الفارس أولغا توكارشوك* ترجمة:
صالح الرزوق
خاص ألف
2019-04-20
في البداية حاولت جهدها مع القفلين، و لكن يبدو أنها لم تكن متوافقة، لأنها بعد أن تمكنت من تدوير المفتاح في أحدها، بقي الثاني مغلقا- و العكس صحيح. وعندما هبت الرياح من البحر، التف وشاحها حول وجهها. و في النهاية ألقى هو الحقيبتين على أرض الممر و أخذ منها المفتاحين. و نجح في فتح الباب فورا.
كان الكوخ الذي يكتريانه باستمرار بجوار البحر مباشرة، و بين أكواخ الاستجمام التي تشبهه. فالصيف مزدحم و صاخب هنا، و المكان مفتوح لاستقبال الهواء، و تحيط به المظلات و مقاعد البلاستيك، و الطاولات الصغيرة المجهزة بالمذياع و الصحف- و الآن كلها مغلقة، و مشدودة على بعضها بعضا مثل الطبل، و غارقة في غيبوبة الشتاء. و لكن هذا الكوخ كان أكثر جاهزية، و له موقد نار و منصة كبيرة تشرف على الشاطئ. و الشرفة يغطيها الرمل، و لذلك ما أن دخلا حتى حملت المقشة و بدأت بالتنظيف.
قال:"لماذا تفعلين ذلك؟. لا يمكن أن نجلس في هذا الوقت من العام على الشرفة".
و أخرج الطعام من إحدى الحقيبتين و أودعه في الثلاجة. ثم أشعل التلفزيون فاحتجت. و قالت:" كلا من فضلك. ليس التلفزيون".
و كانت على وشك أن تضيف شيئا. و لكن منعت نفسها. وكان معهما كلبة، صيادة ثعالب، و هي رشيقة و نشيطة و لا تهدأ. و حينما كان يضرم النار بالموقد، جرت الكلبة عدة قطع من الحطب من السلة، و ألقتها في الهواء ثم قفزت نحوها مجددا.
قالت:" إنها تشعر بالبرد. و تفعل ذلك لتدفئة نفسها. هذا مؤكد و يجب علي أن أعتني بنظافتها".
"و لكنها كلبة فقط".
"إنها تثير أعصابي سواء كانت مجرد كلبة أو لا، أقصد أنها لا تهدأ. وهي مفرطة النشاط. ربما علينا أن نضع المهدئات في طعامها. برومين، ليومينال، شيء من هذا النوع؟".
"و لكن لم تكن تثير أعصابك".
"حسنا هذا ما يحصل الآن".
حملت حقيبتها إلى الطابق العلوي، إلى غرفة النوم الصغيرة المتجلدة، و جلست على السرير، و كان مغطى بملاءة. تبعتها تلك الكلبة "ريناتا"، و قفزت على الملاءة. نظرت لعيني الكلبة البراقتين البنيتين. و شعرت بلقمة تسد بلعومها، مع تيار من الألم، نفذ في كل أرجاء جسمها، ألم عابر و لكن فادح.
فكرت: الحال تتغير مع الزمن. و هذا شيء غير مقبول. نحن نتفكك ولا نستمر و نتقشر.؟ كأن الإنسان شريحتان من الزمن الفلكي تتداعيان و تتباعدان مع فوضى كئيبة، و تلقيان ظلا يباعد ما بين "الآن" و "اللاحق" و هذا يستمر لملايين السنوات. "الآن" صامت، و بأطراف مسننة - النوم العميق في الليل، و بقايا التوتر الذي يظهر عند الاستيقاظ. كما لو أن حربا اندلعت خلال النوم. "اللاحق" يبدو متواصلا و له إيقاع تراه من زاوية نظره فقط، و للضوء صوت مثل كرات البينغ بونغ حين تطرق طاولة مستوية، هناك ثوب من اللحظات و كل خيط منه جزء من نسيج أوسع.
و أدركت أن أبسط طريقة لفتح حوار أن تبدأ بـ "هل تذكر حينما"... فهناك شيء ميكانيكي بهذا الكلام، مثل حركة يد تلاطف طفلا، مثل فتح محطة إذاعة تعزف موسيقا هادئة فقط- وكل تلك الأصوات التي تشبه زقزقة العصافير و شلالات الماء و الحيتان. " هل تذكر حينما" حملتهما معا لمكان واحد من الماضي، . و هو لحظة عاطفية دائما، كأنك تطلب من شخص أن يرقص معك، و يأتي الرد بإشعاع و بريق من العينين. نعم هيا نرقص. كان من الواضح أنهما يتبادلان كلاما بنسخ مستقرة عن الماضي البعيد، بسرد مألوف جدا، و أمكن تذكره عدة مرات من قبل، و هو آمن تماما. الماضي مستقر. و لا يمكن تبديله. و الماضي تجربة تتعلمها
بروحك، فأساسات الذاكرة محبوكة بقصص قصيرة و مرحة و مستعادة. مثل كيف اعتاد أن يقطف البندق من أجلها و يضعه على أوراق نباتات في الحديقة. أو حينما اشترى كلاهما نفس الجينز الأبيض- هذا من فترة بعيدة، و لكنه الآن أصغر من حجمهما بنمرتين أو ثلاثة. أو عن شعرها الأحمر، بالتصفيفة المتموجة و التي كانت موضة سائدة. أو حينما كان يطارد قطاره و هو يودعها. و كلما ذهبت لمسافة أبعد في الماضي تجد قصصا أكثر- من الواضح أنه بمرور الوقت أنت تفقد قدرتك على أسطرة الأشياء العادية اليومية، و تسجن الواقع بمكان شائع برفقة التفاهات.
