حين سمعت صوت هيلا المتهدج، هذا الصباح، يأتي عبر المسافات، بكيت كأنني كنت أنتظر صوت هيلا القروي الرتيب، يأتي من ماضٍ ابتعد في الزمن، لأعي بعمق كم ابتعدت أنا أيضا في الزمن، الذي انقسم إلى ما قبل وإلى ما بعد كان صوت الزمن يعلو في قلبي محاذرا كنت أبكي في هذا الصباح: الشام وبيتي وأحبائي
ست سنوات مضت منذ رأيت هيلا آخر مرة في بيتي في دمشق بحثت عنها طويلا، حاولت الاتصال بها لمعرفة أخبارها، وفي كل مرة كنت أفشل، وكأن الأرض انشقت وابتلعتها من هي هيلا هي هيلا ذات الوجه الصبوح هي ابنة الجولان النازحة إلى المعضمية قوية كنخلة سامقة سمراء من أرض بلادي
امرأة شجاعة حملت في جسمها الشاب القوي، أعباء تسعة أطفال، وهي لا تزال في ريعان الشباب وأعباء بيتي، وكثير من البيوت.
تأتيني في الصباح، إطلالتها محايدة، ابتسامتها موردة، ورأسها مرفوع، وحدها عيناها الكابيتان تفضحان سر ليلها المؤرق الطويل، مع ما يسمى "زوج" منحرف، يفرغ على جسدها الشاب، كل ما حمّلته الحياة من تهاويم خيبات وقهر وفشل. أدمن الشراب، وأدمن ضربها. يغفو الصباح ولا يغفو هو.
مع كؤوس الشاي الساخنة، وصحون المكدوس والزيت والزعتر والجبن البلدي، كنا نتحدث، وكثيرا ما كنا نضحك، روحها مرحة، وتوقها عارم للحياة، استسلامها كامل إلى قدرها. وكأنها جاءت إلى هذه الدنيا لتعيش فقط هذا النوع من الحياة. كانت تسخر من آلامها، تضحك وهي تشرق بدمعها، وهي ترسم صورة كاريكاتورية لزوجها العاطل عن العمل، وهو ينتظرها كل مساء، يأخذ ثمن تعبها، ليعبه خمرا رخيصا، ويأوي الجميع دون عشاء.
أعترف أنني حاولت مرارا أن أزرع في نفسها روح التمرد، أن أبذر بدأب شيئا من الشك في نظرتها الساذجة للحياة، أشرح لها أن الحياة لا يمكن لها أن تعاش بهذه الطريقة، أن تترك هذا الرجل وهذا الوحل، وتنجو بنفسها وأولادها، ولكنها كانت تجيبني باستهجان، بلهجتها الجولانية المحببة، كما في كل مرة:
- وين أروح أنا؟ - ولكنك تعملين - هو زوجي. رب العيلة، وشو يكولون الناس عني؟ - هو ليس برب العيلة، ولا يعمل، وليس رجلا، ولا يهم ماذا يقول الناس - هو زوجي كيف أتركو؟ كل الأزواج بيضربوا نسوانهم، بيّ كان يضرب أمي، وأخي بيضرب مراتو، وابني المتعلم ممكن يضرب مراتو، هيك الدني، وش نسوي؟
سألتها مرة وماذا يفعل ابنك الشاب حين يضربك زوجك في بيت من غرفتين وتسعة أولاد وكان جوابها الغريب، صفعة قاسية من القهر، لا يفعل شيئا، يغلق الباب على نفسه، ويشعل المذياع على آخره كي لا يسمع صراخي.
المرة الوحيدة التي رأيتها تثور فيها على زوجها حين أجبر ابنه المتفوق في دراسته على ترك المدرسة، ليعمل أجيرا في مكان ما، ثارت وقتها وهددت، فعلت المستحيل، أقامت الدنيا ولم تقعدها، ليذهب تعب الابن كما الأم، ثمنا لليالي تسكب بها الخمرة في روح إنسان محطم القلب والروح.
ولكن هذا الابن المجتهد، تابع الدراسة وهو يعمل أجيرا، ودخل الجامعة قسم الحقوق، وكان من الأوائل على دفعته.
هيلا القوية كنخلة، أخبرتني اليوم، أنها استلمت من الجامعة شهادة الحقوق لابنها المتفوق، منذ أيام.
ولكن هيلا النمرة الجريحة، أخبرتني أيضا أن هذا الابن الشاب المتفوق قد قضى غرقا، مع زوجة أخيه الحامل وأطفالها الأربعة، وخمسة وأربعين آخرين، في أحد المراكب المطاطية، المنتشرة في عرض البحار لالتقاط أولئك الهائمين، الباحثين عن سقف ووطن.
قضى غرقا وهو يحاول اجتياز الحدود البحرية، بحثا عن مستقبل مجهول، وهربا من مصير لم يكن له فيه خيار، إما أن يكون قاتلا أو أن يُقدم قربانا رخيصاً، ليعيش الآخرون هذا ما قالته لي هيلا الشجاعة في هذا الصباح.
كان صوت هيلا المذبوح ما زال على الطرف الآخر، حين امتد أمام ناظري فضاء واسع يعوم فيه بحر، حشرجت أنفاس أمواجه، مع آخر زفرات أولئك الذين كانوا منذ لحظات يحلمون حلما قد يكون جميلا.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...