مات الوزير.
مات بسببي، و لولا ذاك؛ لبقي سيادته حيّاً يرزق، يمارس مهامّ منصبه، يخدم أمثالي، ممن يحتاجون أعماراً فوق عمرهم ليكفّروا عن أخطائهم، ويتغلّبوا على إحساسهم بالذنب، لأنهم تسبّبوا بموت وزيرٍ.
بداية القصّة كانت عندما خطب شابٌّ زميلتي ازدهار، التي تشاطرني الغرفة في المؤسّسة العامّة لتصنيع قصّاصات الأظافر، وكان الخطيب يحبّ رائحة ذلك العطر، الذي تسبب بموت الوزير، وبالصداع لي، ما أثّر على خدمتي للمواطنين و المراجعين.
طلبتُ منها تغيير العطر، فرفضت.
قاومتُ، احتملتُ، تجلّدتُ، لكن لقدراتي حدودٌ، فلجأتُ إلى رئيس الشعبة، شاكياً، ملتمساً حلاً لمعاناتي، فما كان منه إلا أن أصيب بذبحةٍ قلبيّةٍ، جرّاء حزنه عليّ، وتأثّره مما مررت به من آلامٍ خلال فترة تحمّلي رائحة عطرٍ لا أحبّه.
سمع رئيس الدائرة بالأمر، فلم يصدّق:
ـ معقول يا أستاذ حسان، معقول ؟ تصبر كلّ هذا الصبر دون أن تعلمني؟ لم أنا موجودٌ؟ أليس لخدمتك وزملائك، وحلّ مشكلاتكم؟
طلب رئيس الدائرة من ازدهار تغيير رائحة عطرها، فرفضت، مؤكّدةً أنّ زوجها لن يقبل ذلك، فهو يحبّ استنشاق تلك الرائحة صباحاً، ومن غير المنطقيّ بناء سعادة شخصٍ، هو أنا، على حساب شقاء شخصٍ آخر، هو زوجها.
اقتنع رئيس الدائرة، بكلامها، فدعا إلى اجتماعٍ لمناقشة الموضوع، طالباً المشورة و النصح، وكان أفضل اقتراحٍ ما تقدّم به الدكتور عفيف، وهو طبيب نفسيٌّ تعاقدت المؤسسة معه لمساعدة الموظّفين في حلّ مشكلاتهم، و قضى اقتراحه بنقل مكتبي إلى غرفةٍ ثانيةٍ، وهذا ما كان.
المشاكل لم تنته كما توهّمت، وتوهّمنا جميعاً، وقضيّة حساسيّتي من عطر ازدهار ما زال فيها فصولٌ وفصول.
في اليوم التالي، وفيما كان السيّد المدير العامّ، يقوم بجولته التفقّديّة اليوميّة للاطمئنان علينا، حاملاً معه باقة وردٍ، يهديها لنا ـ نحن الموظفين ـ كعادته كلّ صباحٍ، سألني عن سبب تغيير غرفتي، وعندما أخبرته، لطم وجهه بكفّيه، و مزّق قميصه تفجّعاً، و أرسل طالباً حضور رئيس الدائرة، متحرّياً تفاصيل القصّة.
أثناء شرح الأخير حيثيّات الموضوع، ما انفكّت الدموع انهماراً من عينيّ السيّد المدير العامّ، وكان يخاطبني مغالباً غصّاته:
ـ في مديريّتي أنا حدث هذا؟ كم من العذاب تحمّلت يا حبيب قلب مديرك؟
ثم سأل رئيس الدائرة ـ حانقاً ـ عن سبب إخفاء آلامي ومشكلتي عنه، فأجابه:
ـ حضرتك مدير عام، و لا نريد أن نثقل عليك، يكفيك همّ البحث عن موسيقا مناسبةٍ نبثّها لموظفينا أثناء الدوام، كما أننا نعرف حساسيّتكم، فآثرنا معالجة الموضوع سرّاً، حرصاً على صحّتكم.
تابع رئيس الدائرة شرحه، وكانت كلّ كلمةٍ يقولها وصفاً لمعاناتي من عطر (ازدهار) تقع على المدير العام كسوطٍ يلسع وجهه، فينقبض ثمّ ينبسط، وتتبدّل ألوانه، إلى أن وصل إلى وصف حيرته عند اختياره بين سعادتي وشقاء زوج ازدهار؛ فأغمي على السيّد المدير العامّ، ولم يفقْ، إلا في الغرفة المجاورة للغرفة التي يتمدّد فيها رئيس الشعبة في مشفى القلب.
مثل كرة الثلج، كبرتِ القضيّة، و وصلت حدّاً لم أتصوّره.
سمع الوزير بالأزمة الصحيّة للمدير العامّ، فأتى لزيارته، و في المشفى، حاولت كثيراً إخفاء سبب مرض السيّد المدير العامّ عنه، فلم أفلح، لأنّ الطبيب المشرف أخبره بملخّصٍ عن القصّة.
أحرجني إلحاح سيادة الوزير، ولهفته؛ وشوقه، لمعرفة حيثيات الموضوع، فاضطررت لإخباره بالتفاصيل.
وما خشيت منه حصل، فالسيّد الوزير مصابٌ بارتفاعٍ مزمنٍ للضغط، بسبب مطالبات الموظّفين له لابتداع طريقةٍ يصرفون وفقها ما يفيض من رواتبهم، بعد أن استنفذوا كلّ سبل الإسراف و التبذير، ثمّ أتت قصّتي، وآلامي من رائحة عطر ازدهار؛ فكانت القاضية على حياة سيادته.
لم يحتمل صدمة معاناتي، فذبح قلبه، ومات إثر محاولاتٍ فاشلةٍ من أطباء المشفى لإنقاذ حياته، وآخر كلماته لي كانت:
ـ سامحني يا بني!! آخ .. آخ .. اغفر إهمالنا مراعاة حساسيتك !!
ثمّ أسلم الروح، و بقيت مذ ذاك، نهباً لشعورٍ بالذنب، ما برح يلاحقني، فأخاطب نفسي:
ـ لو تحمّلتُ رائحة عطر ازدهار ما تسبّبت بموت السيد الوزير، أنا من قتل الوزير.
لا تفكّروا بإرسال التعازي والأكاليل، لأنني لن أخبركم من هو الوزير أو عنوانه، أو اسم الدولة التي جرت فيها القصّة، حرصاً على صحّة البقيّة الباقية من الوزراء و المديرين، فقد تدهمهم الذبحة في غمرة حزنهم عليّ، و تعجز الطاقة الاستيعابيّة لمشفى أمراض القلب عن استقبالهم، فيلحق بعضهم بالسيد الوزير، حينذاك، أين أهرب من إحساسي بالإثم؟ وأيّة حياةٍ سوف تعيشها ازدهار و زوجها، مع عطرٍ تسبّب بكل هذه المآسي؟
يمنع التعليق على هذه المادة، حرصاً على صحّة البعض...ومنعاً للازدحام في مشفى أمراض القلب.
حسان محمد محمود
[email protected] ×××××