يقول الكاتب الفرنسي فيكتور هوغو، في مؤلفه (مذكرات أحداث ثوار 1830): “إنه لثَناء باطل أن يقال عن رجل إن اعتقاده السياسي لم يتغير منذ أربعين عامًا، فهذا يعني أن حياته كانت خالية من التجارب اليومية والتفكير والتعمق الفكري في الأحداث، إنه مثل الثناء على الماء لركوده، وعلى الشجرة لموتها”.
رأيت من هذا القول للكاتب هوغو أن من الطبيعي أن يحصل تغيير في ثقافة السوريين، بعد أن خرجوا في ثورتهم، كإحدى الوسائل الأكثر فاعلية لكفاحهم ضد الاستبداد، والإقصاء، والتهميش، وعمليات الإهانة الممارسة من قبل النظام السوري في حياتهم اليومية، بشعاراتها المعروفة للجميع: (حرية، كرامة، عدالة).
الحالة الطبيعية، أيضًا، أن نلحظ في السنة الأولى للثورة بعض السلوكات السياسية المتشربة من الثقافة الأسدية الإقصائية الاستبدادية، من قبل بعض المعارضة السورية، التي بُرّرت حينها بأنها نتيجة تحكم الثقافة الاستبدادية الأسدية لخمسين عامًا، وغياب القواعد الأولية للديمقراطية والحوار والانتقاد للآخر.
السؤال الراهن: إلى متى نُبرر هذه السلوكات القمعية وغير المسؤولة، لدى بعض المعارضين السوريين، خاصة الذين تعرفوا إلى تجارب الآخرين في السلوك السياسي والاجتماعي خارج سورية، ولا سيما في المجتمعات الأوروبية الديمقراطية؟ أليست ثماني سنوات من عمر الثورة والعيش في تلك المجتمعات الديمقراطية كافية لإحداث تعديلات في ثقافة التعامل مع الآخر المختلف معه سياسيًا، ثقافيًا… إلخ، وبكلام آخر: أليس ثماني سنوات كافية للقطع البنيوي مع ثقافة الأسد الاستبدادية الإقصائية تجاه الآخر؟ ألا تكفي كل تلك المدة للإقلاع عن تبرير تلك السلوكات، بشماعة حكم الاستبداد الأسدي لمدة خمسين عامًا، كمبرر لممارسة الإقصاء والقمع لدى بعض المعارضة السورية؟
المعروف أن السياسة هي المجال الخصب والأبرز لممارسة الأفعال التي تمكن الإنسان من التعبير عن نفسه وعن ثقافته، ومن هنا فإن متابعة ما يُحرّر في وسائل التواصل الاجتماعي خاصة (فيسبوك) من آراء سياسية، في ما يخص بعض الموضوعات والأحداث السياسية الخاصة بأوضاع السوريين، تُظهر استمرار الثقافة الأسدية الإقصائية لدى معظم الشباب السوري المعارض، من خلال استخدامه لوسائل التواصل الاجتماعي سلاحًا لقمع الآخر المختلف معه، ليس بالموضوعات السياسية والفكرية فحسب بل في موضوعات حياتية يومية تصل إلى موضوعات الحزن والعزاء والفرح…. إلخ، ومناهضة حق الآخر بالتعبير عن نفسه بحرية، من خلال اللغة الشتائمية، لدرجة تجعل البعض يحتقر نفسه ويملؤه الخجل من عرض بعض الآراء السياسية التي لم يُوفق بالتعبير عنها.
ما يزال بعض السوريين حتى اليوم مصرًا على التعامل مع الآخر، على أنه الوحيد الذي على الصواب، الأذكى في كل شيء، لذلك يحق له ما لا يحق للآخرين. والآخر هو الغبيّ، الذي لا يقدر على إدراك الحقائق مثله.
الحالة الطبيعية أن يخطئ الإنسان في القراءة والتحليل السياسي، حتى في التعبير عن مواقف اجتماعية، شخصية، لكن من غير الطبيعي أن يتربص البعض للآخر، ليتصيد أي هفوة أو خطأ قد يفعله، لتبدأ ثقافة الشتائم والاتهامات المتبادلة بالتخوين والعمالة فعلها.
