباحثان إبراهيم بدران وسلوى الخماش سياسة الأزمات التي تميز المجتمع العربي، ويعتقدان أنها أيضا مسؤولة عن تراجع مستوى التفاهم والتكامل في حياتنا، وتوسع رقعة الجهل والخرافة. والمثال على ذلك الحروب الدائمة التي تهدم في لحظة ما نبنيه في سنوات، ومنها حرب 1947، 1967، 1973. وهي أصدق تعبير عن وجود وحش خرافي يتربص للذهن العربي وعلى استعداد للانطلاق وإلغاء كل ما تعلمناه من مراكز التنوير والثورات العلمية في العالم (4). بالإضافة إلى ظروفنا الذاتية وعلى رأسها القيود المفروضة على حرية التعبير، فالجهود المبذولة لتحرير العقلية العربية من رصيدها الخرافي تتعثر باستمرار وتنتكس حسب الانفراج السياسي والفكري الذي يجتاح المنطقة (5). ويرى الباحثان أيضا أن القشرة العلمية التي يكتسبها الفرد لدينا تتميز بطابع هش وانتشار سطحي (5).
وفي هذه الظروف يكون للكرامات وطلب الشفاعة، من جانب آخر، كما يقول علي زيعور، عدة أهداف أهمها:
1- تدعيم المكبوت وحجبه وكبح لجام الدوافع والنزعات ومثالها التبخيس من قيمة النقود أو التقليل من أهمية الحاكم وتقوية شعور الاستعلاء عليه بالله وبانتظار الإثابة.
2- تخفيف وطأة الشعور بالإحباط وصد هجوم الحصر.
3- امتصاص الطاقة النفسية التي ترافق المكبوت (6).
ويؤكد على ذلك ماجد الغرباوي في كلامه عن ضرورة التجديد بغاية الإصلاح. ولكن السؤال كيف؟. هل يكون بالتقويم أم بالنصح والإرشاد ؟ (ص106). وإذا لم تنفع النصيحة كيف نستعمل أدوات التقويم، هل نلجأ للعمل الراديكالي بعد أن تثبت لاجدوى أساليب الكبت والمنع؟.
إن الروايات تشير إلى ذيوع روح التشفي والعقاب، والمثال على ذلك التفنن في إلحاق الضرر والأذى بالمجرم الذي ارتكب جريمة اغتيال الإمام الحسين على وجه التحديد. وأعتقد أن هذا لا يعكس طبيعة الصراع والاصطفافات التي شقت صفوف المسلمين، ولكن ينم عن حفرة واسعة وعميقة ضمن الكتائب الإسلامية. فالصدام كانت تحكمه آلية غير متوازنة، وهي تصنيم عمر من طرف كقائد متمرس لدولة ناشئة، وأسطرة أبناء الخليفة علي كثوار محترفين. وأعتقد ان الإصلاح يجب أن يبدأ من هذه النقطة، من بوادر الاختلاف في تطوير العقل الإسلامي. ونحن بحاجة لآلية مختلفة في مقاربة المتناهي عند عمر، واللامتناهي عند علي، مع أنهما من خلاصة الصحابة ومن الطليعة أو النخبة ومن الجيل الأول في الإسلام. لقد حمل الخليفة عمر لواء القياس لحل الخلافات في الدولة الناشئة، بينما اعتمد الخليفة علي على الاجتهاد في التأويل. وتخليص التشريع الإسلامي من الجمود يجب أن يضع في اعتباره مصادر هذه التشريعات ومنها اللغة العربية لأنها اللسان الذي نزل به القرآن الكريم. إن تجديد اللغة يفترض قراءة مختلفة للأحكام والتشريعات. والتعامل مع الجانب المنظور أو الممكن تصوره يختلف عن الجانب الأسطوري. وفي الواقع إن تشذيب أي تراث يحتاج لعدة آليات متزامنة، فالتفسير له مهمة لقراءة النصوص، أما التأويل فمهمته أوسع، إنه يقرأ المنصوص عنه بطريقة غير مباشرة، ومن دواعي المخاطرة والتحريف أن تضيف للدين أشياء ليست منه، فالتشفي وروح الانتقام بدموية مرعبة، تبلغ مشارف السادية، لا تتلاءم مع الإسلام. وهو جزء من عقلية القبيلة في الثأر، كما فعلت هند بكبد حمزة عم الرسول في معركة أحد. والتهام أعضاء الميت حفل طقوسي وثني نص عنه فرويد في (الطوطم والتابو). وتجد مشابهات له في الثقافة الغربية التي تعيد الاعتبار لثقافة العصور الوسطى من خلال إحياء ما يسمى بالتراث القوطي. فهو تراث دموي، تتبناه الإمبريالية للترويج لسياسة التوسع التي حلت محل الحيازة وهي مبدأ إقطاعي.
أما التفنن بالعقوبة، كما ورد نصا في الحديث والقرآن، فهو يخدم التنبيه وليس الإبلاغ. إن الإسلام لم يبلغ مخطئا بعقوبة غير دنيوية، والجلد في الإسلام أو الحرمان والحصار بالمقاطعة هو أقصى ما وصل إلى علمنا من أيام الرسول، بينما دخلت عقوبة الحرق وقطع الأطراف بعد تحويل الخلافة إلى نظام بلاط. إن الاصلاح يفترض تصنيف العقل الإسلامي لنوعين من النشاطات:
- أحكام، وهو ما يحيط به الدين نصا.
- وتوعية وهو ما يحيط به الخيال نصا.
ولا يمكن أن ترادف بين غير المتوازيات. وبرأيي إن عصر عمر كان هو عصر تشريع الأحكام، في حين أن عصر علي كان لتوسيع خيال المسلمين. وإذا لم يكن هذا الخيال صادرا عن الإمام علي نفسه، فهو نتيجة من نتائج المنعطف الدامي الذي ترافق مع نهايته التراجيدية. ولا يغيب عن بالي انتقال الدولة بكل أدواتها من الهاشميين إلى بني أمية. وهذا بلغة المغامرة العقلية عند العرب يدل على إسباغ موقف جبري على روح التسامح، أو على تقديم القاعدة على الاستثناء. مع أن الاسلام كان قد حض، بشكل لا لبس فيه، على تفكيك القاعدة وتبديل سلّم الأولويات. فالعارض عند المسلمين هو المتكرر عند العرب. ولذلك إن تنقية المعتقدات من الشوائب والمغالاة ضرورة ملحة، ولا سيما بسبب الفجوة التاريخية، وما لحق بنا من كوارث، أودت بكثير من الأسانيد والمدونات، فما أحرقه وأتلفه هولاكو يكاد يكون بحجم ما وصل إلينا، وما بقي من تراث تنويري تكفل به الإيبيريون في الأندلس. ولا أستطيع أن أنكر دور المعارك الإيديولوجية التي وصلت إلى حد تزوير التاريخ، وصناعة عقائد ليس لها أصل. فالأصول بمعظمها بلا سند صحيح وهي جزء من معركة التشويه المتعمد. وحتى لا نبتعد عن موضوعنا لقد لعب فساد الدولة وضعف المجتمع، ولا سيما في الفترتين العثمانية والمملوكية، دورا في إصابة العقل الإسلامي بالشلل والجمود، إن لم نقل بالانحطاط واللامعقولية. ولا سيما فيما يتعلق بدور التأويل وعلاقته بالرؤية في تفسير النص أو نسخه أو تداوله. وبعد دخول الطباعة إلى المنطقة عمل بعض رموز السنة على إضعاف رواية الشيعة وأهل البيت، وضربوا على العصب الحساس، بالأخص فيما يتعلق بأسلوب ملء الفراغات ونقاط الضعف. وتطورت المعركة الإيديولوجية لتشمل الموحدين كالدروز وأصبح تاريخهم المادي والموضوعي نهبا للألغاز والتعمية. فقد روّجوا لفكرة الحدود والأطراف على حساب كل ما من شأنه أن يفيد الحوار والتفاهم، وهذه قراءة إقصائية نجم عنها تغريب الطوائف وإقامة سدود بينها، أدت في النهاية لصناعة الكانتونات التي نعاني منها الأمرين في الوقت الراهن. وعلى سبيل المثال أذكر روايات ابن عباس لحادثة الإسراء والمعراج وما فيها من لامعقول وسريالية لا تجد ما يدعمها في القرآن والحديث. حتى أن درجة التخيل فيها لا تجد مثله إلا في (ألف ليلة وليلة)، والإضافات التي تعزوها لصفات العرش والملائكة هي