رواية دُوار الحريَّة / 1 / 2
2009-11-08
" لا تحتقــر الإصغــاء إلــى توســـلات القلب"
الشيرازي
لسـت ملاكاً، لست شيطاناً ولا فاجراً
لا...
لكنها كانت سنوات بالغة الفجور .
وهكـذا فقد صار لزاماً علـيَّ أن أقضي الـعمر مديناً وممتناً وأشـكر للمحاكم أنها قد وجدت في التاريخ، منـذ ظلمة آبار روما القديمة ومحاكم التفتيش ووصولاً إلى آخر أمجاد محاكم أمن الدولة العليا، سوف أشكر القيود والحرس والجـنازير والمقاعد الخشبية والأحزاب، كل أنواع الأحزاب الحاكمة والموالية، والمعارضة والبينَ بين، سوف أنحني للأيديولوجيات جميعاً مهما كانت ساذجةً وركيكة وتبعث على الغباء، سأنحني لقوانين الطوارئ والتوقيفات العرفية وللنظام العالمي الجديد رغم ما فيه من عبث، وللغباءات التي شفيت منها وللغباءات المستحكمة والتي لم ولن تكون قابلةً للشفاء، وسوف أقول لسائق الحافلة التـي أقلَّتكِ إلى هنـاك: "شكراً لك، شكراً لك كل هذا الكرم يا سيدي" وسوف أعطي دمي لكل شيء تطلَّب ورافق واستدعى حضورك الآسر والبهي أيتها الأميرة.
على كتفيك نسيت نفسي واسمي وأضعت ذاكرتي واحتدمتُ بألف مليون احتمال وسؤال.
من أنت..؟ من تكونين..؟ من أي أسطورة كنت عائدةً..؟ من أي سرب سنونو مضى مهاجراً ونادى عليه الربيع التالي لكنه ضلَّ طريق العَوْد..؟ من أية حكاية اشتغلها الخيال من زهر ليمون ونيسان واشتياقٍ وأغانٍ فيروزية ساحرة..؟
ماذا كان عليَّ أن أناديك في تلك اللحظة..؟ يا صديقتي..؟ يا أختي..؟ يا أمي..؟ يا ابنتي..؟ يا أميرتي..؟ أم يا حبيبتي التي تتهدد الروح بالانهدام الكامل والنهائي..؟ وأنا هل كنت أخاً أم صديقاً؟ أم عاشقاً يتأبَّى على الدحض والاندحار؟.
كنت على أهبة الإعلان بأني مستعدٌ للبقاء سجيناً ألف سنة أخرى، لو أنهم وعدوني ولو تلميحاً أن هذا المشهد قد يتكرر مرة واحدةً كل سبع سنوات، مرةً...... واحدةً...... فقط.
أي سنواتٍ تلك؟ وأي عمرٍ ذاك الذي تلاشى على راحتيك..… منذ تلك اللحظة حين كنت أُودعك وأنا معصوب العينين ويداي مقيدتان إلى الخلف متلصصاً على أصابع قدميك وصندلك الصيفي وأنت تقفين قربي وأنا ذاهب إلى ذاك الجحيم في تلك الظهيرة من أيلول. أيّ حرائق للشوق اندلعت منذ ذاك اليوم وأشعلتني معها، حتى تلك اللحظة حين نزلتُ من السيارة بيدين مقيدتين أيضاً، أمام باب المحكمة ورأيت وجهك المعجزة على ذاك الرصيف في وسط الزحام ويدكِ التي كانت تلوِّحُ في الهواء وتخفق في قلبي.
لو كنت أعلم في ذاك الخريف البعيد أن تلك كانت آخر اختلاسات النظر من عينين معصوبتين قبل غياب سوف يدوم كل هذي السنين لكنتُ احتضنتكِ وقبَّلتكِ وقلت كلاماً كثيراً ليس أوَّله أن عينيك ساحرتان وليس آخره أنك الحلم الذي يحكم كل حركة روحي، وأنْ فداكِ نيسانُ وفدتك الوردة التي وهي تسدل أوراقها وتغمض بتلاتها على قطرة ندىً تشبه الدمعة، قالت ذات صباح: وداعاً، ورجعت إلى نسغها.
لو قليلاً منْ: "تَوَادَعْنا وقلنا للكلام بقيةٌ تأتي ثم عانقتْني و…أو… قبَّلتْ وجنتيَّ واستدارت…" ماذا لو أي مشهد مشابه مما يجعل النهايات خارقة الوداعة كما أتشهَّى، أو حتى مفرطة العاديةِ كما ينبغي لأكثر الأمنيات تواضعاً أن تكون.
حين عدت إلى زنزانة السجن وسألني الأصدقاء المتجمعون عما جرى في المحكمة؟ أجبت ذاهلاً، وباقتناع راسخ أن ما سوف أجيبهُ فعلاً، وفقط الحقيقة الوحيدة التي حدثت هناك، قلت: "لقد رأيتها". سألوا: "فقط..؟" وأجبت: "نعم فقط".
وقلت لنفسي: أليس رائعاً في زمن انعدام الحقائق واليقينيات أني ودوناً عن العالمين كنت أستأثر بهذه الحقيقة الرائعة والمؤكدة والتي لن يدانيها أي شك، أجل "لقد رأيتك".
ماذا كان سيعني لي ما يجري في كل محاكم الكرة الأرضية تلك اللحظات، وأنا شعرك الخرافة بين يدي وخداكِ وعيناك ودمعتان ودمي منفلت خارج المكان وخارج الزمان وكفاك الوردتان والله والتصوف والعبادة والشعر والموسيقى وهذياناتي المتهدجة وصوتك الهديل، دقائق من سحرٍ وريحانٍ وحلمٍ وانعدامِ يقينٍ بواقعية المشهد.
قبل ذلك وأنت على مبعدة أمتارٍ مني وأنا أنظر إليك من ذاك القفص الخشبي المهين، أيُّ انخطاف ٍ كان يطوِّح بي في تلك الساعة؟ الانخطاف نحو معجزة حضورك ووجع الابتعاد القسري المذل كالهزيمة…..الابتعاد المحرق مثل تلةٍ من الجمر تحت القلب تماماً.
كيف ذلك أيها الله؟ ألف جمرة لقلب واحد فقط؟ ألف رصاصة وصدر واحد فقط؟ ألف أنشوطة وعنق ناحل واحد فقط؟ ألف سكين لحلم واحد؟ إن هذا كثير كثير….
أجل هو الانخطاف إليك من واقعٍ يحاصرُ ويضغط الجلد عن آخرهِ، إليك وإلى الحلم الجميل يتنشَّف ويُسرِّحُ شعره ثم يتطاوف برأسي المعلّق في فراغات لها شكل شاطئ جميلٍ خارجٍ للتوّ من بحره ومن رمله، من أصدافه ولآلئه الخيالية، رأسي الذي كان يستعد للحلم بين يديك لساعة دافئةٍ بين دهرين باردين.
لساعة وربما أكثر بدت عيناك وكأنهما حواري الوحيد مع المطلق. حواري مع الشعر والله حيث ثمة لا شيء إلاّهما وحلمي الذي تلفُّه ضبابة التوهم...
بحنوٍّ وحبٍّ ذاهلين، قلبي، أيتها الصديقة، كان يحتضن الحلم والمرارة في دمه ويُقرئ عينيك السلام، ومن عينيك كان الإحساس بالأمان والطمأنينة والدفء ينساب إلى قلبي.
بطاقةٍ نبوئية محتضرة كنت أدرك أنني بعد دقائق سوف، على كتفيك أهادن كل عذاباتي وأحزاني، وكنت أعلم أنه لم يعد هناك فسحة للتساؤل إما كنت تسكنين الانهدام الأعمق الذي أورثته عيناك لقلبي أم لا؟ وإما كانت أي محاولة لنزفك من القلب لن تعني موتي؟ كنت أرنو إليك طيفاً ملائكياً وغمامة من الورد الأبيض تعبق وتحوِّم فوق شعرك.
