القومية والوطنية… في سورية
طلال مصطفى
خاص ألف
2019-09-14
وصف الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، في خطاب ألقاه أمام ممثلي السلك الدبلوماسي في برلين، في كانون الثاني 2019، مفهوم القومية، بـ “السمّ الأيديولوجي”.
مناسبة الاستشهاد بهذا القول، بخصوص الحالة السورية، ما لوحظ في وسائل التواصل الاجتماعي من استخدام العنف السياسي المجتمعي، من قبل بعض السوريين المحسوبين على النخب السياسية، استنادًا إلى أيديولوجيات قومية (العرب والكرد السوريين)، والاتهامات المتبادلة لبعضهم البعض بالعمالة للخارج واللاوطنية، فقد كشفت سنوات الثورة والحرب في سورية أن العديد من السوريين، الذين صدّروا أنفسهم كسياسيين معارضين، لم يستطيعوا الخروج من الثقافة السياسية الاستبدادية الأسدية.
في بدايات القرن العشرين، برزت مفاهيم القومية والوطنية في أقطار الدولة الإسلامية العثمانية، على إثر التواصل الثقافي مع بلدان أوروبا، حيث كان الرابط الديني الإسلامي هو الرئيس الجامع بين مواطني تلك الدولة.
أُعلنت الدولة التركية الحديثة على أساس القومية الطورانية والتقاليد المشتركة للقبائل التركية والاتحاد في اللغة التركية، إضافة إلى الوضع الجغرافي الذي حُدد بناء على نتائج الحرب العالمية الأولى. وفي الوقت نفسه تمّ اختيار مفهوم (وطن بشلك) الذي يجمع مواطني الدولة التركية كافة، بغض النظر عن الانتماءات القومية المتعددة الموجودة في تركيا.
أما بالنسبة إلى العرب فقد تبنوا مفهوم القومية أو الأمة العربية، بدلًا من مفهوم الوطنية أو (وطن) المستند إلى نظرية الإرادة، ونظرية العوامل الوضعية، حيث حُدّد مفهوم العربي بأنه كل من يتكلم العربية وأراد أن يكون عربيًا، ولم تتحقق تلك الأمة حتى يومنا هذا.
برزت كيانات سياسية (دول) بحدودٍ رسمتها اتفاقية سايكس بيكو، حيث تم تقسيم إقليم الشام إلى أربع كيانات مستقلة (سورية، لبنان، الأردن، فلسطين) وترسخ مفهوم الدولة السورية بحدودها الجغرافية، ونمت عواطف ومشاعر حول هذه الكيانات الجديدة، وظهرت دول مستقلة عن بعضها البعض، بعد استقلالها عن الانتداب الفرنسي والبريطاني.
في سورية، برز مفهوم الوطنية السورية، في مرحلة الاستقلال ببعدها الديمقراطي، التي بدت هشة وضعيفة نتيجة سلسلة من الانقلابات العسكرية (1949 – 1954)، والمنافسة القوية من القوى السياسية القومية، التي طرحت مفهوم القومية والأمة العربية، والعمل باتجاه دولة عربية واحدة.
تجسد مشروع القومية العربية أو الدولة العربية الموحدة، في انقلاب البعث العسكري عام 1963، ووضع حزب البعث تصورًا تخيليًا لمفهوم القومية العربية، هاربًا من كل ما هو وطني سوري، واعتبر كلّ من يعارض تصوره القومي العروبي، للدولة العربية الموحدة من المحيط إلى الخليج، ليس بمواطن، ويحق للدولة إبعاده من هذا الوطن، كما جاء في المادة 11 من المبادئ العامة للحزب، الذي لم يستطع أن يحافظ على سورية (سايكس بيكو)، بل دمّرها، ويمضي على طريق تقسيمها.
ساد مفهوم القومية العربية في سورية، مقابل تنحي مفهوم الوطنية السورية الجامعة لكل المكونات القومية، كشكل من أشكال الهروب من المستحقات الوطنية السورية، حيث كان له الأثر السلبي على مفهوم الوطنية أو الوطن السوري، الذي من المفترض أن يعبّر عنه من خلال سلوك المواطنين الجمعي والفردي في سورية كافة، بغض النظر عن الانتماءات العرقية والدينية بالشكل التفاعلي التعددي، والمتماسك في الوقت نفسه، وليس من خلال نظريات وتصورات إنشائية، كما فعل النظام البعثي وحلفاؤه السياسيون.
وكان هناك خلط متعمد، بين الثقافة الوطنية التي من المفترض أن تكون الجانب الرئيس في ثقافة السوريين كافة، وبين المفهوم السلطوي لها من قبل النظام السوري، حيث احتكر مفهوم الوطنية السورية من خلال الانتماء القومي وبالتحديد لحزب البعث، وبالموالاة له كسلطة سياسية، واعتبر كل معارضيه لا وطنيين، فالوطنية في مفهوم النظام الاستبدادي السوري، في أحسن تعريفاتها، هي الخضوع المطلق لسلطته السياسية.
أما في الواقع السياسي، في كل دول العالم، فلا يُعدّ النظام السياسي وطنيًا، إذا لم يعترف بالمعارضة السياسية له، ويضمن لها الحقوق والواجبات السياسية، بما فيها حقها بالوصول إلى السلطة استنادًا إلى الآلية الدستورية التي تكفل هذا الحق.
تأسيسًا على ما تقدّم؛ يمكن تقديم تصورات نظرية وأولية، في سياق تأصيل مفهوم الوطنية السورية في ثقافة السوريين، التي من المفترض أن تكون إجرائية وقابلة للقياس والمقارنة بالآتي:
1- أن يتضمن العقلانية السياسية، أي أن يُبنى على المقاييس الوطنية الأخرى في العالم والاستفادة منها، وهي متعددة، وهناك شبه إجماع عليها.
2- أن يكون واقعيًا، بمعنى أن الواقع السوري الملموس والمعاش يقتضي هذا المفهوم للوطنية، وقابلًا للتأصيل والاستمرارية والشمولية للمكونات السورية كافة.
3- أن يتضمن إمكانية تحوله إلى عقيدة (منظومة ثقافية قيمية) تجمع السوريين كافة.
4- أن يتضمن إمكانية التعايش والانسجام مع البيئة السورية الحاضنة من جهة أولى، ومع البيئة الخارجية (العربية والإقليمية والعالمية) من جهة أخرى.
6- أن تتوفر له الحصانة الدستورية والقانونية الصادرة عن السوريين كافة، في مواجهة أخطار الضعف والتآكل من الداخل والخارج.
أما كيفية تجسيد هذه التصورات النظرية للوطنية السورية، من خلال سلوكات جمعية وفردية، فيمكن تحديدها بالآتي:
1- تعد الوطنية السورية مفهومًا اجتماعيًا بشريًا، يتصل بحياة المواطنين كافة ويمسها في أدق التفاصيل، ولا يمكن حصره بالمفاهيم السياسية السلطوية الحاكمة.
2- تنطبق الوطنية السورية على المواطنين السوريين كافة، بغض النظر عن التكوينات القومية، الدينية، المذهبية، الطائفية… الخ. أي أن يُعتمد معيار المواطنة في تحديد الوطنية السورية.
2- دولة القانون السورية المستقبلية (دولة المؤسسات القانونية والدستورية) صاحبة السيادة والقرارات المستقلة داخليًا وخارجيًا هي من المعايير الرئيسة في الوطنية السورية.
3- التأكيد على وحدة الأراضي السورية الجغرافية الحالية، كهدف سياسي استراتيجي له الأولوية في الوطنية السورية، وفي الوقت نفسه يمكن إيجاد آليات جديدة للجمهورية السورية مستقبلًا تتوافق عليها المكونات السورية كافة.
4- تتلازم الوطنية السورية مع الديمقراطية التي من خلالها يتم التأكيد على قيمة المشاركة بين أفراد الوطن السوري الواحد. والتأكيد على ضرورة الاختلاف في الوقت نفسه، واعتبارها قيمة وطنية تساهم في بناء وتماسك الوطن السوري الواحد.
5- حرية الفكر والمعتقد لكافة أبناء الوطن السوري، وهم أحرار في ما يفكرون فيه ويرونه ويعتقدون بأنه مفيد لوطنهم سورية، كمعيار سلوكي فردي وجمعي للوطنية السورية.
6- راية الوطن السوري، المتفق عليها من المكونات السورية كافة، هي وحدها رمز الوطن السوري، وليس صور القادة، فالراية تعني الوطن السوري.
7- التعبير عن المسؤولية الفردية والجماعية عن الوطن السوري في أي موقع، فكل مواطن سوري مسؤول في أي مكان يكون فيه، ويشعر بأن سورية كوطن هي بيته الكبير، ويجب الحفاظ عليه كما يحافظ على بيته الصغير.