و ذات مرة كانت النار ملتهبة، و بدآ بتحضير الغداء، مثل ثنائي منسجم، كانت تقشر الثوم و هو يغسل الخس و يهيئ الصلصة. ثم هي جهزت الطاولة، و هو فتح زجاجة نبيذ- كأنهما يرقصان، رقصة مثالية و كانت حركات شريكك مألوفة جدا و لا تشد انتباهك، ثم اختفى شريكك، و هكذا بدأت ترقص بمفردك.
ثم نامت ريناتا عند الموقد، و كان بريق اللهب البرتقالي يسطع على شعر جلدها. و فجأة تحول المساء إلى شيء لا يطاق و ثقيل مثل وجبة عشاء ثقيلة قبل النوم. انتقلت نظراته دون إرادة منه إلى التلفزيون، و لكنها شعرت برغبة عارمة للاستحمام، و باعتبار أنها ليلة خاصة، أول ليلة لهما، كان أمامهما متسع لتنفيذ امنياتهما. غير أنه لم يهتم.
سألها:"هل يمكنني فتح زجاجة أخرى؟". و أدرك فورا أن المزيد من النبيذ قد يفسد ترتيب الأشياء التي تستقر بمكانها بالتدريج، فبعد الشراب يحل وقت الشعور المعروف بالارتخاء، و الإحساس بالهبوط، و الجو المكبوت، و فراغ الكلام الإنساني من معناه، والرغبة بالهرب. و الحاجة للحوار تتوقف عن أن يكون لها جدوى بعد عدة عبارات، لأنه عليهما تعريف الكلمات التي يتكرر استعمالها. كما لو أن لغتيهما تفترقان.
ردت بنغمة سعادة مزيفة:"أعتقد أنني اكتفيت". و هكذا أخرج رقعة الشطرنج، و شعر بالغبطة لوجودها، بين بعض الكتب القديمة المرصوصة على الرف قرب التلفزيون. الشطرنج، أيضا، ينتمي لجو عبارة " هل تذكر حينما".
كانا يلعبان باستمرار بصمت، و بدم بارد، و بلا تعجل، و تتشابك اللعبة في الأيام الأخيرة. كان يختار الأسود- دائما يختاره- و هي تشعل سيجارة. شعر بإبرة الغضب الحادة تنفذ من خلاله: كان يكرهها حينما تدخن في الغرفة. و لكنه لم يعترض. فليس هناك أي خطأ. أبدا، أول لعبة تكون روتينية، و أتوماتيكية، و كلاهما يعرف الخطوة التالية. و قد فطنت أنها تعلم كيف يفكر، و كان هذا يصدمها. و انتابها دوار خفيف -فالربح مضجر و مر. و هكذا سمحت له أن يربح، فتثاءب.
قالت و هي ترتب القطع:" هيا نلعب مجددا، لكن هذه المرة علينا أن نلعب فعلا، أن نركز فعلا. هل تذكر كيف استمرت اللعبة ذات مرة لأسبوع؟".
"أول عيد ميلاد في بيت أهلك. لم يكن بمقدورنا أن نتوقف بسبب ذلك الثلج المتساقط، كل شيء كان مطمورا تحته".
و تذكرت رائحة الغرفة الباردة التي كانت أمها تحتفظ فيها بكل الأشياء التي تخبزها في أيام العطل، و تغطيها بالمناشف. قاما بحركتين، و توقفت اللعبة، حان دوره، و ذهبت خلاله إلى المنصة للتدخين. و من خلال الزجاج كان يشاهد كتفيها الناعمين، و هما يغوصان في وشاح صوفي. و لم يحرك حجره حتى عادت.
سألته:"هل تظن أنه علينا أن نرتاح اليوم؟".
وافق بحركة من رأسه.
"هل أنت جاهز للنوم؟".
و انتابه الشعور بقصدية هذا السؤال، كما لو أنه يهمها حقا أن تكون لهجتها محايدة.
"سأتأكد أولا من نشرة الأحوال الجوية، ثم أجهز السرير".
أشعل التلفزيون، و أصبحت الأمور طبيعية بطريقة من الطرق. و زال التوتر بينهما حينما اهتم كل منهما بشؤونه. فتح علبة بيرة أخرى. و تنقل بين المحطات، ثم اختفى. و ذهبت هي لتغتسل. رفعت التدفئة الكهربائية حرارة الحمام الصغير بسرعة. وضعت عدة مناشف على الرف تحت المرآة. و مالت على مرآة
الحلاقة و تفحصت العروق الحمر الباهتة التي تخللت وجنتيها. ثم تأملت بتمهل بشرة عنقها و صدرها. نظرت لنفسها بالمرآة، و تخلصت من مكياجها بمنشفة قطنية. و ما أن تعرت حتى تذكرت أنه لا يوجد هنا حوض استحمام، فالحوض موجود هناك في المدينة، لم يكن لديها الآن غير الدوش الضعيف المفصول عن بقية الحمام بستارة بلاستيكية تشبه القشور الملونة. و انتابها الشعور بالبكاء، و غضبت من نفسها حينما انتبهت أنها تقوم بحركات تمثيلية مبالغ بها، فالإنسان لا يبكي لعدم توفر حوض استحمام وحسب.
وحينما زحفت إلى غرفة النوم، لاحظت أن السرير غير جاهز، و الملاءات مكومة على الكرسي، مطوية بعناية، و باردة و ناعمة. و جاءت دمدمة من التلفزيون الذي يعمل في الأسفل، و تزايد جماع غضبها مثل انهيار ثلجي، و بدأت بترتيب السرير، و كافحت عند زوايا الملاءات، و كان جهازها العصبي يتناسب مع غضبها- كما لو أنها أغنية و ألحان. و كان يبدو لها أن هذا الغضب عام، مجرد حنق لا هدف له، و ثم، بلا سابق إنذار و لشديد دهشتها، أصبح كل شيء صقيلا كحد السكين - مثل فيلم كرتون، و كان الطرف المدبب يتجه حيثما جلس الرجل مع علبة البيرة، و مثل سرب من النحل الهائج، اقتحمت السلالم الخشبية و دخلت إلى غرفة المعيشة. ووقفت عند الباب و شاهدت رأس الرجل - كان جالسا بوضع جانبي- و لدقيقة من الوقت اعتقدت أن الخطر الداهم سيخترقه في دماغه، بسرعة كاسحة، و سيتوقف الرجل عن الحركة ثم ينهار و يتراخى على ظهر كرسيه. ميت.