إذاً هذه هي، وهذه هي تماماً، الدقائق التي طالما قرأنا عنها في الروايات الرومانسية والتي عادةً لا يسمح المرء لنفسه في يومٍ ما بالتصديق أنها يمكن أن تتكرر في العمر أكثر من مرةٍ واحدة، والمرة الواحدة، على أية حال، ليست قليلة في عمر واحد فقط.
كيف كنت سأعرف؟ ولو عرفت كيف كنت سأُصدق بسهولة أن ذاك المكان حقاً وفعلاً هو قاعة في محكمة ما؟ وكيف لنا أن نسلِّمَ بسذاجةٍ أن الأشياء هي ذاتها دائماً، وكما تبدو في ظاهرها، ألا يسعنا الافتراض أن تلك القاعة المستطيلة كانت، ودون أن ندرك ذلك لحظتها، كانت… كانت…كانت حديقة على سبيل المثال؟
ستبدو المقارنة فجة وغير مألوفةٍ للوهلة الأولى، حسناً تعالي، وهذا يحتاج للكثير من الصبر والأناة، تعالي وكما كنا نفعل في ألعاب الطفولة منذ سنوات، تبدو الآن وكأنها لم تكن، حين كنا نخترع الحكاية ثم ندخل إليها من إحدى بواباتها لنعيشها لعباً طفولياً ورعاً، حكاية الجندي العائد إلى بيته من الحرب، وحكاية الحرب ذاتها، حكاية الضيوف الأغراب القادمين من مكان بعيد…
صبيان شرسون يحملون بنادق خشبيةً تستعير أصواتهم لتمتلك دوياً، وضحايا مضرجة بالابتسام الخبيث مستلقية على أرض الغرفة، بنـات ناعمات يحملن لعبهنَّ، أطفالهنَّ، يهدهدنها ويغنين لها ويرضعنها من أثداء مفترضة، كنا نحضر فناجين القهوة الفارغة ونقدمها لضيوفنا ونرتشف منها بتلذذ واضح وبأصوات عالية ومضحكة، لقد كانت تدريبات أولية وساذجة على ما سوف يأتي، ولكم نسينا حينها وفاتنا الكثير والكثير حتى جاءت الأيـام وفَاجأَتنا بقسوتها. يا الله كم كنا جميلين، وديعين، بريئين وأشقياء أيضاً، كنا نقلِّب أرجاء المنزل عندما تحتدمُ الحكاية غير آبهين لصرخات الأم…
{- :أيها الشياطين، أعيدوا هذي الأشياء إلى مكـانها وانصرفوا من هنا}.
إن صعوبة المحاولة ربما تفترض منا تجريب الاستعانة بذهن طفولي غير منضبط، طفلان يحتلان مكاننا للحظات خلال اللعب، طفلان يشاركانا لعبنا بخيال يُقصي مالا يليق مع الطفولة… طفلان يوصدان لدقائق على المبرِّح ويتأهبان بنقاء ملاكين للحلم مترافقين مع الجميل…
إذاً تعالي، وعلى سبيل اللعب المباح والذي لا يمكن أن يسبب أي خسرات، نجرب هذا الافتراض ولنحاول إشادة حديقةٍ ما، حديقة أليفة وواسعة بما يكفي لأن أكون جالساً على أحد مقاعدها الخشبية، منتظراً بلهفة مجيئك إلى ذاك الموعد المسائي، وأنك كنت عما قليلٍ قليل سوف تصلين، وأنك فجأةً دخلـت فعلاً، وأني رحتُ أتقرَّاك خليةً خلية وأتهجَّاك قصيدةً قصيدة وأرشف عينيك ضراعةً ضراعة، وأني حين كنت أحوِّل عينيَّ عنكِ فإنما كنت أفعل ذلك فقط هرباً من سطوعكِ واشتعالي، لأعود ثانية إليك وفقط إليك قِبلةً أو وثناً من ضياء، ولسبب ما، طارئ وغير مفهوم، في حلم الحديقة ذاك لم يتسنَّ لنا أن نجلس على مقعدٍ واحد ولا استطعت لمس يديك حتى تلك اللحظة من هذا اللعب الـذي اتفقنا أنه مباح، وأنه كان حريّاً بي أن أقفز من فوق ذاك السور الخشبي كي أصل إليك عاشقاً فذاً كما ينبغي لأي رجلٍ مشغولٍ من جنون أن يفعل في مثل تلك اللحظات...
