أزمة التسامح في الدين والحياة (2-2)
صالح الرزوق
خاص ألف
2019-03-16
*المغالاة في التفكير
بعد التسامح وتنوير الفكر الديني، ودور التكامل في رص الصفوف وتوحيد الأمة، ينتقل الغرباوي لمشكلة دس الروايات والأخبار الصادرة عن الغلو، الأمر الذي شوه صورة أهل البيت وجعل منهم ظاهرة إعجازية لا يقبلها العقل والمنطق، وأحيانا تحويل حياة المؤمن إلى جحيم لا يطاق، وهذه ليست من أخلاق الإسلام الذي جاء لخدمة الإنسانية ورفعها من التكالب على المكاسب إلى نموذج يحتذى في الأخلاق والحياة المريحة والبناءة. لقد اعتمد الغرباوي في منهجه على ملء الثغرات التي تعاني منها قراءتنا الأسطورية للتراث، ومنه التراث الديني. بعكس من سبقه (مثل ابن الوراق) الذي كان يردد، بشكل أوتوماتيكي، القراءة الغربية لحالة مجتمعنا ولأوضاعنا النفسية، فقد اعتمد على الحفريات السياسية (مخطوطات البحر الميت، وهيكل النبي سليمان، وقراءة أرنيست رينان)، وليس على المشاهدة الروحية لمصير ومسار الحضارات الجريحة. ولا شك أن ابن الوراق يقدم أطروحة مضادة لعصر التدوين بغض النظر عن عصر التجميع. ومع أن الفارق بين الطورين ليس عميقا، لكن ملاحظاته لم تربط بين الكتابة وتطور صناعة الكتاب. وربما لهذا السبب لم يشاهد في القرآن غير مصادره المعرفية، أو كما قال: إنه صياغة تصحيحية للدين اليهودي وللإسرائيليات، كما قدمتها تعاليم التوراة. ولا علاقة له بمسيرة درب الآلام المسيحي. وكل الآيات والسور المتعلقة بجوهر الدين لا يمكن أن يكون كاتبها هو محمد لو أنها ناجمة عن حوار له مع الأرثوذوكس أو اليسوعيين أو الهراطقة (9). في حين أن الغرباوي اهتم بالتجميع وأسباب النزول وترتيب النص المقدس بين دفتي مصحف واحد. بالإضافة لتطور المعاني وأساليب الإبلاغ والتفسير عبر التاريخ. ولمزيد من التوضيح: أرى أن ابن الوراق تعامل مع المقدس بقناعات مسبقة، يمكن اختزالها بنمزذج هيغل في الأطروحة وضدها. وكان يبني مدونته على المدونة السابقة. بمعنى أنه اكتفى بقراءة النص كما يبدو في الظاهر للعيان. في حين اهتم الغرباوي بانعكاسات النص على المجتمع.
برأيي إن الغرباوي يربط التعنت في الدين، بمعنى التعصب، بغياب التسامح. وهو أفضيلة معرفية قبل أن يكون ميزة أخلاقية.
يعرّف الغرباوي التسامح كما يلي: إنه موقف إيجابي ومتقبل للعقائد والأفكار، ويسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المتباينة بعيدا عن الاحتراب والإقصاء، على أساس شرعية الآخر المختلف دينيا وسياسيا، ولضمان حريته في التعبير عن آرائه وعقيدته (10). وقبول الآخر، كما يردف فورا للتوضيح، واجب تفرضه الحرية الشخصية. وهو حق يرتكز أساسا إلى القول بنسبية الحقيقة، التي ترى أن للحقيقة وجودا نسبيا عند جميع الأفراد، ولا مبرر حينئذ لدعوى احتكارها والتفرد بها، ولا مبرر، أيضا، لاعتبار قبول الآخر والتعايش معه منة وتكرما، أي اعتبار قوله قيمة أخلاقية، بعد تبدد مفهوم الحقيقة المطلقة وتلاشي دعاوى احتكارها والاستئثار بها. وإنما سيكون قبول الآخر على أساس اشتراكه في وجود الحقيقة. أي تبقى الحقيقة محتملة في جميع
الأطراف. وبالتالي من الواجب قبول الآخر والتعايش معه. إذ مقتضى كون الحقيقة نسبية تفرض على كل فرد وجوب الاعتراف بحق الآخر في اختيار عقيدته وحريته في التعبير والدفاع عنها، أي ما يقع ضمن دائرة حريته الشخصية (11).