صاحت من أعلى السلالم:"أنت، هل يمكن أن تساعدني؟".
قال:"أنا قادم". ووقف رغما عنه، و هو لا يزال يحملق بشاشة التلفزيون.
و في الوقت الذي استغرقه بالصعود، كانت قد هدأت. و أخذت نفسا عميقا.
سألته برباطة جأش:"هل أنت مزمع على الاغتسال؟".
قال:"حصلت على حمام قبل أن نغادر".
و استلقت على ظهرها بين الملاءات الباردة غير المريحة، و التي تترك لديك الشعور أنها مبتلة. و تحرك ليطفئ النور. و سمعته يغلق باب الشرفة و يضع كيس النفايات في علبة القمامة. ثم تخلص من ثيابه و استلقى على طرف السرير. و لبثا كذلك لبعض الوقت، متجاورين، ثم اقتربت منه و وضعت رأسها على صدره. تحسس بيده ذراعها العاري بعاطفة أبوية، و لكن في لمسته التالية، اختفت عاطفته - كان تلامسا، لا أكثر. و تدحرج ليستلقي على بطنه، فوضعت يدها على ظهره كما لو أنها تضغط. كانا ينامان هكذا منذ سنوات طويلة. و زمجرت ريناتا من موضعها عند أقدامهما.
نهض أولا، ليفتح الباب للكلبة. و شقت طريقها للغرفة الصغيرة لفحة هواء جليدي. و راقب الكلبة تسرع نحو البحر، و تطارد نورسين،و تريح نفسها، ثم تعود. كانت هبات الريح تثور من جهة البحر. وضع الماء على النار لإعداد القهوة و انتظرها لتغلي. و ألقى نظرة على رقعة الشطرنج و تأكد من وجود خشب محترق في الموقد، و لكن النار كانت خامدة تماما. صب القهوة،،وأضاف الحليب و السكر- في كوبها. و عاد أدراجه إلى الأعلى و معه الكوبان و اندس بين الملاءات الدافئة. و شرب القهوة منتصب الظهر، و هو يسند رأسه على رأس السرير.
قالت له بصوت متثائب بسبب النوم:"حلمت بطائرة حافلة بكعك نابوليون. و كانت الأرض مغطاة بالثلوج. و لكنه ثلج زهري اللون".
لم يجد طريقة للاستجابة. نادرا ما كان يحلم. و إذا شاهد حلما، فهو ليس من النوع الذي يمكنه وصفه. إنه لا يجد الكلمات المناسبة لذلك. و بعد الإفطار حمل الكاميرا و نظف عدستيها كليهما، فالمفروض أنهما سيخرجان بنزهة. ارتديا الثياب الدافئة التي أحضراها - الصوف، الأحذية الطويلة، الوشاحات و القفازات. و اتجها إلى الشاطئ، نحو الكثبان، حتى غابت عنهما الأكواخ الخشبية. و هناك بدأت مملكة الأعشاب تميل مع الريح. جلس القرفصاء و أخذ صورة لكدسة من الأخشاب العائمة التي يتلاعب بها البحر - كانت تشبه عظام حيوان. ثم نظر من العدسة، و هو يتلفت حوله. و تركته وراءها وتابعت المسير على طول ضفة البحر، و صنعت أقدامها طبعات خفيفة على الرمال و كانت تزول فورا و تغمرها المياه. و كانت ريناتا تحضر لها
الوتد و ترمي ساقيها معه، و لكن كلما تستعيده تزمجر ريناتا و ترفض تسليمه.
قالت:" كيف يفترض أن ألقيه في الهواء و أنت لا تعيدينه لي، كلبة غبية؟".
ثم تخلت ريناتا عن الوتد الذي استعادته- كان يطير إلى مسافات مرتفعة ثم يسقط ما بين أسنانها.
و فهمت المرأة أنها محط اهتمامه، و أن عين العدسة المستديرة تتابعها. و لغمضة عين رأت نفسها كما كان الرجل يراها- قامة قصيرة و قاتمة أمام خلفية من الظل الأبيض و الرمادي، شكل مثلث بحدود جازمة. و لمح يدها المحمرة. هل فعلت شيئا خاطئا؟. كان يستر وجهه خلف الكاميرا و يوجهها نحوها - كأنه يسدد عليها سلاحا. كان عليها أن تعتاد على ذلك- دائما يلتقط لها الصور، و لكن شعرت بنفس الحنق الذي استولى عليها في اليوم السابق، و هي في السرير. ابتعدت. و تابعها، و سارا معا بصمت. و احتوتهما الريح و هما صامتان، و أجبرا شفاههما على الانطباق. كلما طال الصمت كان هناك القليل ليعترفا به، و الكثير من الطمأنينة و الهدوء. و شردت أفكاره نحو اليسار، باتجاه البحر، و انطلقت فوق كتلة زوارق الصيد، و حطت على الجزر، في بلدان أجنبية، و حيثما أمكن. و عادت أفكارها هي إلى البيت، و تعلقت بالأدراج و دخلت حقائب اليد، و ألقت نظرة على التقويم السنوي، و تكهنت بالفواتير. لم يكن صمتا مؤلما. كان من المفيد أن تمضي وقتك مع شخص صامت. و بنوع من الإشراق المفاجئ فكرت:"هذا الصمت فن"، و كررت هذه الجملة عدة مرات. و ارتاحت لها.