{ - : احترس، ولا تقفز عن الطاولة أيها الولد الجني، نزل الولد عن الطاولة بهدوء، في عينيه انكسار وفي ملامحه ارتباكٌ خجول، وضمَّت البنت الصغيرة ذراعيها المفتوحتين والمعدّتين لاستقبال الصبي الذي كان سيقفز مثل فارس نبيل، ضمت ذراعيها المحبطتين إلى صدرها الفارغ، الفارغ من هذا الصديق الذي كان سوف يحطُّ عليه معانقاً، ونكّست رأسها حتى لا تجرحه بعينيها اللائمتين والمليئتين بالعتب، واستدارت استعداداً لإتمام الحكاية رغم الخراب الذي أصاب هذا المشهد الذي كان سيبدو في غـاية الحرارة لو تمَّ كما ينبغي.}…
إذاً ولحجةٍ واهـيةٍ وغـير مقـبولةٍ واتتني روحي المائتة ألاّ أفعل.
- أنت متهم بجناية الانتساب إلى جمعية أنشئت بقصد تغيير ...... وبنشر الأخبار الكاذبة بقصد البلبلة، وزعزعة ثقة الجماهير بـ.......
- إنني أنكر……
حسناً إذاً ولأجل إدخال بعض التعديلات اللازمة للأمكنة كي تغدو حدائق، لنقل أن بعض الأصوات العالية التي كانت تتناهى إلى سمعينا لم تكن أصوات معتقل أو قاضٍ أو زائرٍ ما وإنما كانت فقط صـادرة عن المذياع الذي يضعه حارس الحديقة العجوز قرب كرسيه……
- لكنه جاء في اعترافاتك لدى فرع ……
- بعد مرور سبع سنوات من الاعتقال، لم أعد أذكر تماماً ما جاء في اعترافاتي هناك، وعلى أية حال فهي أخذت عنوة وإن أردتم أن تروا، فإن جسدي مازال يحتفظ……
……ومن باب التعاطف المطلوب مع كبار السن، تعالي نسامحه على رفعه الصوت إلى هذا الحد، فلربما، وهذا وارد في مثل سنِّهِ، كان معطوب السمع وأنه مازال حتى هذا العمر، وقتلاً للوقت الممل، مولعاً بالاستماع إلى تلك التمثيليات المسلية والتي تبثها الإذاعات عادة على شكل حلقات مسلسلة في مثل هذا الوقت من مساء كل يوم.
ولنتابع إذاً مفترضين أنك حين تقدمت مني لم تفعلي ذلك لأن ضابطاً ما، في محكمة ما، في عاصمةٍ ما، قد سمح بذلك، ودرجاً على العادة مفرطةِ الكرم في نهاية كل جلسة للمحكمة ، بل لأنك في تلك اللحظة فقط قد اكتشفت، بعد طول بحثٍ في هذه الحديقة الواسعة، المكان الذي كنت أجلس فيه تحت شجرة الصنوبر العالية تلك، وأنك حين رأيتني توجهتِ نحوي بكل ذاك الاندفاع وبكل تلك اللهفة، ولنقل أنها ما كانت سبع سنوات وأني كنت قد قابلتك منذ يومين في الشارع وبشكل عارضٍ واتفقنا أن نلتقي في هذه الحديقة وفي هذه الساعة بالذات، وأن هذا العناق الحار والمجنون والحارق والمهلك للروح وتلك الدمعات كانت فقط بمحض الاشتياق الذي يمكن أن يحدث في بعض الحالات لمراهقَين محترقين حدَّ التولُّه…
{.. على رسلك ولا تكن شقياً هكذا أيها الصبي.}...