*حدود فكرة التسامح
وفي حواره المنشور في صحيفة المثقف يعود لضبط وتفسير معنى التسامح بجملة حدود، وهي:
1 – إنه ليس منة ولا تفضلا. ولكنه واجب أو ضرورة. لأنه يحمل في جوهره معنى السلام من جهة، ويمنع هدر الطاقات من جهة ثانية، ويحقق ضرورة إنسانية هي التكامل.
2- وهو أفضل طريقة للتعبير عن التعدد والاختلاف. وهذه حقيقة موضوعية. وإذا كانت الفلسفة تنظر للواحد على أنه أصل الوجود، فهي تقصد ماهية الواحد أو ما قبله، وليس حقيقته العيانية والمجردة.
3- وهو رمز من رموز التوافق. فالإنسان بطبيعته في صراع دائم مع غرائزه المتعاكسة، ومنها غريزة الحياة والموت. وإن لم يكن الإنسان متسامحا حيال نزواته وذاكرته، سيعمد لتدمير نفسه جزئيا أو كليا.
4- بالإضافة إلى أنه الباب الوحيد للحوار وتخليص المجتمع من الميول العدوانية والنوايا الشريرة. ودونه سيلجأ المجتمع لحلول ترقيعية. كما حصل في التحكيم برفع المصاحف واجتماع السقيفة وإرغام علي على مبايعة أبي بكر. فاللجوء للقوة أو الحيلة في فض النزاعات أسلوب قاصر وغير دائم. بمعنى أنه سياسة حربية تلجأ للقوة لكن دون تجييش أو زج العسكر في احتراب مباشر. ويعبر عن سياسة التخويف والإجبار. وكما قال الغرباوي في الحوار بالحرف الواحد: هذا دليل على عدم تناول جوهر الإشكاليات (بسبب التحرج والحياء أو الرهبة).
5- وغياب التسامح دليل مؤكد على اليأس ومدعاة لتعميم ظاهرة العبث واللاجدوى. وتفشي المحسوبية والاستغلال، بالإضافة لسيادة روح العدمية التي تؤشر على نهاية وتفكك أي مرحلة من مراحل الدولة كما ذكر هيغل في موسوعته عن علم الجمال. وبمثل هذه الظروف يستحيل على السياسيين مراجعة الأجندا الخاصة بالتنمية أو التطوير (12).
6- وهو أي التسامح ضامن لأي هوية بإبعاد شبح الهدم عنها. ويكون تلافي الأخطاء بالمراجعة والتثبيت، وليس بالمراجعة والإلغاء. وتزداد أهمية هذا الأسلوب في ظل انتشار روح المفعول الرجعي للمستجدات. فهي لا تكتفي بتبييض الذاكرة تمهيدا لنقلة على مستوى النوع أو الحقيقة، بمعنى المضمون، ولكنها تقود لغسيل ذاكرة أو عمى أبيض بلغة ساراماغو. بتعبير آخر إنها تودي بالتطور لمرحلة عكوسة، وهي مشكلة تجميد البدايات وعدم الجرأة على كسرها أو تخطيها. إنها تحول فلسفة الحياة من تحول تدريجي إلى دورات مغلقة وخانقة. كما أنها تضع الحق المطلق أمام الباطل المطلق لزيادة شحنة النفور والكراهية. ويدخل في هذا الباب حكم قتل المرتد الذي لا يوجد له أصل قرآني، ولكنه يعبر عن التمادي بروح الشر ومقت الآخر (13).
7- ولا بد للتسامح من الاقتران بالحرية. فهي شرط للتخلص من عبادة الأب أو جور الدولة والمجتمع. وصور الحرية عند الغرباوي ليست مادية. إنه لا يردف الحرية بشروط تنشيطها كما فعل مع جدوى ودوام الأحكام في الشرع ومنها الجهاد والفتوحات والخمس وغيرها، بل تركها مفتوحة من غير معرّفات كالمسؤولية والالتزام والهدف. ولكنه يقسم الحرية لشكلين دينية
وسياسية، يعني روحية وواقعية. ولا أستطيع أن أرى كيف يمكن فصل الروح عن الواقع. فهما حدان لماهية واحدة. إنما يستدرك الغرباوي هذه الفكرة الغامضة، ويشترط على التسامح أن يكون عاقلا لأنه لا معنى لشيء بلا آلية توجيه وتعليل. وعلة الخلق في الوجود هي الخالق، أو واضع سنن الثواب والعقاب (14).