قال لها:"انظري" و أشار إلى غيمة داكنة تطير فوق الأرض على ارتفاع منخفض و تقريبا سقطت بين أغصان قمم أشجار الصنوبر. و شعر فجأة بالرغبة في التقاط صورة لهذه الغيمة مع المرأة، كلتاهما ممتلئتان برعد لم يزمجر. و بعاصفة من البرق لن يقصف.
صاح و هو يخطو للخلف نحو خط الماء الفاصل و ينظر بالعدسة من مسافة قريبة:"توقفي حيث أنت هناك".
كل ما أمكن أن يراه هو وجه المرأة، مشتتا بسبب الرياح، مع غضون على جبهتها، و شفتين متصلبتين من البرد. و لفت الريح شعرها حول وجهها. و صنعت بيدها عدة حركات عصبية لتنحيته من أمام وجهها، ولكن كل ذلك بعذاب و ضغينة. قرقعت أغطية النوافذ. فاستدارت بشيء من الشقاء.
قال لها:"انتظري قليلا. كل شيء يبدو رائعا الآن". و ابتعد قليلا للخلف، حتى غمر الماء حذاءه الطويل.
و غضبت من نفسها لأنها تحاول أن تأخذ وضعية استعداد للصورة، و لأنها مهتمة بشكلها. كانت الكاميرا لصق وجهه و ربح بذلك ميزة أمامها، و كان يبدو لها كأنه يعاينها، و يقدر حالها، و يقلل منها و يشيئها. لم تحب أن يلتقط لها صورة- كانت مكشوفة أمام تلك العين الزجاجية و التي استعملها كقناع.
أحيانا كان يتكون لديها انطباع أنه يمكنه أن يرى من خلالها، وأنه يعدها بشيء له علاقة بالخلود، و أنه يعلو بها فوق الفناء و العدم، و لهذا كانت قواها تتصاعد في عروقها. و كانت تستسلم له باستمرار. و دائما يدهشها النساء اللواتي تعملن بصفة موديل، كل تلك الشابات اليافعات و هن مستسلمات خلال التصوير، يرمين رؤوسهن للخلف، و بوعي كامل يعرضن شيئا للبيع، كأنهن لسن نساء، و لكن بضاعة معروضة للبيع، مثل البائعات المتحمسات الصغيرات. تجارة فقط. و لا غرابة أنه شاركهن الفراش. هل يعلم مقدار نعمة هذه الكاميرا عليه؟. كان وجهه مليئا بالحياة، حياة مؤجلة. شاهدته بعين ذهنها مجددا، و معه البيرة، و هو أمام التلفزيون- ثم أصبح وجهه عاطلا عن الملامح و المعاني، و كأنه بكل بساطة يخلو من كل شيء.
قالت بجرأة:"لا تلتقط صورتي". و دون أي صوت استدار بالكاميرا نحو ريناتا و تبعها لفترة من الوقت، و كانت الكلبة تتملص من مجال العدسة، تعدو بشكل متعرج، و تحاول أن تضعها خارج مسارها.
شعر بجرح في كرامته. أحيانا يمكنها نطق كلمات محايدة، لكن تبدو كأنها تريد أن تلطمه على وجهه. كيف يمكنها أن تفعل ذلك؟ و انتابه الإحساس أنه ولد صغير يحوم حولها، مجرد طفل. و لا يسعه أن يحدد متى ستلحق به الضرر. مع ذلك تمرن على فعل معاكس ناجع: أن يخفي ملكه خلف الجنود، و حينما يأتي دورها، تلك المرأة الغريبة، يتجاهلها، يتخطاها، و لا يلاحظها أبدا، لا يرد، لا ينظر، لا يهتم، يتحاشاها، و يحتفظ بمسافة منها كأنها صورة، و بهذه الطريقة يدعها بمتناول يديه- قوام مثلثي أمام خلفية من الظل الرمادي.
و بعد ذلك، تستدير نحو أحد الاطراف بطريقة غير مفهومة- و تلقي نفسها بين ذراعيه، و تتوتر و تصبح
وحيدة، مثل بنت يائسة صغيرة لها شعر رمادي، و ينتابها الوهن، و تتراجع، و تستسلم. و تزمجر، مثل ريناتا.
ركض خلف الكلبة. و عثرت ريناتا على عصا كبيرة الحجم، و قبضت عليها بين أسنانها، و بدأت تتوسل ليلعب معها. أمسك طرف العصا و جر الكلبة، و لكن لم تتركها. كانت ريناتا مولعة بهذه اللعبة.
هذه هي لعبة الفك المفترس. لعبة المقاومة. و بدأ يدور حول نفسه مع الكلبة المتمسكة بالعصا، و كانت تطير بمستوى خصره. ثم سمع صيحة و شاهدها تعدو نحوه.
تباطأ، و حطت ريناتا بأمان على الرمل. و أسرعت المرأة إليه، ووجهها متوتر من الحنق.
صاحت تقول:"ماذا تظن أنك تفعل؟. هل أنت أحمق؟. ستضرها. هل لديك أية فكرة؟. لماذا أنت غبي، مغفل؟".
ثم تابعت:"هل فقدت عقلك، أيها المغفل المتهور".
و آلمه ذلك. و اعتقد أنها مزمعة على ضربه. وكانت ريناتا- و العصا لا تزال في فمها- تتأرجح قليلا.
قال لها بهدوء:"اغربي عني، أيتها العاهرة المجنونة". و بدأ بالعودة إلى البيت.
ألح عليها البكاء. و ثار في داخله بسبب الشهقات الغاضبة كأنك تعدو خلف شيء ما لتمسكه. ووصل البيت، و هو يفكر يجب أن احزم أمتعتي و أنصرف.