ولأفترض، وحدي هذه المرة، أن كل تلك الغصص التي تدافعت في روحي، روحي التي كانت ولسنوات مضت بئراً منزوحة وفارغةً بما يكفي لإثارة الخوف، وأن الصرخات التي احتدمت في قلبي ودمـي وأن انحباس الكلام خلف جدار الذاكرة، وانحباس الهواء في الرئتين وفي دمي الذي يتسرب في متاهاتهِ كدمعةٍ على وجنتين عجوزين متغضنتين، إذاً لأفترض أن كل هذا والأشياء الأخرى التي تستعصي على اللغة والحدائق العامة الآن، ما كانت لسكناك في روحي وقلبي ودمي كل تلك السنين، وحضـورك اليومي والدائب والبطيء وانغراسك في هذه الروح كل يوم أكثر، إذاً لأقل أن الأمر لم يكن كذلك وأنك أبداً لا تنامين بروحي وأن كل ما جرى كان من قبيل الارتباك العادي الذي يمكن أن يعتري أيَّ ولدٍ لم يألف الوقوف أمام أميرة آسرةٍ ولها ابتسامةٌ تجتاح الروح.
ولأقل، على سبيل الافتراض البحت أيضاً، أنه لم يكن في داخلي أي عتب مرير أو أي شعور بالخذلان العارم والمحطم لأنـي ما تلقيت منك خلال كل هذه الفترة الماضية، طبعاً أقصد فترة اليومين الفاصلين بين موعد الحديقة هذا ولقائنا العارض في الشارع، لو كلمة فقط، كلمة تقول: "أيها الغائب مازلت ولو على عتبات الذاكرة…"
لأقل إذاً أن تلك اللامبالاة الجارحة لم تقتل في داخلي أشياء وأشياء، ولأتابع، مادام الخيال محتدماً، أنني أبداً أبداً لم أشعر حينها أني زائد وفائض عن حاجة الآخرين جميعاً داخل وخارج السجن، وأني ما قلت يومها ولا تساءلت أنه هل يعقل أني كنت شيئاً عابراً في حياة الآخرين على هذا النحو!!!!!.
إذاً لندع كل هذا الآن ولنتابع قائلين: إن شيئاً منه ما كان محفوراً في أعصابي وشراييني وأن مشهد الحديقة اللطيف وتلك النسمات المداعبة وشذا بعض الورود المحيطة بنا، وأنت، أقصد شذاكِ أنت، هو الذي كان مسيطراً على مشاعري فقط ولذلك كان هذا اللقاء غرائبياً وعلى نحو ما غير مألوف في عـرفِ الحديقة.
وكي نبدأ الدخول في حلم الحديقة بصورة أكثر اندماجاً تعالي نفترض أن داخلي لم يكن يقطر نشيجاً وأنا أهرب إلى وجهك الحلم وأني كنت فقط أتفيأ شعرك ووجهك ونثرثر حول بعض أنواع الأزهار، وأني كنت أقول لك بأنك أكثر روعة وأحلى ألف مرةٍ من تلك المرأة على ذاك المقعد المقابل لنا والتي تحمل في يدها وردة بيضاء، وأني قلتُ بأن مجرد الافتراض أو حتى الشروع بالمقارنة بينك وبينها هو أمر يفتقد إلى الإحساس الشفيف بالجمال الأنثوي.
وحتى نقترب من حقيقة ما كان يجري فـي الحديقة أكثر لأقل: إني كنت أحكي لك، وأنت على ما أرجح مقتنعة بصدق حكايتي، ولا يداخلك أي شك في واقعيتها، أنه بالأمس مساءً، وتحديداً في تلك الساعة التي يكون فيها عشرات الآلاف وربما ملايين البشر يشهدون سقوط الشمس في ماء البحر، حين يمكننا لو أصغينا قليلاً سماع حفيفها وهي تخترق بكل تلك الفخامة صدرهُ المشعث إذ تقترب، ثم تبتعدُ قليلاً، مترددة أولاً بلثمات خفيفة ثم ما تلبث أن تنغرز فيه، ولو أصغينا قليلاً أيضاً لسمعنا نشيش ماء البحر واهتياج خلاياه، إنها تلك الساعة التي يبث فيها الشفق ذاك التوتر المذهل في الهواء، محاولاً اختبار كل احتمالاته الممكنة، فيفرِّدها أمام أولئك الملايين الذين يشهدونه كل مساء، عند تلك الحافة البحرية التي تصل إليها الموجات الأكثر مشاغبةً، ليمتحن في عيونهم بريق الدهشة التي يولدها مهرجان ألوانه، فيلَذُّ له ذلك لساعةٍ متأملهٍ ثم يمضي بهدوء، إنه المشهد الساحر الذي تفرض قداستهُ التي تخالطها الرهبة نوعاً من السكينة المستسلمة والميل للأحاديث الهامسةِ أو الصمت النهائي.
أمس وفي تلك اللحظة تماماً، وأنا مسكونٌ بقداسة هذا المشهد البحري، رأيتُ أمامي، ودون أن أعرف كيف ومن أين جاءت، عرَّافة غجرية عجوز، وما لستُ متأكداً منهُ هو هل جاءت فعلاً من مكان ما، أم أنها كانت فقط واحدةً من دعابات أو ابتكارات فراغ ذاك الفضاء وهلوسة تلك الحمرة الشفقية وكرمى لذاك الرجل الوحيد الواقف بصمت، ثم أنها اقتربت مني أكثر وجلست على الأرض وأخرجت من كيسها الأسود الصغير وقذفت أمامها على رمل الشاطئ سبع حبَّات من الودع وراحت تنظر إليها بعمق وتهمس بكلمات لا أتمكن من سماعها، ثم فجأةً التفتت إليَّ بعينين محذرتين وقالت:
" أيها الرجل... أيها الرجل الذي في دمك لغات لا تجيد الحوار ولا التفاهم، لغات صُبَّت في خلاياك من صحارى ومن سـهول وجبال بعيدة… جبال شاهقة سكنها أسلافٌ رحلوا إليك، تركوا قبور أجدادهم ورحلوا، يحملون في أصلابهم، منذ مائة عام، احتمال دمك ولوثة الغجر، ساروا طويلاً وما تعبوا حتى وصلوا، وأوصلوك اليوم، إلى شرق هذا البحر، أيها الرجل أصغ إلىَّ …. إنك ذاهبٌ إلى حيث لا أحد استطاع أن يعود، وإنك سوف، وفي حديقة ما، تلتقي أميرةً، فحاذر أن تنظر في عينيها لأنك لو فعلت فإنها سوف تسكن روحك ولن تغادر بعد ذلك أبداً، أميرة تدخل القلب كبحة الناي، وتسكن الروح كسرب الحَسَاسين، أميرة مشغولةً من ياسمين وكلمات، وسوف تُرديكَ إلى حلمٍ غير قابل للوميض، احذر يا بني، فحتى المرايا، المرايا التي لا روح لها ولا ذاكرة لها، سوف تخالفُ كل سجاياها الأصـيلة حين تمرُّ صورة أميرتك على عناصرها، ولن تستطيع أن تفرِّط بتركها تنسحب من أعصابها جرياً على عادة كل المرايا دون أن تحتفظ منها بشيء ما وتتركه مغروساً ومشتبكاً في بريق فضتها مخافة أن يشظيها الجنون والحسرة والندامة."
