نُوروز: نشيد الخلود
2006-04-09
ارتبط عيد «نوروز» في المخيال الشعبي الكردي مع قصة «كاوا» الحداد التي يرد ذكرها في «شاهنامة» الفردوسي ارتباطاً وثيقاً بحيث بات من الصعوبة فكّ هذا الارتباط في الذاكرة الجمعية للشعب الكردي، ولكن، وعلى الرغم من ذلك، لا بدّ من القيام بذلك من أجل إعادة الاعتبار لهذا العيد العظيم الذي تمّ اختصاره إلى مجرّد حكاية، قد تكون حقيقية أو لا تكون، على يدّ أنصاف المتعلمين من طلاب الكتاتيب الدينية آنذاك. فكاوا هو مجرّد رجل من العامة قاد انتفاضة شعبية ضد حكم الطاغية «الضحّاك» الذي قتل أولاده، منادياً بالحكم لأفريدون العادل، بحسب رواية الفردوسي التي تمّ تبنّيها وتداولها بحرفيتها باعتبارها قصة «نوروز»، على الرغم من أنّ الفردوسي نفسه يدّعي أن الملك «جيومرت» كان أول من أعلن بداية الانقلاب الربيعي عيداً شعبياً، وهو سابق تاريخياً لكل من الملك «جمشيد» و«الضحّاك» على حدٍّ سواء.
في الحقيقة لا توجد أية علاقة بين عيد «نوروز» وكاوا الحداد إلا من منظور التماثل الرمزي بين الرموز البدئية المحتواة في القصتين كرمز «الثعبان المتعدد الرؤوس» (التنين) الذي يعبّر عن الموت وقوى الشرّ والفوضى، حيث نجد أنّ هذه الرمزية كانت منتشرة في كافة أرجاء المنطقة الهندأوروبية، بل نعثر عليها في الثقافات السامية القديمة، ولدى بعض شعوب الشمال الأفريقي كذلك؛ ونعثر عليها في العقائد الآرية السابقة على التوحيد البراهماني، حيث يجري الحديث عن العداوة الأبدية بين التنانين الهائلة «ناغي» وطيور السماء «الملائكة» بقيادة ملك الطيور «غارودا»؛ وفي «أفيستا» يرد ذكر صراع البشر ضدّ التنين من أجل «بذرة الحياة»، ولقد استمرّت هذه العقيدة في مختلف الديانات اللاحقة وصولاً إلى الإسلام الذي مثّل إبليس بالحيّة والملائكة بالطيور كما نلاحظ في سورة «الصّافات» القرآنية بوضوح. وكذلك الأمر بالنسبة لرمزية النار التي يشعلها الكرد على ذرا الجبال يوم 20 آذار، حيث عمد بعض الكتّاب ذوي الميول القومية إلى إرجاعها إلى نار المعابد الزردشتية ببساطة، في حين أنّ رمزية النار الجنائزية أقدم بكثير من زردشت، وإن كنت أميل إلى الاعتقاد إلى كونها مستقدمة من العقائد الثنوية القديمة وصولاً إلى شكلها المحدث في المانوية، حيث الصراع الأزلي بين مبدئي النور والظلمة، الخير والشر، الولادة والموت... إلخ، كأحد تجلّيات دورة التعاقب في عقائد الخصب والتجدد.
إذاً، فعيد «نوروز» ليس عيداً كردياً فقط، أو فارسياً أو آشّورياً فقط، بل هو عيد كوني يحتفل به كل شعوب العالم من أوستراليا إلى المكسيك، كلٌّ على طريقته، باعتباره عيداً للتجدد السنوي ودورة الفصول كأحد مظاهر عقيدة العَود الأبدي، ولا يمكن، ولا يجوز، لأحد ادّعاء ملكية أو احتكار هذه العقيدة لأننا، ببساطة، نعجز عن معرفة الأصول المرجعية الأولى لهذه العقيدة، وإن كنّا قادرين على تلمّس بداياتها في منطقتنا. فهذا العيد خاصّ بالمجتمعات الزراعية والرعوية التي يرجّح بعض العلماء أنها قد نشأت منذ عشرة آلاف سنة فقط على سفوح جبال «زغروس» الغنية بالحبوب، لتنتشر الزراعة منها، عبر شمال سوريا الحالية، إلى بلاد الرافدين في النصف الأول للألف السادس قبل الميلاد؛ فإن صحَّ أنّ الزراعة المروية قد نشأت في بلاد الرافدين وجنوب الأناضول منذ حوالي سبعة آلاف عام، فيمكن القول إن الصيغة الأولى لعقيدة التجدد تعود إلى الألفية التاسعة قبل الميلاد، لكن الأصول الكتابية لها تعود إلى الأسطورة القمرية الآرية، لتأخذ صيغتها الأكمل في شخص «دوموزي- تمّوز» السومري في الألف الثالثة قبل الميلاد، وكان لا بدّ من انتشار الثقافة السومرية في مختلف أرجاء آسيا بالترافق مع انتشار الكتابة المسمارية حيث استخدمها الأكّاديون في شمال بلاد الرافدين والعيلاميون في إيران والحثيون