أو لا تحزم أمتعتك، و اترك كل شيء هناك. كان يود أن يركب السيارة و يقلع. و أن يعود إلى المدينة. هذا هو الحل، و هكذا ينتهي الموضوع. و يمكنها أن تتصرف من دونه. فهي لا تزال شابة، و ستجد غيره، و تعيش على حسب هواها. و فكر أنه بذل ما باستطاعته، و عليه أن يتابع. لقد بذل كل ما بمقدوره.
و حينما عادت إلى البيت، كان يجلس أمام التلفزيون و يشرب البيرة. تخلصت من معطفها ووضعت الماء على النار.
سألت:"شاي؟". دمدم:"كلا".
قالت:"آسفة". و شعرت فجأة أنها ضعيفة كما لو أنها تمشي على الرمال، كما لو أنها مضغوطة، و قدمها تغوص. و تذكرت أنه لم يسبق له أن اعتذر منها على شيء. أبدا أبدا. أشعلت سيجارة.
قال:"هل يمكنك أن لا تدخني هنا؟".
ذهبت إلى الشرفة. و صفرت الغلاية. و لكن لم تسمعها، فنهض و أطفأ الموقد. و كان هناك برنامج على التلفزيون عن الزراعة. و تابعت ريناتا تسحب الخشب من السلة و تلقيه ثم تقبض عليه و هو معلق في الهواء.
سألته:"ماذا تعتقد، و كيف ستكون النهاية؟". ثم جلست بجانبه على كرسي له ذراعان.
"كيف هي النهاية".
"كل شي و نحن ضمنا".
هز منكبيه. و نظر إليها، و لكنه لم يحتمل منظر عينيها المتسائلتين و الملحتين.
قال:"سأشعل النار".
طوى بعض الصحف و كومها، ثم أضاف لها بعض الأغصان. و قدمت له الثقاب. و شعر أنها تريد أن تفصح عن شيء، لكنه لم ينطق. و أراد أن تقول أي شيء، و لكن في نفس الوقت كان خائفا أن تنزلق كلماتها من لسانها دون ضابط مجددا. و كان يعرف كيف يؤثر فيها، و فعل ذلك- صعد للطابق العلوي و استلقى على السرير غير المرتب، و حاول قراءة مجلة قديمة. و ارتاح لمقال عن الحاسوب، و لكنه لم يفهمه كما يجب. ثم لاحظ إعلانا عن عطلة في تركيا، و ذكرته برحلتهما المشتركة إلى اليونان- كل شيء غائم، معرض للشمس بلا رحمة، مثل صور لم تنجح بالتظهير. جسمها البرونزي و العاري تقريبا. و ممارسة الحب في غرفة الفندق- آخر مرة. و صدمة ارتباكه. و أدرك أنه لا يتذكرها بأي شيء آخر، و تلك الرحلة التي مضى عليها شهور هي أقدم ذكرى عنها. و في العبارة المتكررة "تذكر حينما" كان الناس الذين التقى بهم غرباء تماما. و استيقظ من النوم و هو يسبح بالدهشة.
وعندما فتح عينيه، كانت قد ذهبت. و الكلبة رحلت أيضا، و اعتقد أنها رافقتها إلى الرمال، و مع ذلك حاول
أن يتأكد من وجود سيارتها. و كانت هناك. أشعل التلفزيون و أصغى للأخبار بنصف طاقته. و كان الظلام يخيم في الخارج. جهز لنفسه البيض المخفوق و أكله من المقلاة مباشرة و هو أمام التلفزيون. ثم فتح علبة بيرة و أصغى للرسائل التي تلقاها جهازه الخليوي. ليس هناك ما يفيد. و شاهدها تعود، و وجهها منتفخ من الريح. و أسرعت ريناتا إليه لتحيته، كما لو أنه مرت سنوات على آخر لقاء. و نظرت المرأة للمقالة الفارغة.
سألت بشيء من الإدانة:" هل تناولت طعامك؟. هل أكلت؟". و أدرك أنه عليه أن ينتظرها. فقال:"فقط شطيرة، يمكننا أن ندهب إلى المطعم الصيني في المدينة".
قالت و هي تعلق سترتها:"لست جائعة".
و فكر بغضب، لماذا تسأل إذا. و لكنه يعلم لماذا، ليكون لديها سبب للانزعاج. قال لها بصوت صامت:"الكلبة يحركها مزاجها. لا تأكلي أي شيء إن كنت لا تريدين الطعام. هذا لا يعنيني فهو تفاهة". و استمتع بهذا الحوار الخيالي. و بدل القناة، و لكن كانت القناة التالية بيضاء. و حاول أن يجد غيرها. و لم يكن أمامه غير قناتين. و لم يكن لديه مهرب. وعادت من الحمام بعد قليل، شعرها ممشط، مع لمسة إضافية على مكياجها، و شم رائحة سيجارة جديدة تفوح منها- لا بد أنها دخنت في الحمام مثل بنات المدارس.
سألته:"هل نتابع لعبتنا؟" وافق. و لاحظ أن ترتيب لوحة الشطرنج مشجع. استمتع بوجود القوانين. و احتمال ضرورة التفكير قبل كل حركة. و إمكانية المفاجأة. و مشاعر السيطرة مثل عناق عصبي لطيف. ثم أضاف الحطب للنار. و هنا قالت:" بالله عليك انظر، الفارس الأبيض اختفى". بحثا عنه تحت الطاولة، و جرا الكراسي، و فتشا الفراغات بين الوسائد. و نقب بعينيه في سلة الحطب.
قالت:"ربما ريناتا . لا بد أنها لعبت بالحجرة في الخارج. انظر لسريرها".