وبرأيي إن المعنى العام والشائع للحرية لا يخدم فلسفة التسامح. فأن تكون طليقا من القيود لا يعني بالضرورة أن تكون متمالكا لبقية جوارحك. ولذلك إذا كنا نتكلم عن فكرة من وراء مفهوم الوجود والعدم لا بد لنا من تحديد الوجهة أو الغايات. فالإنسان مخلوق غائي بعكس الطبيعة التي هي فطرية. ولا يتحكم بوجودها غير شرط البقاء نفسه. حتى الغرائز وهي جزء أساسي في نشاط الإنسان وحياته لا تستسيغ فكرة الممانعة. وأي منع بسيط يسبب لها الحصر والكف والكبت وغير ذلك من العيوب النفسية ذات الأثر الضار. ومن هنا تأتي أهمية التصعيد، ويوازيها في حياتنا اليومية: مبادئ مثل الالتزام و الانتماء والواجب وسوى ذلك. وبودي الإشارة هنا لشريحة الطلقاء الذين دخلوا في دين الإسلام أفواجا بعد سقوط مكة، وتسامح الرسول معهم. لقد كانت الحرية الممنوحة لهم، أو حق الاختيار، تحت ترهيب السيوف. فهي حرية شرطية ناقصة. واختيارهم لم يكن تلبية لنداء الحدس والمعرفة الإيماني الذي تكلم عنه كيركيغور في (إما أو)، ولكنه تلبية لحاسة واقعية الغاية منها البقاء والاعتراف بسياسة الأمر الراهن.
*التعبير الأدبي عن الخلافات التاريخية
وينطبق نفس الكلام على بطل رواية (حارس التبغ) لعلي بدر. فقد كان ضياعه بين ثلاث حضارات وثلاث هويات متعارضة، يحمل تأثير دافع الرهبة والخوف على الافتراضات أو الخيارات المتاحة. فهي خيارات الواحد منها يحجب الآخر ولكن لا يلغيه. وهذا هو الخطأ الذي ارتكبته كاتبة إسرائيلية متميزة هي يائيل دايان في روايتها الصغيرة الشفافة (غبار). ومع أنها أشبه بقصيدة عن حب الأرض، لكنه حب من طرف واحد. إنها ترتكب الخطأ الذي يعمي الغريزة عند المثليين، ويحولها من الموضوع إلى الذات. بمعنى أنه يكبلها بقيود نفسها. فالحب في رواية دايان هو بين الثلاثي غير الأوديبي: يهودية ويهودي وأرض مهجورة ولا وجود لها إلا في الأساطير التوراتية. في حين غابت صورة العرب من المشهد، ناهيك عن الماضي الإسلامي للمجتمع. وبظني إن شخصيات (غبار) نسخة معدلة من فلسفة دانييل ديفو عن ملحمة البورجوازية الصغيرة وهي تبحث لنفسها عن رأسمال ثابت وقضية (15). وإذا كان لا بد من تفاصيل، أستطيع القول إن الأدب الإسرائيلي، بحد ذاته، أشبه بحوار مع الذات. ويفسر أنطوان شلحت هذه الحالة بقوله: إن للأدب الإسرائيلي غاية مضمرة، لا ثاني لها، وهي الدوران حول ذاته، وتجميل وجه الإيديولوجيا الصهيونية(16). وطبعا يقصد السياسة الكولونيالية التي تضع نصب عينها القضم أو الاستيعاب. وإن هذه المرحلة بالنسبة لليهود بمثابة (عودة الروح) عند توفيق الحكيم، اكتشاف لحضارة مهدورة وقضية نائمة. بينما الأرض تستمر بحالة ذهول وغياب عن الوعي لأنها أب و أم، أو بطل مخنث، يقدم لك المهد والشعور بالأمان في العلاقات الرحمانية (وهنا أستعير الكلمة من زكي الأرسوزي). فالمشاعر تأخذ دور وعي أنطولوجي بما هو ظاهر وبحد ذاته. بتعبير آخر: إنها تلعب دورا لا يمكن تحديده لأنه حالة التباس بين أمنية وواقع، الأمنية رومنسية ومخملية، والواقع خشن وصعب، ويفرض عليك الكدح دون مزيد من العطاء، وهو
كدح مشروط وغيبي ويغطيه الغبار، وكل ذلك بمبادرة رمزية تدل على الضياع واللاجدوى ولكن الضرورة. وبظني إن هذه العلاقة لم تكن لتجد معادلا موضوعيا لها في الحياة المادية، وكان من المفروض على البطل اليهودي أن ينتقل إلى العالم الآخر ليبحث عن نفسه بين ركام النظريات ورواسب التاريخ كي يفهم موضعه الدائم من وجوده الطارئ والأسطوري (كما فعل إتجار كيريت في رواياته القصيرة وقصصه)(17). وإتجار كيريت، بسخريته وفكاهته السوداء، وحده من وظف عناصر من رسالة الغفران لينظر إلى العالم الحقيقي، وهو ينمو في داخله وضمن مساحات احتلها الفراغ الروحي مع أوهام ذات عتاد قومي أو ديني.
