بينما أنتظر الجملة التالية
وضحى المسجن
2019-08-17
الأحداث السيئة مرّت، الجفاء الواضح، الخيبة وخدش الروح بأظافر الكف التي كانت تحنو، أتخيّل أن ملامحي سقطت مني، والآن بلا عينين أو فم، ابتسامتي معلّقة في الفراغ، دموعي تنبع من تجويف قديم.
اشتقت صوت عبد الحليم "على حسب وداد قلبي يابويه"، اشتقت زهور طفولتي البيضاء التي كانت تنبت قريباً من الجدار المتهدّم في القرية، اشتقت لحلم يقظة بسيناريوهات محبّة بريئة لم تصح بعد بجفنين متورمين، اشتقت الاستسلام للملل دون معاملته بطريقة عصريّة بالهروب أو تبديد الوقت.
"كنت فين يا وعد يا مقدّر"، لم أكن أعلم أن (زهور الكِبر) التي أحببتها تنمو في المقابر، أن المحبّة مجرد قطن لحشو فجوات الروح التي كان بالإمكان حشوها بالموسيقى والصمت الممتد على طريقة "لا حب لكني أحب قصائد الحب القديمة".
بيما أنتظر الجملة التالية.. تنساب كآبتي بخفّة مع موسيقى (بوجدان أوتا)، أحاول أن أتبين مفضلاتي بعيداً عن دائرتك، لوحة فان كوخ (ليلة النجوم) لوحتي المفضلة، ليس لديّ روائي مفضل، ولا عطر مفضل، (أنف وثلاث عيون) فيلمي المفضل، موسيقى (عمر خيرت) في مفضلتي دائماً، أحب الشاي والخيال والشِعر والسينما والسلاحف، أحب الأسماك الملونة والأقراط أكثر من الروايات.. أحب أغاني الزمن الجميل وأردد مع نجاة "كله ده وقلبي ألي حبك لسه بيسميك حبيب".
بينما أراقب انخفاض منسوب حماستي للحياة تدريجياً، أقرأ في كتاب (حكاية عامل غرف) "إن افتراض أن الألم شيء يوزع بمعيار متكافئ، وإن كل إنسان يحصل على جرعة متساوية تقريباً يبدو نوعاً من الطمأنة الخرقاء"، تعجبني العبارة، أفكر أن أمررها في (تويتر) لكني لا أفعل، أكتفي بشرب القهوة المرّة.
أحاول بشكل جدي أن أتعلق بقضيّة أهتف أو أندد من أجلها، أي حدث، أي قضية، أي مناسبة: ضرورة حماية الحياة الفطرية، تدوير النفايات مثلاً، المنتخبات العربية المتأهلة لكأس العالم 2018، تكليف (عمر الرزاز) بتشكيل حكومة جديدة في الأردن، التفجيرات الأخيرة في بغداد، أحاول لكن دماغي مثل ورقة بيضاء والخواء الذي يحيط بروحي يمنعني من رؤية المشهد، فأكتفي بالصمت والكتابة، الكتابة عن الخيبة والمحبة والكآبة، أكتفي بسماع الأغنيات أغنية تلو أغنية "وأمسح دموعي بمنديلك".
لستُ حزينة على الجفاء يا حبيبي، يمكنني وضع كل شيء بعين الاعتبار الآن: بهجة الكتابة، شجني العاطفي، براءة روحي التي تعدو في برية الحياة، الخيط الرفيع بين الصداقة والمحبة، يمكنني الآن أن أرحب بالرؤية الرأسمالية عن الذات والمشاعر والوجود، أن أستسلم للمشاعر اللحظية العابرة ككل أفراد المجتمع الاستهلاكي.
رميتُ الوردة الذابلة، تركتُ المزهرية بوردة واحدة فقط، بينما أنتظر مصير (إيما) في (مدام بوفاري) فشلت لأكثر من مرة في تحضير كوب نسكافيه بمقادير معقولة، بيما أشاهد فيلم وحيد حامد (الإنسان يعيش مرة واحدة) تذكرت الحب الذي صممه ماركيز في (الحب في زمن الكوليرا).
ما الذي كنت أتوقعه؟ عن لباقة العالم، عن حوافه المسننة، عن مصير الكائن الهش فيه؟ (الكائن الذي لا تحتمل خفته)، ما الذي كنتُ أتوقعه حقاً؟ عن العالم الذي يروض تلقائية وبساطة الأرواح كي تصلح لسيرك الحياة العصريّة؟
أغادر المكان، من المقهى إلى البيت، من البيت إلى المقهى، كلما التفت هربتُ، أهرب من كثافة الزمن، من الأمكنة، أهرب من الخوف، الخوف يا حبيبي..العاطفة الوحيدة التي يمكنها أن تقف بشراسة في مواجهة سطوة الحُبّ..في البيت أعد كوب شاي بالهيل، بينما أنتظر الجملة التالية أرتشف الشاي وأستشعر رائحة الهيل تهيئ يومي من جديد.
اليوم غريب، مرة بعد أخرى شعرتُ بذلك الشعور الغامض، الشعور المبهم الذي يقتنص اللحظات الهادئة ويغرس أظافره في أعماقها، الماضي والحاضر والمستقبل دفعة واحدة كوعد لا يُرد، وأنا أضحك، أضحك من الغموض والالتباس والاغتراب، أضحك من الحُبّ والشِعر واللامعنى. "كل ده كان ليه؟".
هامش:
-لا حب لكني أحب قصائد الحب القديمة- جملة شعرية لمحمود درويش.
-(مدام بوفاري) رواية فلوبير.
-أنف وثلاث عيون - فيلم مأخوذ عن رواية الكاتب المصري (إحسان عبد القدوس).
-الكائن الذي لا تحتمل خفته- رواية ميلان كونديرا.
*كاتبة من البحرين