و سحبت غطاء سرير الكلبة- كانت هناك عدة قطع من خشب الموقد و سدادات بلاستيكية مخصصة للمغسلة. و لكن ما من قطعة شطرنج.
قال كأنه يستعطف نفسه:"ربما حملت الحجرة إلى الردهة".
و باشرا بتفتيش دقيق. هو نقب في النفايات. و هي نظرت على الشرفة في الخارج. و جرا الطاولة. سألته:"هل كانت الحجرة بمكانها حينما غادرنا".
لم تكن تتذكر.
و قالت و هي تميل فوق الطاولة: "ماذا تفيدك قطعة شطرنج أيتها الكابة الغبية؟".
قال:"ربما مضغتها".
سكب كأسين من البيرة. و جلسا أمام رقعة الشطرنج المخيبة للأمل. ثم اقترح أن يستعملا قطعة خشب عوضا عن الحجرة المفقودة. و كسر قطعة و وضعها على المربع الأسود الفارغ. غير أنها تمنعت قليلا. ثم قالت:"لن ألعب بحطب".
"سأختار الحجر الأبيض إذا".
"و لكن علينا أن نبدأ من جديد، أليس كذلك؟".
قال:"كلا".
"لن ألعب إذا".
و فكرت من الأفضل لها أن ينصرفا حالا، و أن يحملا متاعهما، و يعودا إلى البيت، و لكن لم تجد الجرأة لتقول ذلك. و اشتبهت أنه هو من أخفى قطعة الشطرنج. و أنه هو من تخلص منها بطريقة ما. و لكن لم تنطق بكلمة- و تكومت على نفسها فوق وسادات الكنبة.
كانت تعلم أنه سيرحل في كل الأحوال، و يهجرها- سمتصه التلفزيون أو يصعد إلى الأعلى ليعاود النوم، أو يلهو بكاميرته (وشكرا لله أن الوقت تأخر و أصبح مظلما و لا يناسب التقاط الصور) أو أنه سيستغرق بالقراءة أو يهاتف الأصدقاء، أو يرسل لهم رسائل قصيرة- و هي تعلم أن هذا لا مهرب منه. و كانت تريد أن تقبض على قميصه الأزرق، و لكنها لم تجد الشجاعة لتبرح الكنبة. كانت يداه مشغولتين بترتيب قطع الشطرنج في العلبة. شعر أسود ناعم.
نظر إليها.
وقال:"لماذا تبكين؟. على الشطرنج، أم على ذلك الفارس؟".
وجلس بقربها و أحاطها بواحد من ذراعيه. و ترددت ذراعه الثانية لدقيقة، و لبثت في النهاية كما كانت، على مسند الكنبة.
قالت فجأة:"أن يهجرك أحدهم أفضل من أن تهجره. الهجران يمنحك القوة".
قال:"لي رأي معاكس".
"أنت لا تفهمني".
"أنا لا أفهم شيئا".
و نهض ثم ذهب إلى المطبخ. و سأل عن النبيذ- أليس لديهما و لو قطرة؟. قالت بلى.
كانت قد رتبت كل أفكارها في رأسها. جملة جملة، و مبررات كل جملة. و توضيحات كل جملة، و عليه أن يرد بطريقة ما، و من المستحيل أن يتحصن بصمته. و حينما عاد قدم لها كأسا و جلس على الكنبة. كان عليه أن يعلم بماذا تفكر. و أنه عليهما تبادل الكلام، و سينتهي، كالعادة، بمشاحنة. ثم إن ريناتا، تلك الكلبة المطيعة، بدأت بالأنين عند الباب. فنهض ليفتحه من أجلها.
قال:"هيا، أيتها الكلبة الغبية، ماذا فعلت بالفارس؟".
قفزت ريناتا للخارج في الظلام وهي تعوي. و نسمة قوية من الريح حملت سحابة خفيفة من الرمل عبر الباب. و سمع صوت التلفزيون من ورائه و انتابه الارتياح. هذا يعني أنها أشعلت التلفزيون.
قال:"من المؤسف أننا بلا دليل. ربما هناك فيلم جيد".
أعادت ملء الكأسين، مع أنهما لم تفرغا بعد. و فجأة استولى عليها التعب الشديد. مدت ساقيها مثله و وضعت قدميها على طاولة القهوة. وجلسا جنبا إلى جنب، يرشفان النبيذ حتى نهاية الفيلم، و كان لغزا مسليا قديما عن سيدة مسنة قتلت أعداءها بالسم. و كانت تترنح قليلا و هي تصعد السلالم.
قال:"سأكون هناك حالا". و لكنها تعلم أن هذا لن يحصل. سيجلس هناك، كما يفعل دائما، حتى الصباح. متأملا الضوء المعتم للشاشة، غائبا عن وعيه، ملتصقا بتلك الصور البراقة مثل هرة- و دائما يسكت الصوت. و تعلم ماذا سيجري، و من المفيد أن تعلم. هذا مريح للأعصاب. قناعة تامة و كاملة التكون. كان في يدها كرة زجاجية ناعمة. و هكذا سقطت بنوم عميق. استلقى فوقها مثلما يستلقي على الأعشاب، بكامل جسمه، بكل ثقله. كانت هناك رائحته المميزة، و نعومتها الخاصة. تنهدت. و استجاب جسمه كأنها تتمسك به. و قالت شيئا، و لكنه لم يفهمها. مرر يده على وركيها. فهمست:"لا أستطيع أن أتنفس". تردد. و توقف. و أدرك أن ليس تحته امرأة، و لا زوجة، و لا جسم امرأة، و لكن شخص، و أنه لا يستلقي فوق امرأة، و لكن فوق كائن بشري آخر، غيره، فرد مستقل، و لا يجوز الاعتداء عليه. هذا أحد ما بتخوم محددة واضحة و لكن ما عدا ذلك هو هش و عرضة للانكسار، رقيق مثل خيط ماء، مثل بسكويتة. و تلاشى إحساسه الجنسي بها- و لم يعد مهما له و لم يفهم أنها امرأة أو زوجة - كانت مثل أخ، رفيق يعاني، شريك يتألم، جار يواجه نفس الخطر المجهول و المستمر. غريب كان في نفس الوقت على مقربة منه. شخص بالجوار، يقف هناك و ينظر من وراء السور، شخص تلوح له بالوداع و أنت في طريقك إلى البيت. هذه الملاحظة لم تكن متوقعة و شعر بالخجل. الإحساس بالرغبة التي تنامت بداخله تراجعت الآن. تدحرج عنها و استلقى بجانبها. و جرها نحوه، من ذراعها، و غطاها بالملاءة. كانت تبكي. و قالت شيئا عن الفارس، و عن فقدانه. و تبادر لذهنه أنها و لا بد شربت كثيرا.