في معظم البحوث المقارنة نتاج التراث المانوي والساساني. وفي دراسة للدكتور نذير العظمة جرد للصفات المتطابقة بين السيميرغ الذي ورد ذكره في الشعر السوري القديم وقصائد المتصوفة وطريقة إسراء وعروج النبي التي وصفها ابن عباس. ناهيك عن دراسات عمر عنايت التي صدرت بين الحربين (1928) ووجيه فارس الكيلاني (صدرت في 1923)(7)، بغرض تشويه معظم النتاج الإنساني والمعرفي للفرق الإسلامية. وبهذا الخصوص أنوه بتفسير حكاية حمزة مؤسس جماعة الدروز في مصر، والشتائم التي لحقت بشخصية كونفوشيوس، ونعته بصعلوك عن غير علم ولا دراية وسوى ذلك. لقد لحق التشويه والتحريف بكل الفرق الباطنية ما أهلّهم ليكونوا في عداد العرافين ومدعي النبوة، كما حصل في حروب الردة، والتي لا تزال مجالا للأخذ والرد، ونحن لهذه الساعة نتساءل: هل هي حرب دولة ضد بعض المتمردين، أم أنها فعلا حرب عقائدية ضد مرتدين على المبادئ؟؟.
وبالقفز من فترة الدعوة لفترة صعود الدولة العباسية، بالكاد يمكن أن تعرف معنى الرسالة التي جاء بها النبي محمد. لقد حملت من الأسمال والإضافات ما بدّل جوهرها. وتفكيك مثل هذه المظاهر يقودنا إلى (الغياب الأسطوري وفلسفة اللامعقول- ص119). فالمهدي تمادى في غيبته، كما ورد على لسان الغرباوي، وأصبح من الضروري إضافة أشياء من الخيال ومن وحي التمني لسد النقص الفادح وغير المقبول(ص121).
هناك خصلتان في شخصية المهدي، هما فترة غيابه وأداء عمله بالوكالة. ولذلك كان الباب مفتوحا للدس والإضافات التي لا تتماشى مع العقل والمنطق ولا مع رجاحة تفكير أهل البيت (ص122). وإذا رأى الغرباوي أن المسألة لا يمكن أن تكون وجودية لأنه لا علاقة بين وجود الأرض ووجود أي شخص إلا الخالق نفسه (ص122)، فإنها، من وجهة نظري، مسألة رمزية، لا تقتضي وجوب المشاهدة، والتشكيك بها سيصيب شريحة واسعة بخيبة الأمل والإحباط. والواقع إن بعث المهدي أو عودته لا تتنافى مع تخيلاتنا حول يوم البعث والنشور، فهذه المشاهد ذات الطبيعة الملحمية تتوازى مع كل الأحداث الجسيمة التي لا يوجد لها تفسير منطقي يقبله الذهن، مثل حادثة الطوفان والعبور من فوق المياه أو تحويل العصا إلى ثعبان وسوى ذلك. إنها معجزات لا يوجد دليل على قيامها سوى النص. وحتى لو رفضناها بالمنطق فهي لازمة لشد أزر روح الإنسان الضعيف الذي يمر بمحنة، فرفع المعنويات جزء من المعالجة إذا استفحل المرض، حتى الطب المعاصر يعترف بأهمية الإرادة في العلاج، ولدينا عدة أمثلة على عدم ثبوت المصدر ولكن ثبوت الأثر، ومنها تعاليم سقراط، فهو لم يكتب حرفا واحدا ولكن كتبها أفلاطون لاحقا. وبغض النظر عن من هو كاتبها الحقيقي، فقد كسبت المعرفة البشرية كنزا فلسفيا هاما ساعدنا على تطوير قدراتنا في المحاكمات العقلية ووضع حجر الأساس لما يعرف حاليا باسم العقل الغربي أو حكمة الغرب بلغة راسل، بما عرف عنها من