"التوائم السبعة" من تدمر إلى صيدنايا
مالك داغستاني
2019-03-09
"يجب أن تأتوا وتروا.. إنهم سبعة توائم حقيقية متطابقة" هكذا صرخ صديق السجن، وهو يصف أفراد دفعةٍ صغيرة وصلتْ إلى صيدنايا قادمةً من سجن تدمر. يوم أمس، كانوا قد أودعوهم في أحد مهاجع جناحنا لكن من جهة اليسار التي تقع خلفنا، ورغم أن هناك ممراً في نهاية الجناح يصل بين طرفيه، لكن بأوامر السجان كان يمنع علينا الاقتراب منهم تحت طائلة عقوبة الزنزانة الانفرادية، وحتماً كانت لدى الوافدين الجدد ذات التعليمات.
كنّا ستة في مهجع واحد ، وليس هناك غيرنا في الجناح، وكذلك هم. أيامها كان السجن الحديث في مرحلة استقبال الوافدين الذين سيصبحون نزلاءه لسنوات.
من باب الفضول، رحنا نتلصص عليهم وهم يسيرون في "كوريدور" جناحهم. وكلما وصلوا إلى نهايته، كنا نستطيع رؤيتهم وهم يستديرون عائدين لشوط آخر من المشي. كانت رؤيتهم صدمة خالصة لنا، نحن القادمون حديثاً من فرع فلسطين مطلع العام 1988. يومها لم نكن ندرك كم حالفنا الحظ أن سجن صيدنايا قد افتتح منذ فترة قصيرة، فنجونا من عيش لعنة تدمر.
مع اختلاف الأطوال، بدوا فعلاً كالتوائم، وأكثر من ذلك بدوا كتوائم تحرصُ أمُّهم على إلباسهم ثياباً متطابقة أيضاً. كل منهم كان يرتدي بنطالاً وسترة. كانت ألوان الرُقع على الثياب تغلب على اللون الذي كانت عليه في الأصل، وكان من العسير حتى بعد التدقيق، تحديد اللون الغالب لمعرفة اللون الأصل للبنطال أو السترة، فبدت ثيابهم كأنها مُوَحَّدة. ولسبب غير مفهوم كانوا يسيرون حفاة.
بعد عدة أيام، تجرأ أحدهم ونظرَ إلينا بطرف عينه، وسريعاً تابع مشيته مع البقية. مشيتهم كانت غريبة أيضاً، ويمكن وصفها بأنها آلية على نحوٍ ما، كانوا وكأنهم مبرمجون ليسيروا قريبين جداً من بعضهم وبخطوات قصيرة وسريعة، مع مراعاة ألا يصطدم أحدهم بالآخر.
ذهبَتْ عبثاً جميع محاولاتنا لتمييز أحدهم عن الأخر من خلال ملامح الوجه.. كانوا بالنسبة لنا نسخاً متطابقة. لكل منهم وجه شمعي أصفر أو يمكن القول أنه ناصل اللون، مع نتوءٍ لعظام الوجنات تحت عيون غائرة. الشعر محلوق تماماً، وبالكاد من جذوره يمكن التمييز أن ألوانه تختلف من شخص لآخر. أجسادهم كانت ناحلة بشكل مبالغ فيه، وتبدو الألبسة على تلك الأجساد وكأنها إضافات غير ضرورية مرمية على ما يشبه الهياكل العظمية. ذكّرني حالهم بمجاميع "الكومبارس" في مشهد من فيلم كنت شاهدته قبل سنوات عن معسكرات الاعتقال النازية.
"بعد نحو ستة أسابيع من وصولهم إلى صيدنايا بدؤوا بالتمايز. كان أول ما استعادوه هو لون البشرة. اثنان منهم كانت بشرتهم بيضاء مع شعر أسود، ثلاثة كانوا سمراً بشعر أسود، واثنان كانوا أميل ليكونوا شقراً."
بعد نحو ستة أسابيع من وصولهم إلى صيدنايا بدؤوا بالتمايز. كان أول ما استعادوه هو لون البشرة. اثنان منهم كانت بشرتهم بيضاء مع شعر أسود، ثلاثة كانوا سمراً بشعر أسود، واثنان كانوا أميل ليكونوا شقراً. في تلك الفترة كانوا قد بدؤوا بالنظر نحونا، وأحياناً الرد على تلويحاتنا لهم بالسلام بهزّة خفيفة من الرأس مع ابتسامةٍ حييّة. حتى مشيتهم بدت مسترخية عمّا قبل.
كنا مثلهم قادمون جدد، ومثلهم لم يكن لدينا ثياب سوى التي نرتديها، لكن بعد فترةٍ استطاع رفاق لنا (كانوا أقدم بعدة سنوات في السجون وفروع الأمن، ولديهم زيارات) إيصال بعض الثياب إلى جناحنا، فتقاسمناها مع سجناء تدمر السبعة. اقتربنا منهم في المنطقة الخلفية من الجناح ورميناها لتكون قريبة منهم، وكان أن التقطوها. في اليوم التالي رأيناهم وقد تمايزوا أيضاً بثيابهم (الجديدة).
قبل انتقالنا من الجناح بأيام، تجرأ أحدهم ودخل إلى المنطقة الخلفية (التي لا يستطيع عناصر الشرطة رصدها) وتحدث إلينا. أحرجنا بقوةٍ شعور الامتنان الشديد الذي أبداه من أجل تلك القطع المستعملة من الثياب. راح يتحدث عنها وكأنها ثروة اقتصادية غيّرت حياتهم. سريعاً فهمنا منه أنهم قضوا سبع سنوات في سجن تدمر، كانوا خلالها يعاودون (ترقيع) ثيابهم من خرق ثياب بالية كان يتركها لهم الذاهبون إلى الإعدام. يا الله.. كانت تلك الرقع تذكارات من أرواح زملاء قضوا، ويمكن في بعض الحالات تسمية صاحب كل رقعة!! أخبرنا أنهم لم يكونوا في معظم تلك السنوات يحصلون من الطعام إلا على ما يبقيهم (أحياء). حديثُه عن التعذيب اليومي الشديد فسّرَ لنا خوفهم الشديد من ارتكاب أية مخالفة لتعليمات السجّان، وتحفظهم الشديد في كل حركة (فيما بعد، وخلال السنوات التالية في صيدنايا سنسمع الروايات التفصيلية عن الرعب الأسطوري الذي عاشه سجناء تدمر في تلك الحقبة). جميعهم كانوا طلاباً في مراحل متفاوتة، وأياً منهم لم يكن قد بلغ العشرين لحظة اعتقاله. كانت المحكمة الميدانية قد حكمتهم جميعاً بالبراءة منذ سنوات، والأهم أنهم منذ اعتقالهم وحتى تلك اللحظة لم يكونوا يعلمون أي شيء إطلاقاً عن العالم خارج أسوار تدمر.
قبل ذاك اللقاء كان لدينا شيء من الاستياء مما اعتبرناه خوفهم (جبنهم) المبالغ فيه، ولكن بعد سماعنا لتلك القصص السريعة ومعرفتنا أنهم قد عاشوا ما لا طاقة لبشرٍ على احتماله، بدأنا نفهم. وبدأنا نتلمّس كيف شوّهت سنوات الكارثة التدمرية بشراً طبيعيين ، لهم هوياتهم المتمايزة، وحولتهم إلى نماذج توشك أن تكون متطابقة. شكلهم وسلوكهم وردود أفعالهم ومجمل بنيتهم النفسية والعصبية كانت متطابقة. في البداية كنّا نسميهم "التوائم السبعة" أو "الصينيون السبعة"، باعتبار صعوبة تمييز ملامح الوجه غالباً ما ترتبط لدينا بالعرق الآسيوي الأصفر. لكن بعد هذا اللقاء السريع أصبحنا كلما تذكرناهم في أحاديثنا نسميهم "العائدون من الجحيم".
هل ذكرت قبل قليل أننا اتّهمناهم يومها بالخوف والجبن ؟! يا لعارنا.. عن أيّ جبن يمكن الحديث في حالتهم تلك!! فارقٌ واحدٌ فقط كان يميّز بيننا وبينهم، وهو أننا (نحن المحظوظون) لم نجرِّب تدمر. كان من العار على الكرة الأرضية حدوث هذا في أي مكان داخل غلافها الجوي. في سوريا، كان (ومازال) يحدث هذا. يا لعارنا، يا لعاركم.