هي عقول كردية تلك التي تمارس تفكيرها النقدي، وتصنع لنا سينما ليس مثلها سينما، فترفع من شأن العقل -عقل بلدان العالم الذي نعيش فيه، والذي هو عقلنا. فكما في إيران يصنع عباس كياروستامي ومحسن مخملباف وبهزان قبادي، وهم من أصول كردية جزءاً من حياة السينما العالمية؛ صنع منقبل يلماز حميد بيوتون 1937-1984 -أيضاً هو كردي- بل أسَّس أوَّل بذور السينما في تركيا، وانتزع لها في مهرجان «كان» الخامس والثلاثين جائزة السعفة الذهبية عن فيلمه «الطريق». ويلماز هو روائي وقاص وكاتب سيناريو وممثِّل، شارك في تمثيل 110 أفلام، وكتب سيناريو 53 فيلما، وأخرج 17 فيلماً، وأصدر أربع روايات، كما كتب مئات القصص القصيرة.
البداية الأولى لعمله في السينما كانت في أواخر العام 1957، حين وصل يلماز بيوتون القاص والعامل في مؤسسة «دار فيلم» إلى مدينة اسطنبول، وفي جيبه 135ليرة تركية، على أن يعمل في المؤسسة براتب مقداره ثلاثون ليرة. وفي العام 1958 تفتح السلطات التركية تحقيقاً مع يلماز بيوتون بتهمة الدعاية للشيوعية، وذلك لنشره قصة قصيرة في مجلة أدبية، وصلت الدعوى إلى المحكمة المختصة بالقضايا المهمة، وحكمت عليه بالسجن سبع سنوات ونصف السنة. استأنف يلماز الدعوى، في حين نصحه أصدقاؤه بالهرب،لكنَّه لم يستمع للنصيحة، وبعد الاستئناف ينزل الحكم إلى سنة ونصف سجن مع النفي نصف سنة، وتحت رقابة الشرطة. فيقوم صاحب شركة «دار فيلم» خوفاً من مقاضاته بفصل يلمازمن العمل عنده. في صيف العام 1963 يعود يلماز بيوتون إلى اسطنبول، لكن معارفه وأصحابه ينصرفون عنه، كونه محكوما عليه بالسجن، بسبب الدعاية للشيوعية، ولايلاقي غير صديقه (فريد جيهان) الذي يعمل مساعد مخرج، فيفتح له صدره، ويكلفه بكتابة سيناريو لفيلم، على أن يكتب باسم مستعار، وليكن «يلماز غوني»، بدلاً من يلمازبيوتون، فيكتبه ويظهر الفيلم العام 1964 باسم (المقدامان)، وهو عن شابين شجاعين -مثَّل دور أحديهما يلماز غوني بنفسه- يساعدان الفقراء على محاربة الظلم. وقد حقَّق الفيلم نجاحاً كبيراً، فانهالت عليه العروض، وأصبح أكثر الممثلين شهرةً في تركيا،ففي عامٍ واحد هو العام 1965 مثَّل 22 فيلماً، غير أنَّه في العام 1967 قام بتجربتهالإخراجية الأولى، وكان اسم الفيلم (اسمي كريم) الذي لم يلقَ نجاحاً، فكان فيلمه الثاني (سيِّد خان) في العام 1968، وهو الفيلم الذي أسَّس له الشهرة والمجد.
تستمر نجاحات يلماز غوني حتى العام 1970 الذي تبدأ معه أهم مرحلة سعادة في حياته، إذ يتزوج يلماز، ويحقِّق أحد أهم أفلامه (الأمل)، فيكتب له السيناريو، ويؤدي الدور الرئيسي بنفسه مع أشهر الممثلين الأتراك في السينما والمسرح من مثل: كولسينأجيك، عثمان أليناك، توند جيل كورتيز، سمرة كايا. فيعرض في تركيا، ويحوز لقب أفضل فيلم، ثم يشارك في المهرجان السينمائي العالمي في «غرينوبل»، ويحرز جائزة لجنةالتحكيم الخاصة. بعد فيلم الأمل قدَّم يلماز أفلام: الهدف الحي، غداً اليوم الأخير،الهاربون، المضاربون، اليائسون، المرثية، الأب. في فيلمه اليائسون، نحن مع رجل حديدي يرأس مافيا تركية -يؤدي دوره يلماز غوني- فهو العرَّاب الذي يعيش يومه، ولايفكر بالغد، وأقرب صديق إليه هو المسدس الذي لا يفارقه، فهو قاض أعلى لمنظمة الإجرام التي يرأسها ويديرها.
في العام 1972 يُعتقل يلماز غوني ثانية بتهمة دعم الحركة الشبيبية، ويُحكم عليه بالسجن سبع سنوات مع الأشغال الشاقة، ويُنقل على الفور من قاعة المحكمة إلى سجن اسطنبول-سليمية- فيقضي فيه مدة تزيد على السنتين هي من أكثر السنوات رعباً في حياته، و كتب فيه روايتيه (صالبا) و(المتهم). وفي أوائل مايو 1974، ومع تشكيل حكومة الإنقاذ الوطني برئاسة بلند أجاويد، يُفرج عن يلمازغوني، ويحتشد المئات لاستقباله. لكنه ما إن تمضي عدَّة أشهرٍ بعد الإفراج عنه حتى تقوم مشاجرة في أحد المطاعم القريبة من «أضنة» بطلها النائب في البرلمان وحاكم الولاية (سَفَ موتلو)، الذي يعتدي بالسباب، ومن ثمَّ بالضرب على يلماز غوني، ثم يطلق عليه الرصاص، فما كان من يلماز إلا أن ردَّ عليه لكنَّ الرصاصة لم تصبه، فتجيء طلقة من عبدالله بيوتون ابن عم يلماز غوني فتخترق رأس سَفَ موتلو، إلاَّ أن الشرطة تعتقل يلماز غوني رغم اعتراف عبدالله بأنَّه القاتل، فيُحكم على يلماز بالسجن 19عاماً.
في هذه الفترة من سجنه أنجز غوني مجموعة من الأفلام، كان أهمُّها: القطيع 1978، العدو 1979، الطريق 1981 الذي يعكس الواقع التراجيدي لتركيا الحديثة في عيون ثلاثة سجناء في سجن جزيرة «إمرالي»، إذ يحصلون على إذن سفر لزيارة أسرهم لمدة أسبوع، ويسافر كل منهم إلى بلدته، فيفاجأ الثلاثة بوقائع مرعبة: الأوَّل وقداحتُجزت زوجته من قبل أهلها مع أولاده، لكنَّه ما إن ينجح بإقناعهم باستعادتهم حتى يموتوا على يد شقيق زوجته. أما الثاني فيبحث عن زوجته الخائنة التي تعيش في قرية نائية، لتكفر عن ذنوبها، فتموت من شدة البرد، أما الثالث فيصعب عليه اللقاء بعشيقته، فأهلها لا يمكن أن يزوِّجوها من مجرم. فترة السجن هذه لم تدم طويلاً، فعندما يُمنح إجازة في آخر العام 1981 يفكِّر بالهرب، إذ لا أمل بالعفو عنه. فيهرب من مدينة «أنتالي» على ظهر قارب صيد إلى جزيرة «ميس» اليونانية، ثمَّ يغادرها إلى «ليختينشتين»، ويطلب اللجوء السياسي في سويسرا، لكنَّه يلقى جواباً بالرفض، فيتوجَّه إلى باريس، ويحصل على اللجوء السياسي في فرنسا، وفي التاسع من سبتمبر 1984يموت يلماز غوني متأثراً بمرض السرطان.

النشر الورقي : أوان

النشرالإلكتروني : خاص ألف