ديمقراطية (ولو أنها اسمية ). وإن ما جاء على لسان الحالة المقدسة مهما كانت هويته أو شخصيته هو جزء من معاناة الشيعة في فترة الضعف، ويمكن مقارنته بالابتلاء الذي رافق بدايات البعثة في مكة. ومهمتنا تتلخص في عزل ما يحض على الاتكال والخرافة عن ما يحض على التسامح والأخلاق العالية والرفيعة، وهذا ينطبق على كل التراث الباطني والعرفاني الذي وردنا بعد فتنة الإمام علي ومقتله ولا سيما تراث التصوف، فهو أيضا يتكون من جانبين: فلسفي يضفي طابعا إسلاميا على المعارف والمعتقدات التي شاعت في تلك الفترة، وجهادي يعمل على حفظ نقاء الدعوة من الترهل والإضافات. ولا يغيب عن الذهن تعاكس الجانبين، فهما يلعبان على وتر الثابت والمتحول. وسواء أن ولادة الإمام لا يمكن الجزم بصحتها أو أن غيبته حيلة لذر الرماد في عيون البسطاء، فقد كان ضرورة نفسية لا بد منها. إن فكرة اندثار أو غياب رمز وعودته إلى الوجود ينطوي على فلسفة انتظار إيجابي وحركي، والانتظار بحد ذاته هو تأجيل لحصاد الفوائد كما هو الحال في التوقعات التي يرجوها المؤمن من أعماله. فهو لا يتوقع المردود الآني ولكن المؤجل. وغير غياب تموز في باطن الأرض ورفع المسيح عليه السلام، تؤمن الحضارات بدورة حياة وموت، وتترجمها بفترة السبات ثم النهوض، ولدينا أيضا فكرة الدولة الغائبة، ومنها دولة فلسطين ودولة الأمة، وهذه كلها شعارات تنظر للواقع الحالي على أنه صنعي ويتعارض مع البديهة والحقيقة وأنه مجرد أمر واقع مفروض من لدن قوة باغية وعلينا محاربتها. حتى أن غياب الرسول بالموت لم يؤذن بنهاية البعثة، أو موت الرسالة، ومقولة الخليفة عمر مشهورة: إذا كان محمد قد مات فإن رب محمد لم يمت.
إن كل الوحدات السردية تنظر للمعتقدات على أنها ورقة ذات وجهين، صورة وفكرة، وطلب العون والمساعدة من الأموات الراقدين في أضرحتهم دليل على استمرارية الأفكار ولو غابت الصور. وعليه إن دور الأفراد في التاريخ مسألة رمزية، وكذلك هو دور الأساطير التي تؤسس لدين أو دولة أو فلسفة شاملة. إنها تساعد على بلورة هدف تختاره وتلتزم به. وبودي هنا أن أنقل عن الدكتور حسام محي الدين الألوسي أهمية الركون لعالم مثالي يتحكم بالتطبيقات العملية. فقد وضع أفلاطون لكل موجود في العالم الحسي مثالا غير مادي، وهذه المثل عنده هي الوجود الحقيقي بذاته، بينما الأشياء المادية وجودات ثانوية أو محاكاة (8). بتعبير آخر لقد وضع أساسا معرفيا يتحكم بالإدراك والإحساس ويوجه نشاط وعمل الإنسان في حياته، وهذه صيغة تجريدية من فكرة الإمام الغائب وعلاقته بسفرائه وبالفقهاء ثم بعموم المجتمع. فالتفكير الطبقي على أساس تمايز العقل والمعرفة سبق التصنيف الطبقي على أساس الموارد والمقدرات أو امتلاك الثروات.
وتبقى المشكلة في معرفة حدود هذه العلاقة التكافلية..
متى ينتهى دورها المنشط ومتى تتحول إلى استلاب أو تسلط؟؟.