ولا يوجد مثال أوضح من الأدب الإسرائيلي لتوضيح فكرة التعايش مع الشك والندم بمعنى الإحساس بالخطأ الداهم (وليس الخطيئة). فالحالة ليست دينية (نحن لا نحمل إثما ميتافيزيقيا)، ولكنها مشكلة مع التاريخ وموقع الذات منه. والإشارات في هذا الأدب لها علاقة بالذاكرة قبل أن تكون ناجمة عن الروح. وهي ذاكرة ملفقة في معظم الأحيان، بمعنى أنها ذاكرة مفضّلة. وهذا هو سبب الشك المنهجي، وتراه بشكل إسقاطات على الذات، بينما هو في الأدب الفلسطيني بشكل تفجع ونواح. يعني هو موضوع لقضية تحتاج لإثبات. إنه لا يوجد في الأدب الإسرائيلي عدو واضح ولكن خوف من حالة تاريخية رمزية لها مضمون وجودي. والبحث عن الأرض تحدوه دوافع غامضة، ودائما يخيم الضباب على جو الأحداث أو تلفه رياح الخماسين بالإظلام والسواد، ، و في رواية (بالأمس فقط) ليوسف عجنون (18) صورة شديدة الغموض لكل من مدينة القدس و إرادة الإنسان. فالمدينة يحيط بها جدار لا تسهل رؤيته لأن الغيوم الرمادية تغلفه كل الوقت. و الإنسان في فرار دائم من نفسه بسبب عدم تطابق الواقع والأمنية. وعن ذلك يقول إسحاق بطل الرواية الشاب: إنه لم يجد بعد أن نجح بالوصول لأرض إسرائيل غير شمس قوية تضرب على الرأس كالمطرقة (ص41). ويضيف: كانت الشمس تلتهب في الأعلى والرمال تحترق في الأسفل (ص39). ثم يردف فورا: حتى أنه أصبح على شاكلة التراب الذي يحترق. وفي هذا الجو أخذت الحرب شكل تطهير للأرض، ولجأت الشخصيات لذكرياتها أو لمونولوجات صامتة وتأملية ودون حوار. وهنا كل المسألة. لا يوجد حوار بسبب انعدام المحاور (الطرف الآخر). والأزمة الحقيقية في هذه الحالة هي في عدم الاستعداد لتعريف الأرض من خلال الإنسان، وكأن الواقع تابع للذاكرة، وأن الذاكرة جاهزة، ولا يطرأ عليها تبدل، ولا يمكن أن تتطور. إنها ذاكرة فرويدية يهيمن الأركيتايب على كل أطوارها، ودون أي مجال لقطيعة معرفية. وأخشى أن التسامح فكرة غير مطروحة في أدب القضية الإسرائيلية، ولكن يمكن أن تتلمس عدة أشكال من التجاور بحكم الأمر الواقع. وهذه مسألة بنيوية، وهي تحصيل حاصل، وتوحي بتفاهمات بسيطة دون حل سحري. ويغلب عليها مشاعر الشفقة والعاطفة الإنسانية العامة. وبرأيي إن الأدب الإسرائيلي المعاصر، الذي ينحو بشكل واضح للتعايش، ويبحث عن حل منطقي يشمل كل الأطراف، هو في واقعه بديل نفسي، وبعيد عن المضمون الروحي للحضارة العارية. وبتعبير آخر: إنه يستبدل الشحن والغلو، بالبزل والتمهيد. وتجتاحه أساليب من غسيل الدماغ، أو تفريغ الأرض مقابل التفريغ الروحي. وفي هذه الفجوة يفترض إنشاء صيغة تفاهم. لكن ما يجري فعلا هو إعادة تشكيل للذات، وفق مصالح أنانية. وأعتقد أن مثل هذه الصيغة هي جزء من خدعة يجب أن تنطلي على الآخر بقدر ما تنطلي على نفسي. إنها تكمل تحرير الذاكرة من نفسها أو من الحقيقة، بتحرير الواقع من حاضره أو من ماضيه. وعليه لم يكن هناك حل لمشكلة الحب المختلط. فقد حكم عليه بالفشل، وبشكل يعيد للذهن الصراع مع الذات والبيئة كما هو الحال في الشعر العذري. إنه غرام