الجميع يتحدث عن الحرية والديمقراطية، وفي الوقت نفسه يمارسون الاستبداد والإقصاء تجاه بعضهم البعض، حتى تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحات للمعارك السياسية، لأشخاص لم يتعلموا من أخطائهم وأخطاء الآخرين، خلال ثماني سنوات من الثورة.
حالة الاختلاف السياسي، الفكري، الثقافي القيمي في أي مجتمع، هي حالة طبيعية، بل هي مشروعة دستوريًا وقانونيًا في جميع المجتمعات الديمقراطية، حيث لكل فرد أو مجموعة من الأفراد منظومة فكرية وسياسية خاصة بهم، تختلف قليلًا أو كثيرًا عن منظومة الآخرين التي تؤسس مبررات تعدد الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في المجتمعات الديمقراطية في العالم. ولا تقف قاعدة الاختلاف الفكري السياسي عند الأحزاب السياسية، بل تصل إلى داخل الحزب السياسي الواحد، وهذه حالة طبيعة أيضًا، لاختلاف أفرادها بعضهم عن البعض، في درجة الاعتقاد بالأفكار والمبادئ السياسية، وفي فهمها واستيعابها للأحداث السياسية والاجتماعية اليومية.
هل من الممكن، في ظل ثقافة الشتائم والاتهامات المتبادلة بالتخوين والعمالة، كهذي، التأسيس لمؤسسات سياسية، ثقافية، اجتماعية سورية في المستقبل، توفر الحق الديمقراطي الدستوري لكافة المواطنين في الاشتراك بصورة منظمة في صنع مستقبلهم السياسي والحياتي بشكل عام؛ حيث يتسق معها إطار من الشعور بالمسؤولية الاجتماعية والسياسية لكل فرد؟
بعض المعارضة السياسية التي عرفت الثقافة الأسدية الاستبدادية بالاعتقال والتعذيب، لم تخرج منها حتى الآن، من خلال عدم قبولها للآخر في حقه في التعبير عمّا يراه ويعايشه، بغض النظر عن صحته أو خطئه، فمن حيث المبدأ من حقه أن يعبّر عن رأيه بما يجده صوابًا، ومن حق الآخرين انتقاده، استنادًا إلى أصول الانتقاد المتعارف عليه في حقل الثقافة والسياسة، كعملية عقلية إيجابية مطلوبة بهدف التصويب باتجاه الأفضل، دون التناول الشخصي بالشتائم له.
الحالة الطبيعية أن ينتصر النظام السوري عسكريًا، بعد استجلاب الاحتلالات الروسية والإيرانية وكل ميليشيات الطوائف العسكرية، لكن من غير الطبيعي أن ينتصر ثقافيًا، من خلال ممارسة ثقافته، لدى بعض السوريين السياسيين المعارضين، بالتعامل السياسي مع بعضهم البعض.
أخيرًا، أعتقد أن هزيمة النظام الأسدي لا يمكن أن تحصل دون القطع البنيوي مع ثقافته الاستبدادية الإقصائية، من خلال الاعتراف بالآخر، مفهومًا وسلوكًا، والقبول بالاختلاف السياسي، الفكري معه؛ من أجل الخروج من مستنقع الكراهية السوري الذي كُرّس بفعل الذهنية الأسدية الإقصائية وممارسيها من قبل بعض المعارضة.
ممارسة الانتقاد الفكري السياسي للآخر لا تعني إقصاءه، فكريًا وسياسيًا، إنما يقصد بها العمل على إيجاد أكبر مساحة مشتركة، للوصول إلى ثوابت وطنية وآليات ديمقراطية للنقاش والحوار وضبط الاختلاف حتى في السلوك الحياتي اليومي، لجميع الأطراف السورية، لفهم بعضهم البعض، وخلق أعراف وتقاليد انتقادية حوارية تفتقدها معظم التيارات السياسية السورية، أي تمثل قاعدة القبول بالرأي الآخر في الفضاء السوري، وفي الوقت نفسه انتقاده، إذا ما لوحظ اعوجاجًا فيه. علينا أن نعي أن لا قيمة لأي ثقافة إلا بقدر ما تقدّم من قِيم تمنح الإحساس بالمسؤولية تجاه الآخر، كذات إنسانية.