بتعبير آخر: متى يكون هذا الرمز ضروريا للتعبئة ومتى يكون سببا لإثارة الاحتقان والفتن؟.
إن أهم دور يمكن للإمام أن يلعبه هو تنمية الإحساس بسمو الهدف من الدين، وهو فرض الرقابة المتزامنة على الذات للالتزام بكل الأفعال السامية والبنّاءة، وعلى السلطان الابتعاد عن مكامن الظلم والجور، وهذه الثنائية ضرورة لضمان صحة المجتمع الإسلامي وعقله. نحن ننتقد أخطاء الطبيب إذا كان تشخيصه ضارا، ويجب انتقاد أخطاء الفقيه إذا كانت تجاوزاته على السياسة ضارة. ولا يجب الركون للخطأ الشائع: أن الفقيه هو عقل الأمة، فهو حارس المجتمع من التفريط، ولكنه ليس دكتاتورا دينيا، يحل محل الرب في النهي والأمر مثل أي سياسي متسلط وغاشم (كما ورد في السؤال 50 من كتاب مدارات). إنها فكرة مخالفة لروح القرآن، فقد منح الله لعقل الإنسان سلطات مفتوحة ليتصرف بنفسه وبأمواله، ولا يجوز للفقيه أن يكون حجر عثرة، وإلا كان مخالفا للعقيدة الإسلامية بنصها وبمعناها (بتعبير طارق الكناني في السؤال 49 من كتاب مدارات أيضا). ويترتب على ذلك ازدواجية في المعايير، وضرر لفكرة الإمامة ذاتها. فهي تحولها من بحث عن مساحة للأمان والمستقبل إلى داعم للحجر على العقول. إن الهدف من الإمام الغائب نصرة المظلوم وليس تعزيز قدرات وصلاحيات الظالم، وأي دمج بين نص الدستور وتعاليم الفقهاء يقودنا إلى الأوتوقراطية والأوليغارشية، وهما تهمتان لا يمكن لأي دين في العالم أن يقبل بهما. وهذه هي المشكلة التي يوجه لها الغرباوي والكناني سهام النقد اللاذع في آخر محورين من كتاب مدارات عقائدية ساخنة وهما (الإمامة مفهوم سياسي) و(التشيع وتناسل الطقوس). فقد انتقل الاسلام من التشاور في حدود دائرة من نخبة الصحابة إلى توريث السلطة. حتى أن الأئمة الإثنا عشر كانوا بالواجب والضرورة من قريش (ص391). وهو برأي الغرباوي خطأ يتعارض مع أحكام القرآن (ص392). فالتفاضل في الإسلام على أساس ديني ولا علاقة له بالنسب لأنه مفهوم يستند لقوانين البداوة والجاهلية (ص393). وأجزم أن شكل الخلافة بعد عصر الراشدين متأثر بالدولة الرومانية. وحصر رئاسة الدولة في قريش، ولاحقا في عائلة قرشية بعينها، يحمل مؤثرات أهم إمبراطورية حكمت العالم قبل الإسلام واستمرت بعده وهي دولة الرومان. حتى أن بني أمية تبنوا شكل وتنظيم الجيش الروماني بتسلسله وانضباطه. وعلى ما يبدو إن الحاجة للتوريث جزء من علم نفس السلطات، فهي دائما تميل للجانب الثابت وليس المتحول، وإلا انقلبت على نفسها، ومبدأ الثورة الدائمة الذي سنه تروتسكي انتهى في الواقع بالنهاية المأساوية والدموية للمناشفة. وإذا كان التداول المقيد للسلطة لا يفيد تطور الأحزاب فهو واقع قائم ونحن بحاجة لتربية على أسس مغايرة لنفهم أن الخوف الذي يرتبط بالمجهول دائما هو أفضل من الجمود الذي يرتبط بالمعلوم في أغلب الأوقات. ومقولة أن الانسان عدو ما يجهل، لا تنطبق تماما على جسم وكتلة الأحزاب السياسية، ففترة التهيئة كفيلة بخلق دورة دموية تفيد بإنعاش أي حزب يعاني من رهاب التجديد.