كان رأسها يؤلمها، نهضت بهدوء و هبطت السلالم لتسمح لريناتا بالخروج.
-------
كان منطويا على نفسه و نائما، ملتفا بالملاءة كالشرنقة، و بعيدا عنها، و عند الطرف الآخر من السرير. تناولت حفنة من الفيتامينات و الأسبرين. و شعرت بالتعب، و التآكل.
في البداية أنفقت وقتا طويلا بتنظيف أسنانها بالفرشاة، و كان شعرها مشوشا منذ الليلة السابقة و يتساقط في
كل مكان، هل كانت تبكي؟. نعم. تمثل بانفعال. قرصت الجلد فوق معدتها. و ارتاحت لهذا الألم، و فتح بوابة كراهية الذات المتنامية. حين كانت طفلة سمعت أنه من الممكن أن يصيبك السرطان بسبب القرصات. بعض اليافعين أخبروها بذلك، و لا تذكر من، و لكن حينما كان الأولاد يقرصون أثداء البنات.
-------
و حينما هبطت إلى الأسفل، كان يجلس على الكنبة، بقميص و دون سروال، و يقرأ الجريدة. و قد هيأ لها القهوة.
قالت"مرحبا".
و رد بالمثل:"مرحبا".
"ما برنامجك لهذا اليوم؟".
"هل هناك شيء خاص بذهنك؟".
"سنحضر اللوازم معا مساء".
وقلب الصفحة.
"كيف مزاجك؟".
قال:"ممتاز".
و بعد لحظة صمت أضاف:"أنت؟". و لكنها لم تكن تود الكلام. و بدأت تقلب صفحات مجلة. و فجأة تفرقت الغيوم، و أغرق الغرفة بحر من الضوء الذي يغشى على البصر. سحبت سيجارة و خرجت إلى الشرفة، و لكن فكرة التدخين أصابتها بالدوار. فأجبرت نفسها عليها.
شاهدت ريناتا عن بعد. وكانت الكلبة الغبية تلقي بنفسها في المياه. بمحاولة يائسة لتعض الأمواج. فكرت: يا لها من حيوانة حمقاء، وكانت ترتعش من البرد. صعد إلى الأعلى ليرتدي سرواله. و سيكون سعيدا لو أمكنه أن يحزم أمتعته الآن. لديه أمور مستعجلة بانتظاره. و شعر بالتأهب. و حينما مر بجانب السرير شاهد منامتها مع صورة الدب الدمية مطبوعة على واجهتها، و فورا، بلحظة أقل من سماكة جليد تشرين الثاني على سطح بركة، شعر بالعاطفة نفسها التي تنتابه و هو نائم و بين يديه قميص نومها و لكنها بعيدة.
هذه العاطفة، مثل الرغبة التي انتابته في تلك الليلة، هي من بين عاداته. هز رأسه. وفي النهاية، خدعته. الغضب، موجة من الغضب التي خبرها جيدا، جمد حركاته. و أصبح وحشا مستعدا للقتال، و متأهبا، و مستعدا. ارتدى سرواله و شد حزامه. لم يكن يفكر بها الآن- فلتتصرف كما ترغب و تشاء- إنه يفكر بنفسه حاليا: لن يعرض نفسه للأذى مجددا. و تذكر اهتياجه، و لكن بسببها هو الآن أقوى، كما لو أنه دخل الحرب و عاد بأمان. و في طريق هبوطه شاهدها من السلالم و هي تعانق الكنبة، بلا ماكياجات، و عيناها متورمتان.
عبرت في رأسه فكرة غريبة. كان يريدها أن تموت، و لهذا السبب أصبحت دميمة جدا.
قال:"أفكر بالتقاط صورتين ثلاثة". قالت إنها سترافقه. و انتظرها عند الشرفة لترتدي ثيابها. و ذهبا باتجاه معاكس لمشوار الأمس.
صاحت به من وراء الرياح و قالت:"انظر"، و أشارت إلى شيء كان قد لاحظ وجوده: مربع أبيض من السماء فوق بحر أزرق و فقاعات بيض كانت تبدو كأنها مرسومة هناك بريشة فنان صيني. ثم لمع فلاش من أشعة الشمس مثل البرق.
قالت:"لا بد أنه مرت بنا عاصفة في الليلة الماضية".
كان هناك الكثير من النفايات على الشاطئ: خيوط من الإشنيات، أغصان أشجار، خشب، و كل شيء ممزوج هنا و هناك عشوائيا بأشياء بلاستيكية ملونة. تبعته و فكرت أن هيئته من الخلف لم تتغير مع مرور الوقت، و لكن هي متأكدة أن ذلك مجرد وهم. و لا شيء يمكن استعادته. و ما حصل مرة لا يمكن أن يتكرر.
