"التباس".. داريو فو في مسرحية سورية
أنور محمد
2019-12-14
لم يَقْلَعِ الكاتب الإيطالي داريو فو (1926- 2016) عينيه كما قَلَعَهُما "أوديب" تكفيراً عن قتله لأبيه بالخطأ وزواجه من أمه؛ بل قَلَعوا له إحدى عينيه، في إحدى المظاهرات، بسبب سخريته من المستبدين والطغاة الذين يتحكَّمون بمصائر الناس، ولأنَّه كما ذَكَرَتْ لجنةُ جائزة نوبل التي منحته جائزتها في عام 1997: "يُحاكي المُهرجين في العصور الوسطى، حيث كانوا يقومون بجلد السلطة، والحفاظ على كرامة المضطهدين". ولقد وقف ضد الحرب الأميركية على فيتنام، كما وقف مع القضية الفلسطينية في مسرحيته "فدائيون" التي أغضبت الإسرائيليين فهاجموه. داريو فو في مسرحه يشتبك مع السلطة أكانت سياسية أو اقتصادية أو دينية حين تضطهد الناس وتستخف بعقولهم وكرامتهم. ففي مسرحيته "لا يأتي كل اللصوص للمضرَّة دائماً" أو "التباس" (كما سماها المُخرج المسرحي السوري سليمان شريبة على مسرح قومي اللاذقية، وهي من تمثيل: حسين عباس بدور تورناتي، مجد يونس أحمد بدور فوفي، وسام مهنا بدور أنطونيو، سوسن عطاف بدور ماريا، غربا مريشة بدور جوليا، دينا العش بدور آنا) نرى أنَّ اللص تورناتي الذي جاء يسرق منزل فوفي نائب محافظ المدينة هو أكثر رِقَّةً ولطفاً وذكاءً؛ وهنا السخرية من قسوة وخشونة وغباء هذا المسؤول حين يقبل اللص تورناتي- حسين عباس- أن يمثِّل دور زوج جوليا ومن ثمَّ دور زوج آنا؛ وهما امرأتان متزوجتان، وعلى ذمة رجلين، فوفي وأنطونيو، وهذا مُحرَّم في الديانة المسيحية، فيما هو زوجٌ شرعي لماريا، لينقذ الزوجين والزوجتين من فضيحة ممارسة الزنا فنكتشف درجة العهر الاجتماعي الذي تمارسه هذه الطبقة.
إحساس شعبيّ
"داريو فو في مسرحه يشتبك مع السلطة أكانت سياسية أو اقتصادية أو دينية حين تضطهد الناس"
اشتغل سليمان شريبة مسرحيته بإحساس شعبي فنرى البطل وهو في الفعل يكايد ويكابد، لكنَّه يساير هذه التركيبة ويقوم بتسهيل ومباركة عهرها الجنسي وهي التي لا تني تفخر بعهرها السياسي والاقتصادي عكس ما كان يبتغيه داريو فو، وهذا ما طوَّحَ بـ(لُبِّ) وروح النص ورماه خارج الصالة. داريو فو مهرِّجٌ خطرٌ، والتعامل مع نصوصه يتطلَّب التعمُّق في قراءته والحذر من إشاراته على وضوحها. هو لا يحقق الضحك للضحك، وهذا ليس هدفه، الضحك عنده هو تجسيدٌ للتضادات في العلاقات الإنسانية وعن قصد، وليس تنكيتاً يقوم بافتعال حركات، أو على محاكمات لفظية. هو ليس صورة صوتية، وهذا ما وقع فيه المخرج سليمان شريبة في مسرحية التباس. كُنَّا مع صورة صوتية، ومع ديكور لم يتبدَّل: أريكة سيختبئ اللص خلفها عند دخول فوفي وآنا، وساعة منزلية ضخمة، وكراس، وحاملة زجاجات وكؤوس، باعتبار أنَّ الصوت والصورة سينبعان من المكان ذاته. لا تغيير في قطع الأثاث لحساب إشارات أو دلالات زمنية أو نفسية، أو وقائع لصراعات. ثمة استمرارية، ولا فاصل بين المشاهد، ولا تخوم. صورة صوتية تعقبها صورة صوتية بين المَشاهد، ولا فاصل.
توليد الضحك وليس الموقف
ربَّما هذه رؤية سليمان شريبة الإخراجية؛ لكنَّها صورة تولِّد الضحك وليس (الموقف) الذي كتبَ داريو فو مسرحياته من أجله. في النص، وبترجمته العربية بالفصحى للدكتور قاسم بياتلي، نحن مع موقف أكثر فتنة وأكثر إثارة وأكثر بهجة- نضحك بمرارة ونفرح. نفرح- تفرح الروح، حتى لترى في المواقف الضاحكة صورة بللورية، صورة تتنفَّسُ فيها الروحُ وهي تضحكُ ضحكتها السوداء من هذا الزيف الاجتماعي والعلاقات اللا أخلاقية بين رجلين يتبادلان زوجاتهما في السرير إن بعلمٍ أو بجهلٍ منهما؛ طبقةٌ ذات أصولٍ أرستقراطية تحكمُ وتتحكَّمُ ولا هدفَ لها أو غاية غير الاحتفال بغرائزها، وكأنَّ الحياة تقف عند هذا الحد.
المسرح وحده من بين الفنون كان نصاً أو عرضاً يُصنع من الفكر (الحيّْ)، فنذهب من اللا اختيار إلى الاختيار. في المسرحية يطرح داريو فو الجسد/اللحم كموضوع اشتهاء ورغبة عند كل من الذكر والأنثى- والجسد/اللحم هنا لايرى الكَفَن- كَفَنَهُ. يرى شبقه. طبعاً هذا لا يعني أنَّ اللحم لا يمكن أن يكون وَرِعِاً- ليس من باب التديُّن، ولكن من باب الفلسفة. فأحداث المسرحية لا تطرح (الحب) كقضية تشغل الزوجين والزوجتين الخائنين لفراش الزوجية وهي سبب المخاطرة بسمعتهم ومكانتهم الاجتماعية والسياسية، هناك فجوات عاطفية بينهم، فاللقاء الجسدي دافعه غريزي غير عاطفي أو فكري، وهذا ما ذهبَ إليه داريو فو، فيكشفُ عن عوالمهم الداخلية كطبقةٍ تفكيرها غير سام، ولا تجتذبه الأهواء الثورية، ولا التغيرات المدنية. بل بقيت طبقة تعبثُ وتعبثُ حتى بإيمانها وبمعارفها وعلومها التي حصَّلتها. وهنا نلمس كيف يضع داريو فو الفكر في الصورة المسرحية ليُولِّد الصدمة. قوَّة المسرح أنَّه يذهب إلى تحقيق السامي إنْ في التراجيديا أو في الكوميديا على الخشبة لنُصابَ بالصدمة/الدهشة، وذلك لتحقيق معادلة؛ مرَّةً يكون جوابها رياضياً، ومرَّةً حيوياً، ومرَّةً جدلياً. فشخصياته- كثيراً ما يرتجل أفعاله وأقواله على الخشبة- لم تطَّلع على أسرار وبرامج الآلهة والعرافين كما في المسرح الإغريقي، ولا هي نتيجة مصادفة أو خطأ. بل ثمَّة تخطيط يتمُّ تصميمه وتنفيذه لتقوم هذه الطبقة بسرقة واغتصاب إرادة الناس وتحويلهم إلى قطيع، وهذا ما يفجع داريو فو، فيكشف عن المحرِّك الخفي والغامض الذي هو (المُستبد) بثيابه السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية، وهو يدفع الناس نحو الشقاء، وكأنَّ الشر الذي يفعلونه مع البشر هو "أُسُّ" الحياة، وهذه مرَّ عليها المخرج سليمان شريبة سريعاً.
"كلُّ حبكات مسرح داريو فو تدور حول حماقة ونذالة السلطة حين تستخف بعقول الناس وكرامتهم"
فلقد أمسك بالفاجعة/ المأساة التي يعيشها تورنادو الذي استسهل السرقة- سرقة الأغنياء، وكأنَّه "روبن هود"، ولكنَّه لم يطورها. هنا داريو فو- وليس المُخرج، لا يُكومدنا، هو يُحقِّق السخرية التراجيدية، فاللص له حقُّ الحياة، وهو حين يسرق فهو يستردُّ مالَه الذي سرقه الغني. هو يحقِّق الحقيقة؛ ما يُذكرنا بشخصية المُهرِّج في مسرحية "الملك لير" لشكسبير الذي ينطق بالحقيقة بكل صراحة غير آبه بالمصير الذي قد يصير إليه. داريو فو يقول الحقيقة؛ هو هذا المهرِّج الذي يبرز، أو يفرجينا صفاء ونقاء الذات الإنسانية، يفرجينا سموها ثمَّ يرميها في حلبة المنحط السافل القذر؛ المستبد، فيحقِّق الهزل. أي يذهب إلى (الجد) فنصحو من غفلتنا.
من الممثلين الذين راعوا هذا الهزل واشتغلوا أدوارهم عليه الممثِّل حسين عباس- تورناتي؛ فقد كان جدياً وكان هزلياً، بينما أغرقَ مجد أحمد أو استغرق في دوره، غرق فيه، لم يَلوِّن. في حين راح وسام مهنا وغربا مريشة ودينا العش إلى افتعال حركات بدت فظَّة وغير مقنعة لاستجداء الضحك، فيما كانت سوسن عطاف – ماريا، تلك المرأة من بيئة شعبية- لا همَّ لها غير الاستحصال على المال النقدي والعيني الذي سيسرقه زوجها حسين عباس –تورناتي؛ حتى لو كلَّفه رأسه. فنخرج من الصالة وقد تبخَّرت الضحكات التي لم تعبر عن ملحمية الروح الإنسانية وهي تكابد الشقاء الأبدي على يد أباطرة المال باعتبارهم ما يزالونَ قوَّة عمياء.
ومسرح داريو فو وإن ذهب إلى التهريج والإضحاك فهو يتعامل معنا بذهنية فلسفية، فكلُّ حبكاته تدور حول حماقة ونذالة السلطة حين تستخف بعقول الناس وكرامتهم.