بين لاشعور الإنسان ونفسه، بمعنى أنه تصعيد من الذات وللذات، وتقترن به المشاعر السيادية مع المشاعر المكبوتة باعتبار أنه صراع غرائز ضمن جوهر واحد. لذلك لا نتوقع في النتيجة غير نهايات راديكالية ومجحفة كالموت أو الجنون. إن حبكة المرويات الإسرائيلية أو ظاهرتها في سردها الملحمي للواقع تركز على إعداد الذات والاندماج بالأرض والطبيعة دون أي فرق بين عناصر التذكير والتأنيث أو بين مشاعر السعادة والرهبة. وهكذا إنها تكسر مبدأ إيمانيا للوجود هو مبدأ الرقابة خشية الموت. إنها سرديات تنطوي على فكرة جاهزة وتحاول تجريدها بحكاية حتى أن الأرض موجودة بحالة انتظار للمخلص (وهو أيضا مستثمر رأسمالي) يقيس كل شيء بميزان الربح والخسارة(19). وفي معظم الحالات تبدو السماء وكأنها نسخة عن الأرض، أو انعكاس ذهاني (كما ورد في بداية الكلمات والأشياء لفوكو). فالواقع تجريدي وغير نسبي ويفتقد لقانون السببية. ولا تعرف سببا منطقيا واحدا لحالة التصوف والانطواء على الذات التي تدمج الإنسان بالأرض. ومن المؤكد أن السبب التاريخي غير وارد، فهو سبب مكتوب باللوح المحفوظ (إن صحت العبارة). وأي رحلة لليهودية السياسية في السرد تبدو لي أشبه بالبحث عن ينبوع الشباب الأبدي. فالسعادة مرتبطة بالعودة إلى الينابيع، وبدورة أسطورية مكتوبة قبل ظهور الإنسان. ولا شك أن التفسير اللاهوتي للتاريخ يختلف جذريا عن التفسير الواقعي له. أما بالنسبة للمعارك الطاحنة، التي تحفل بها هذه الأعمال، هي مشاحنات مازوشية إن نظرت لها نظرة ثاقبة، أو صراع مؤلم مع القدر وتعجيل بالمصير المحتم. ففي حال غياب العدو الحقيقي، والتعامل مع الطبيعة على أنها اعتداء على الذات، لا يبقى مجال لغير النشاط الذهني. فالتاريخ هنا يمشي على رأسه. ويجب على الواقع أن يعكس رغبة ذاكرة مسبقة الصنع. وضمن هذا الجو لا يمكن أن تستغرب الأشكال المتعددة للغرام الممنوع. وبالاستطراد لا يمكن أن تنظر بعين الاستنكار لظاهرة النزوح والنزوح المعاكس. فهما نتيجة ملموسة لخلفيات تستمد مشروعيتها من اللاهوت. وبكل تأكيد مثل هذا الجو هو الذي مهد لانتشار العنف وللفرز على أساس ديني، وقاد لتشريد 830 ألف يهودي من البلاد العربية. وبالمقابل لتدمير 293 قرية وبلدة فلسطينية (20). والآن يعيد السيناريو نفسه بدورة عنف جديدة على أساس طائفي أو عرقي. وهذا يعيد للواجهة الفرق بين الحرية المطلقة والحرية العاقلة. وبظني إن الغرباوي، في حديثه عن ربط التسامح بالحرية، لا يحتكم لأي منهما، ولكنه يقصد الحرية الواعية (أن تعرف حدود الخير وحدود الشر، وأن تكون كارها للشر، وميالا للتسامح، لأنه الشكل المنطقي الوحيد لحياة متحضرة ومزدهرة).
*كلمة أخيرة
وبالنهاية التسامح ليس فكرة ثابتة. بمعنى أنه ليس جزءا من عقل سكوني. بل هو مؤشر على نضج الحضارة ومضمونها الميتافيزيقي. فالعقل يمكنه أن يكون ميتافيزيقيا. بمعنى أنه يسمو فوق قيوده وكوابح آلية عمله. لكنه لا يكون خرافيا ومشلولا عن التجسيد، أو بعيدا وغريبا عن نفسية الإنسان ومداركه. ولذلك هو جزء حيوي من مسيرة التجديد. وأعتقد أن محمد الطالبي كان أول من نوه بضرورة تفكيك ثمار أول موجة من التنوير، وأي التزام بها سيكون له مفعول سلفي وسلبي على معنى الفكرة الأساسي. إن الثورة تتحول لضدها إذا لم نعمل على إزالة ركام دورة التاريخ فوقها. وهذا هو حال التسامح أيضا. المعنى المقبول للكرم والحكمة في القرن السادس لا يمكن أن يكون هو نفسه في القرن الواحد والعشرين. ومن هذا المنطلق يمكن أن
تقول إن التسامح يعني، فيما يعنيه، الثورة على ماضي الكشوفات الروحية، وإعادة شحنها بمفاهيم غير معروفة، تفسر الفجوات وتعيد التنقيب في الفراغ الصامت والمسكوت عنه. ولا يعقل أن يكون للاتجاهات السلفية تنظيم حركي وظيفته التعبئة والإرشاد ضد كل شيء جديد باعتبار أنه بدعة أو ضلالة، ولا يكون لاتجاهات النهضة والتنوير فكر متحرك يبدل من طريقة إدراكنا للمعالم بالتوازي مع ما يطرأ على هذا العالم من تغيير وتطور.
هوامش:
1- دراسة نقدية لمدارات عقائدية ساخنة. صالح الرزوق. جريدة الزمان بتاريخ 3 تموز.2017.
2- أرقام الصفحات تحيل لكتاب (مدارات عقائدية ساخنة). طبعة أولى. دار الأمل الجديدة. دمشق. 2017. إلا إذا ورد غير ذلك.
3- A History of Contemporary Political Economy and Postmodernism. Stavros D. Mavroudeas. Review of Radical Political Economics. Fall 2006. P.p 499-518.
4-5- دراسات في العقلية العربية دار الحقيقة، بيروت، 1979ص30، ص309، على التوالي.
- الكرامة الصوفية والأسطورة والحلم، دار الطليعة، بيروت، 1977ص282 .6 7- كتاب العقائد، مطبوعات مجلة العصور. وكتاب الدعاة، مطبوعات المطبعة العربية ومكتبتها بمصر.
8- بواكير الفلسفة قبل طاليس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981ص82 .
9- The Origin of the Koran. ed. Ibn Warraq. Prometheus Books. 1998.
10- 11- التسامح واللاتسامح. دار العارف والحضارية. بيروت. ص20، ص21 على التوالي.
12- انظر حوار مع ماجد الغرباوي بعنوان: التسامح وسلطة الحقيقة. حلقة 10. منشور في المثقف الإلكترونية عدد 3970 تاريخ2017-07-1.
13- انظر الحوار السابق بعنوان: التسامح والحرمان السياسي. حلقة 11. منشور في المثقف الإلكترونية، عدد: 3974 تاريخ 2017-07-23.
14- التفاصيل عن دور الحرية في مشروع التسامح عند الغرباوي تجدها في كتابي: (جدلية العنف والتسامح). دار نينوى. دمشق. 2016. ص71 وما بعد.
15- Dust by Yael Dayan. Award Books. 1964.
16- في مقالته عن عاموس عوز: أدب تجميل الصهيونية. المنشورة في ضفة ثالثة بتاريخ 2 يناير 2019.
17- Suddenly a Knock on the Door by Etgar Keret. Farrar Straus Giroux. 2012.
18- only Yesterday by S Y Agnon. Princeton University press. 2000.
19- يمكن هنا الإشارة لأعمال عاموس عوز بشكل خاص. فهي في حالة غرام أبدي مع أرض الميعاد التي منحته نفسها لإعادة الإعمار والبناء. وبما أنها أرض موجودة بانتظاره منذ بداية المعمورة فهي أسطورة تكوين معاصرة. تهتم بإعداد الأرض (كمرادف للحياة) وتأهيل الذات (كمرادف للمطلق). ويبدو أن ذاته هي روح إلهية وجدت لتحول العماء (الصحراء والصخور) إلى جنة. وهذه الحيثيات موجودة منذ أول عمل له وهو روايته (حبيبي ميخائيل) المترجمة بعنوان (ميخائيل وحنة).
20- دحض الدعاية الصهيونيّة في وثائقي محطة «العــربيّة»: نبذة عن النكبة4 . أسعد أبو خليل. جريدة الأخبار. 18 آب. 2018.
صالح الرزوق / جامعة حلب
2019