أبدا. البرق لا يضرب مرتين. وفجأة أشرقت هذه الكليشيه بداخلها. و لم يعد هناك شيء يمكن أن تفعله. و للحظة تمنت أن تسرع وراءه و تلمس جاكيته، و تجره نحوها ليصبحا وجها لوجه، ثم سيتضح - ماذا؟. ماذا سيتضح؟. تباطأت، و لكنه تابع بسرعة إلى الأمام، و ابتعد هو و الكلبة و الكاميرا لمسافة ملحوظة، و لم تعد
تود أن تلحق به، و جلست بلا حراك على الرمل.
و ببعض الجهد، أدارت ظهرها نحو الريح، و تمكنت من إشعال سيجارة، و جلست في مكانها بيأس، و هي تفكر برتابة حول كل شيء لا يمكن تكراره: تلامس أيديهما، تلك الشرارة، أحيانا بالصدفة و أحيانا بتعمد و رغبة: و الإثارة القادمة من رائحته المعطرة، و ذوبانها في تلك الرائحة، و النظرات المتفهمة، و كل منهما يقرأ ذهن الآخر، و نفس الفكرة في نفس اللحظة، التقارب الهادئ و الثابت، يد بيد، كما لو أن هذا هو وضعهما الطبيعي و الوحيد. متعة التلاصق، التكاتف مثل شجرة عنب في الليل، و النظر لذلك كأنها حالة خاصة. و الصباح البطيء. و تناول حساء جذور الشوندر من نفس الطبق. و ثورة الرغبة خلال نزهة في الحديقة.. حقيبة يد تحملها معك إلى العالم و تتضمن أشياء يمكنك استعمالها لمرة واحدة فقط، مثل تلك الأعاجيب السحرية في الخرافات، مثل الألعاب النارية. و ما أن ينطلقا، يخرجا، لا شيء يمكن استعادته من الرماد. هذه هي النهاية.
و اعتقدت أنها ستخبره بكل شيء بعد عودته، و لكن و هما يعودان البيت أدركت أن هذا أمر شخصي، و ستخجل من المشاركة به مع إنسان آخر. و إذا فعلت سيبتسم، لأن ذلك أشبه بأنشودة شعبية تغنيها له.
لا أكثر و لا أقل. نعم، كل سقوطها كان مسألة بسيطة خاصة. من الواضح أنه يأس يمكنك أن تمر به لمرة واحدة. و ما يتلوه من سقوط سيكون نسخة فقط. و ربما هناك خط غامض في حياتك أنت تعبره دون علمك، دون قصد، و بعد ذلك كل شيء تكرار مزيف عما كان عليه الحال سابقا، و كان في وقت من الأوقات حيا و حاضرا، و لكنه الآن يبدو شيئا من الماضي، عبارة من درجة ثانية. و ربما إن ذلك الخط الفاصل تنبع منه الحياة و تتدفق حتى أسفل السفح إلى حيث كان بالأساس. و اليوم، على هذا الشاطئ، و من هنا و ما بعد، و من هذا اليوم و صاعدا، ستجد نسخا ضبابية منها و تشارك بالحياة، انتاج غير واضح، تزوير رخيص، و أكاذيب قليلة النجاح.
عادا إلى البيت صامتين. و احتوتهما الريح كما فعلت بالأمس. كان أمامها مع ريناتا و هي خلفه، و وجهها محمر من النسمات القوية.
وحاولت ريناتا أن تدخل و في فمها شيء. لكنه سد طريقها بقدمه.
"ماذا لديك أيتها الكلبة الفاسدة؟. ماذا وجدت؟ عظمة قديمة متعفنة؟ سمكة ميتة؟".
فتح فمها عنوة و أخرج قطعة خشب شاحبة و مطلية. و استغرق لحظة ليعرف ما هي.
صاح بانفعال:"انظري ماذا وجدت".
اقتربت، و حملت الشيء المغطى باللعاب من يده و مسحته بالبساط. كان حصان شطرنج. فارس أبيض، و لكن ليس من مجموعتهما. كان أصغر، و أثمن، و أكثر امتلاء، و ربما صناعة يدوية. و فمه المفتوح الصغير متجه للأعلى، و شق يتخلل كل قامته.
قال:"لا أصدق ذاك. من أين أتيت به يا ريناتا؟".
قالت:"جاءت من البحر. ألقتها الأمواج".
كرر و هو يرشقها بنظرة عابرة وسريعة:"لا أصدق ذلك". و حاول أن لا يقاطع بصره بصرها. و تابع:"كيف يمكن لحصان صغير مثله أن يسقط في البحر، و أبيض، مثل الذي فقدناه. يا لها من صدفة".
و ذهب كلاهما إلى مغسلة المطبخ. غسلته بتأن ثم جففته بمنشفة الشاي.
وضعاه على الطاولة و تفحصاه كما لو أنه حشرة نادرة. و ريناتا أيضا- كانت تبدو مسرورة بنفسها. ثم وضعه على المربع الفارغ حيث القطعة الخشبية القميئة الصغيرة لا تزال هناك.
كان الفارس يبدو خارج المكان بين قطع غريبة عنه. مثل طفرة.
سألها:"هل نلعب الآن؟".
ردت:"الآن؟. علينا أن ننصرف". و لكنها تخلصت من سترتها و جلست بتردد.
سألته: "لمن الدور التالي؟".
لم تكن مأاكدة. و جلسا لدقيقة طويلة ينظران لرقعة الشطرنج المفتوحة، ثم قال لها دون أن ينظر نحوها:"كنت
ألعب كيفما تفق".
*أولغا توكارشوك Olga Tokarczuk روائية بولونية معاصرة حازت على المان بوكر الدولية من لندن عن روايتها (الطيران). وقامت بترجمة هذه القصة من البولونية جينيفر كروفت.
**عن مجلة “كلمات بلا حدود” الإلكترونية. عدد كانون الأول. 2008.