ثم بعد صمتٍ عميق وطويل وبعد أن جمعت ودعاتها ووضعتها في الكيس الأسود الصغير عادت لتنظر إلي بعينين مستسلمتين وتقول:
" يا بني إن كل شيء وكل ما سوف يجري واضحٌ وصارمٌ وليس بقابل للتفادي لا بالودع ولا بأية كلمات سحرية، سوف أقول لك: لا تخرج من البيت غداً وستخرج، وأقول لك: لا تدخل حديقةً ما وسوف تدخلها، وأقول لك: لا تنظر في عيني تلك الأميرة وسوف تفعل، يا بني إن كلماتي وكل وجودي هو ضربٌ من العبث الغجري الأخرق، إن أميرتك لا يشبهها شيء وحضـورها الساحر ليس تدركه ولا تطوِّعه هذه الصدفات البحرية الصغيرة، يا بني إن الشتاء حين يأتي فإنه وقوراً يجيء، رويداً وعلى مهلٍ، عابراً كل خريفه ومتنحنحاً أكثر من مرةٍ في الطريق، أما أميرتك فإنها سوف تأتيك وتخترق حياتك كما يجيء الربيع مباغتةً مخالفاً كل الطبائع الرزينة للفصول فيعلن أزهاره ونسماته وعصافيره والفراشات الملونة في أحد الصباحات دفعةً واحدة، اذهب أيها الرجل … اذهب … قلبي عليك يا بني"… ثم فجأةً وتماماً كما جاءت اختفت…
{ : أيتها اللعينة، لا تبعثري الأزرار على الأرض وأعيدي المرآة إلى مكانها على الجدار وهذا الشال إلى خزانة الثياب.
ثم إن الولدين...مطمئنان إلى إتمام المشهد إلى آخره، أعادا كل شيء إلى مكانه وبدأا الاستعداد لما هو تالٍ}.
ثم تابعت كلماتي وأخبرتك بأني موشكٌ على الاقتناع المؤكد بأنك سرّ ومبعث الحزن الشفيف الذي نراه، وبشكل خاص في الخريف، على وجه البحر، البحر الذي كان صاغكِ يوماً ما اسماً لسحر غموض زرقته، وذات فجر خريفي، محزنٍ للبحر، ورائع للكثيرين الكثيرين، أفلتِّ منه سهواً، وبمـحض زلّة موجةٍ طائشةٍ، وصرت على الرمل حوريةً من سحر ولوثة بحر، ومنذ ذاك الفجر صار البحر يكره أمواجه ويدفعها أبداً بعيداً عنه ونحو كل الشواطئ، بعد أن تعكر دمه لخسرانه حلاوة وعذوبة مائهِ بهذا الافتقاد، وإلا فمن أين جاءته كل هذي الملوحة والمرارة؟ ومن أين جاءته هذه السكينة الحزينة في الخريف…….؟
وبعد ذلك قلت لك. وكأن قلبي المدمَّى هو الذي سينشَقُّ و…
{ - يا ولد، كفَّ عن هذا النشيج واهدأ قليلاً يا بني، لقد أهلكت روحك ودمي…
- يا أمُّ لو تتركيني قليلاً، ضيّقٌ يا أمُّ هذا القبر ضيّق، وواسع ومترامٍ ذاك الموت.
أيتها البتول، يا نقية، دعيني أخرج إلى حلم الشمس هذا قليلاً كي أتأكد من سطوع ظلي وأُعيد اكتشاف تضاريسه المنهكة، يا أمُّ اسقي هذا العاشق من ماء سُلوانتكِ علَّه يكف عن أن يقتات السوف، قولي له "حـبيبي حـبيبي يا بني… خاطبني يا ولداه"، يا أمُّ لقد أرمضني الانتظار فوق خشبة هذا العار، ولا قمر يريـد أن يثقب ظلمة هذا الليل الطويل، وأنا أوشكُ أن أَهُمَّ بالسُدى مغلقاً آخر الأبواب خلفي، حيث يأتي بعدهُ اللا شيء، خطوة باتجاه الظلمة والسكون المخيف وانطفاء كل شيء دفعة واحدة، يا أمُّ إني أوشك أن ألج هدأة اللا حياة صائحاً:
" المجد لك يا
08-أيار-2021
09-آذار-2019 | |
07-نيسان-2018 | |
25-تشرين الثاني-2017 | |
11-تشرين الثاني-2009 | |
08-تشرين الثاني-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |