مطلع النصف الثاني من القرن الماضي، وبالتحديد عام 1949، وصلت الكهرباء إلى مدينة بصرى الشام، كونها ثاني مدينة في حوران بعد مركز محافظة درعا، قبل ذلك التاريخ، كان الحاج محمد سعيد الداوود (تولد 1930) يُساعد شقيقه الأكبر عبد الرحمن في إنارة شوارع المدينة كل مساء، عن طريق إشعال فتائل الفوانيس في طرقات المدينة وأزقتها الضيقة، والقيام بصيانتها الدورية وتنظيفها. كانت المدينة في ذلك التاريخ محصورة ضمن سور بصرى الروماني، وكانت بيوتها مبنية فوق البيوت المملوكية، المبنية فوق البيوت الأيوبية، المبنية فوق البيوت الأموية، المبنية فوق البيوت البيزنطية، المبنية فوق البيوت الرومانية، المبنية فوق البيوت النبطية، وكانت طرقاتها مرصوفة بحجر البازلت، وجدرانها مبنية من حجر البازلت، وسقوفها مسقوفة بسواكف تتكئ إلى قناطر جميعها مقدودة من حجر البازلت، فتعطي إنارة الفوانيس لأزقة المدينة بهاءً خاصًا بانعكاسها على اللون الأسود.
بعد وصول محركات توليد الكهرباء إلى المدينة عام 1949، جدد الدومري ذاته، واستطاع إدارة المحركات ومد شبكة بدائية لإنارة المدينة، بدأت بإنارة الشوارع أولًا ثم البيوت، ولَم يكن في ذلك الوقت وجود لأي أجهزة كهربائية عدا بضعة أجهزة راديو ترانزستور لدى بعض الميسورين في المدينة، ومنها جهاز الحاج محمد الزعبي (الكببي) أبي قاسم رحمهم الله، الذي اقتنيته منه لاحقًا، وكان يعمل على عنفة هوائية تولد الطاقة.
انطلق الشاب محمد سعيد (أبو جمال) مع مشروع إنارة المدينة، منذ عام 1949 حتى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، مع محركات الفيول وبعدها، ومنذ أواخر السبعينيات حتى العام 2012، عمل على شبكة الكهرباء التي تم ربطها بالشبكة العامة لكهرباء الفرات، عبر خطوط التوتر العالي التي استطاع أبو جمال التعامل معها أيضًا، وبذلك يكون قد عمل ما يقارب ثلاثة وستين عامًا، بلا كلل أو ملل، في خدمة إنارة المدينة.
في ثمانينيات القرن الماضي، حصلت شركة (سيمنس) الألمانية على عقد لإنارة قلعة ومسرح بصرى الشام، وتركيب مجموعات حديثة للصوت في المسرح داخل القلعة، وعمل معهم المرحوم أبو جمال، متجاوزًا حدود اللغة، ومتأقلمًا مع أحدث التقنيات الألمانية حينذاك، وقد استلم المشروع من الشركة الألمانية بعد إنجازه، وأداره على مدار سنوات طويلة في مهرجان بصرى الدولي.
كان أبو جمال شخصًا ودودًا لطيفًا متواضعًا قليل الكلام متقنًا لعمله، ولم يكن حينذاك يسمع عن دورات في التميز، ولا دورات الجودة، ولا دورات في معاملة الزبائن، ولَم يكن خريجًا جامعيًا، ومع ذلك فقد أتقن عمله، بالفطرة السليمة والعقل المنفتح على تعلّم كل ما هو جديد، يعامل الناس كما يحب أن يعاملوه، يصغي للصغير ويحترم الكبير، حتى بات قدوةً في الأخلاق وحسن السيرة بين الناس، لم يكن يميز بين غني وفقير، وبين سُني وشيعي وبعثي وناصري وآخر شيوعي، فأنار الدروب للجميع، تراه في الصباح الباكر، وتراه في ساعة متأخرة من الليل، وهو في عمر السبعين، على قمة عمود الكهرباء يصلح هذا العطل، أو يستبدل ذاك الجهاز، لا يدّخر جهدًا، ولا يتذمر من حر الصيف ولا من برد الشتاء القارس، وكان يعدّ عمله واجبًا أخلاقيًا قبل أن يكون وظيفة بمرتب.
آخر دومري في سورية رحل عنا قبل أيام، في 7 آب/ أغسطس، بعد أن منح النور لشوارع المدينة وأهلها لعقود، وحصد حب الناس واحترامهم وتقديرهم، شيّعته المدينة بكثير من الحزن وكثير من الوفاء لمسيرة عطاء رجل، لم تلوثه السياسة، ولم تغره مباهج الحياة، ولم يعرف في حياته سوى ثلاثة أمور: المنزل وعمود الإنارة والمسجد.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...