في آسيا الوسطى والأوغاريتيون على ساحل البحر الأبيض المتوسط والأورارتيون في القفقاس، مما أدى إلى تداخل وتلاقح ثقافي مذهل بين مختلف الأقوام القاطنة في هذه المنطقة المترامية الأطراف؛ ولذلك نجد هذا التشابه الكبير بين موضوعات اللُّقى الآثارية في مناطق مختلفة، بل متباعدة، مثل: شجرة الحياة، مجالس الشراب، حماية القطعان، الصراع ضدّ قوى الشرّ، و... الخلود الذي يعود في أصوله الرسومية إلى عبادة الرّبة الأم «إنّين»، أي إلى المرحلة الرعوية حيث يمثّل «تمّوز» مع «إنّين» دورة الحياة والموت. فتمّوز هو سيد بيت الرعاة وحامي قطعان الماشية، كما أنه ابن الإله «أيا» الذي يستلقي على الماء ويغمر نفسه بالحبوب؛ وبالتالي، كان يتمّ تصوير عيدي رأس السنة والربيع برعاة يحملون ثمار الحقل ويسوقون قطعان الماشية، احتفالاً بعرس «إنّين» و«تمّوز» العائد من مملكة الأموات كشعار لتجديد العالم، لتُعقد، بعد ذلك، مجالس الشراب وحلقات الرقص، وقد قدمت الألواح النذرية من عصر «ميزيليم» أفضل برهان على صحة الربط بين مجالس الشراب وعيد رأس السنة الجديدة الذي كان يعدّ، من جهة، عودة ولادة الإله والطبيعة، ومن جهة ثانية يعتبر، رمزياً، تجديداً سنوياً لخلق العالم، ليتم التخلص من الفوضى التي سببتها الشياطين عبر سرقة ألواح القدر، فيتم استرجاع تلك الألواح ليعود النظام إلى العالم من جديد.
بهذا، فإن «نوروز» يعدّ تعبيراً عن عقيدة العَود الأبدي حيث يموت الإنسان- الإله، الذي هو ابن الماء الخلاّق، مع النبات في الصيف ليولد في الربيع من جديد.
ولقد ارتبطت مع هذه العقيدة جملة من الممارسات الطقوسية كالانتحار القرباني والجنس المقدّس والطقوس السحرية المختلفة، لكنها اتّخذت منحى أكثر تجريداً في أسطورة «جلجامش» البابلي، الباحث عن أسرار الانعتاق والخلود، حيث سرقت منه الحية عشبة الحياة التي حصل عليها عبر اجتياز مياه العالم السفلي، وبالتالي فقد رفضت الديانة الشمسية الأكادية- البابلية فكرة الخلود السومرية، ووقفت موقفاً معادياً من باطنية «تمّوز».
أما الدائرة الحورية- الميتانية فقد عمدت إلى المزاوجة بين «تمّوز» السومري و«شمش» الأكادي و«مردوك» البابلي، وأضافت إليهم «تيشوب» الذي ورثته عن الحثيين، حيث نعثر على أختام في آثار «تل حلف» و«كركميش» و«ملاطية» تصوّر الصراع ضدّ السبع (الموت) لحماية الثور (الحياة)، وكذلك نجد الشمس المجنّحة المرتبطة رمزياً بشجرة الحياة، ودورة الولادة والموت، في أختام كركوك التي تعود إلى الحقبة الحورية- الميتانية...إلخ.
فعيد «نوروز»، إذاً، يرمز إلى تجدد الحياة، ويرتبط مع عقيدة الخلود والعَود الأبدي (التقمّص)، وهو، بالتالي، عيد كوني مشترك بين مختلف الأقوام والشعوب، ولا بدّ من تحريره من ضيق الأفق السياسي؛ فهو ليس عيداً قومياً أو وطنياً، وإن كان كل قوم قد أسبغ عليه من ثقافته، وتمثّله بما يناسب دياناته وعقائده، بل يرمز، بالحري، إلى التوق الإنساني الأزلي- الأبدي إلى الانبعاث والخلود، ويعبّر عن فلسفةٍ للتفاؤل والأمل، مما أرسى الأسس الأولى لمعظم الباطنيات اللاحقة التي تمكّنت من تطوير هذا الاعتقاد وصولاً إلى فكرة الولادة الروحية للإنسان، وهي الفكرة التي تقوم عليها كافة ديانات التوحيد اللاحقة.
وعليه يمكن القول إن «نوروز»، بالإضافة إلى كونه عرساً معبّراً عن الولادة بعد الموت، يمثّل، كذلك، توقاً إلى الحرية والانعتاق، وهنا فقط يكمن الرابط الحقيقي والوحيد بين عيد «نوروز» وقصة «كاوا» الحداد الذي أشعل انتفاضة المظلومين ضد حكم الطاغية في سبيل الحرية والعدالة، لطرد الظلمة وانبعاث النور من أجل تجدد الحياة.
08-أيار-2021
10-نيسان-2006 | |
10-نيسان-2006 | |
09-نيسان-2006 | |
09-نيسان-2006 | |
09-نيسان-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |