القرط والكارديغان...من بلغراد إلى مسقط
خاص ألف
2019-04-20
باسل شاب عادي المظهر، يختبىء خلف نظارتيه، وعلى الرغم من محاولات الآخرين لإلباسه مختلف السرابيل التي تتناسب وأمراضهم الاجتماعية، لم يشعر يوماً بأنه بحاجة لقميص يوسف حتى يشفع له أمامهم، ربما لأنه لم يدّع يوماً ما ليس فيه، كان يشعر بأنه خلق ليكون جباراً لولا قلبه الذي يتقافز كأرنب جائع يجري خلف جزرته المخبئة في جيوب الجميلات اللواتي لايوفق معهن عادة بسبب لسانه السليط، وثرثرته التي تجعله لايختلف عنهن بشيء في نظرهن!، لا يعرف الكثير عن موهبته المذهلة في الرسم، بل أنه لم يكن بذاته مقدراً لفنه، فكان يعتبر لوحاته مجرد سقطات لحواسه، وانتصاراً لضعفه وحاجته للخلاص أحيانا ً، لأنه كان يؤمن أن الإحساس حين تجسده أناملنا الفانية لايخلد كما نعتقد، بل يفقد من قيمته الكثير كأي شي آخر حين نهبه إلى العلن!.
القولون العصبي كان يجعل صباحاته صعبة بعض الشيء، لذلك كان يكتفي بكأس من الماء فقط، ولأنه كان أسيرا لعاداته؛ كان يشعر أن أي تغيير يطرأ على نمط حياته الروتيني هو مؤشر على نكبة قادمة بالإمكان تفاديها فيما لو أبقى كل شي على ماهو عليه!، صحيح أن باسل شخص غير متدين، لكنه على قدر كافي من الإيمان الذي يجعله يؤمن بأن هناك من يصنع الأقدار، لكنه يصر أن القدر هذا ليس إلا نتيجة حتمية لأفعاله السابقة، هو يشعر بأنه ملاحق بأفعاله التي لديها القدرة على التحكم بأقداره، كان يتجنب جميع أشكال الرفاهية، لا بل كان يبحث عن الشقاء في التفاصيل التي قد لاينتبه إليها أحد، راجياً أن يجنبه هذا الكوارث المستقبلية التي قد لا يحسب لها حسابا.
هذا كله جعله قادراً على تحمل السائق الذي نصّب نفسه دليلاً له في بلغراد، فشخص كباسل عوّد نفسه على توقع الأسوء دائماً، لن يضيره أن يتحمل قليلاً سائقاً مزعجاً لفترة مؤقتة، زار باسل بلغراد بدافع الفضول بعد أن زار سراييڤو و سربرنيتشا فقط ليساعد نفسه على فهم ما حدث هناك، فقد شعر بأنه ارتبط روحياً بتلك المأساة التي قرأ وشاهد الكثير من الأفلام الوثائقية عنها، إذا كانت تلك مهمة محددة بالنسبة لباسل، فلم يكن هدفه من الرحلة الاستجمام الذي يحفاظ على سلامة الجيب كما يفعل سائر المسافرين الخليجيين إلى أوروبا الشرقية، كان باسل يأمل ولو قليلاً أن تساعده رحلات كهذه على حلحلة الأزمة الوجودية التي يعيشها، ولما وطئت قدما باسل سربرنيتشا، وتحديداً تلك المستودعات التابعة للأمم المتحدة التي وقعت فيها تلك الإبادات الجماعية ! احس فعلاً بفداحة ما اقترف ضد نفسه واحس برغبة ملحة للهرب من ذلك المكان ، كان يشعر حقا أنه هبط في وادي الموت الذي كانت تقطنه جيوش من الفراش الأبيض ، كانت تساقط تلك الحشرات على ملابسه بصورة مكثفة كفيل لإرهابه ، وبدأت الصرخات العالقة في تلك الجدران الملطخة بالدماء تحرر من محبسها وتتزاحم بداخل جمجمته، ولم يهون عليه سوى ذلك الطفل الذي قرر أن يطلق الريح ويغتال الصمت المطبق والمخيف الذي يعتري ذلك المكان، بينما أصيب أب الرضيع بالإحراج الشديد، كان ينظر باسل للطفل على أنه ملاكه الحارس الذي أنقذه من هول تلك اللحظة، هو لم يكن بحاجة لذلك السائق كمترجم في دول يتحدث سكانها الإنجليزية بطلاقة و لم يكن من نوع المرشدين الذي يفضله ، شعر باسل أن هذا السائق لم يكن ملماً بشيء من حقيقة أنه يحمل الجوازين في آن، والذي بسبب لغته الركيكة جداً لم يفهم قصته أبداً!
توقع باسل أن رجلاً يحمل جوازين لبلدين متناحرين كان يجدر به أن يكون غامضاً و مثيراً للدهشة بعض الشيء ، ولكنه على عكس توقعاته مجرد شاب أخرق إن صح التعبير، يتباهى كثيراً بقوته البدنية وتاريخه الرياضي - بما لايتناسب مع ردات فعله المتلكأة والبليدة حين يتطلب الموقف ناهيك عن ذوقه السيء في الأغاني ومزاجه الأسوء.
كان السائق متقلب المزاج ويبدو كفتاة صهباء مراهقة محبوسة في جسد رجل مفتول العضلات مع أن تلك العضلات لم تكن من النوع الذي يثير إعجاب أحد أو قد توحي بشجاعته أو ما شابه.
كان السائق قد ورث من البوشناق بساطتهم فقد كان هادىء الطباع بعض الشيء في أنه لم يكن حاد الملامح كالصرب لكنه ورث عنهم شعره الأحمر وقلة المروءة إن صح التعبير !
فحين تزور البلدين معاً لن تستطيع إلا أن تلاحظ الفرق الشاسع بين تواضع بوشناق البوسنة وسلوك الصرب الاستعلائي مع الآخرين.
هذا لايعني أن باسل عمم ذلك على سائر تجربته في بلغراد فهناك التقى بشخصيات محببة، بل على العكس، فتجربته في بلغراد كانت أغزر وأعمق لأسباب متعددة ، منها أهتمامهم الجلي بالفن بشتى صنوفه ، تمنى باسل أن لا يكون قد تأثر لاشعوريا بنظرية الضحية والجلاد في تلك الحرب البائدة بين البلدين.
في بلغراد أغرم باسل بزيمون، وبتلك التلة تحديداً، وبذلك المتجر المتواضع الذي كاد أن يمر بجانبه مرور الكرام لولا أن سأله السائق إن كنت يرغب في أن يقتني شيئاً منه، و لأول وهلة كان يبدو مليئاً بالخردة كعربة روبابيكا قديمة، ولكنه دهش بكمية التفاصيل الحميمة التي كان يعج بها المكان ، كان أكثر الموجودات هي أشياء يدوية من مشغولات تلك العجوز اللطيفة، اشترى شمعة طرزت حواشيها بالخرز وطبع عليها صورة ملاك، ولوحة مستديرة من الفخار لمحارب على حصانه ، ومفارش صغيرة بألوان فاتنة، وأقراط مرسوم عليها فريدا كاهلو مع قطة سوداء على الأرجح أنه اقتناها لأنه كان مولعاً بشراسة فريدا كاهلو وهي تتعارك مع ذاتها المحبطة، وهي تنتزع الجمال من حطامها لتجعل منه نظيراً لايقهر أمام وجعها، بقدرتها العجيبة على التصالح مع جراح الهزيمة التي جعلت منها أيقونة جمال كونية بالنسبة له، لم يكن يعتقد ابدا أن ذوات المساحات الاكثر انحناءاً هن الأشد جاذبية كما يفعل البعض لأن هذه التفاصيل تجعل من المرأة منحوتة المعالم كالمنيكان الذي نجده على واجهات الشوارع ، ويتوقف أمامه الجميع، فلا اعتقد حقا أن هذا يمنحها أي استثناء، ولا اعتقد أن أحدا سيغرم بمنيكان أو لوحة! فالكارزماتية الحقيقية ليس سوى تلك الهالة التي تنبع من جوهر المرء لتحيط به وتزيده جاذبية في أعين الآخرين، كان مؤمنا ايضاً أن في النقص مكمن الجمال وليس الكمال، أراد أيضاً ان يعوض ذلك الكارديغان الأبيض الذي رسم على ظهره وجه فريدا كاهلوا التي شرعت صاحبته - الفنانة المعروفة- في موطنه بمكاسرة صاحبه حمد الذي كان برفقته و صرح للرسامة بأنه لا يعرفها وأنه أتى فقط تلبية لرغبة صديقه باسل الذي كان معجباً بأعمالها
كان باسل يقف بجانبه ويتابع حديثهما بصمت، والحق أنه شعر بقليل من الإحراج في اللحظة التي بالغ فيها حمد بالمفاصلة على السعر المبالغ فيه! ، وقال في نفسه إن هذا فن وهو لايقدر بثمن فلما المفاصلة ! ولكنرأيه تغير حين ردت الفنانة بالإجابة ذاتها التي دارت في خلده مضيفة أن هذا السعر قد لايعادل شيء مقابل ما يتقاضاه الفنانون في الخارج .
وشرعت تحكي لهما عن مشوارها الفني الطويل وشهرتها الواسعة ، أخذ يتساءل هل يجدر بفنانة في مكانتها أن تقول ذلك كان تستطيع أن ترفض بكل بساطة ! فقد كان عازماً على شراءها على الرغم من ثمنها الباهظ و لكنه فجأة شعر أنه فقد الإهتمام بها وبعملها .
سأله السائق بفضول إن كان سيهدي تلك الأقراط إلى أحداهن ؟ تذكر باسل تلك الفتاة صعدت على كتف الرحيل و صرفته كبقية من تخشى عليهم من لمعة سكينها ، تركته ينقر كحسون صغير بالنيابة عنها نوافذ الهزيمة، ولأنه صبي صالح وحفيد بار بالوجع أحبها أكثر مما يجب، كان جزاءه بما أنه نجح في ترميم خرائب خيالها أن تسقطه في طمي أوجاعها، و تطلق وحوش مخاوفها عليه، لذا بعد أن قدم التعازي لنفسه في الازهار التي لن تنمو على ملاءته البيضاء لأنها ببساطة اختارت أن لاتستيقظ بقربه ، وضم أصابعه التي ارتعشت خوفاً من ظلان يتشاجران هما الألم والوحدة و سحب القبعة على أذنيه وهو يتذكر صوتها الدافىء الذي كان يزجر الضجر عن روحه وجاوب بإقتضاب : للأسف لا أحد .
Kay
2019-05-06
Its such as you learn my thoughts! You seem to grasp a lot approximately this, like you wrote the ebook in it or something. I think that you can do with some % to pressure the message house a little bit, however other than that, that is fantastic blog.A fantastic read. I will certainly be back.It is appropriate time to make some plans for the future and it is time to be happy.I’ve read this post and if I could I wish to suggest you few interesting things or advice.Perhaps you can write next articles referring to this article. I wish to read more things about it! Heya i’m for the first time here. I found this board and I find It truly useful & it helped me out much.I hope to give something back and help others like you aided me. http://foxnews.net
08-أيار-2021
14-تشرين الثاني-2020 | |
14-أيلول-2019 | |
20-نيسان-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |