بعد قليل سيحملنا مؤشر الأعوام إلى عتبة جديدة، تزيد من حدة أيام قهرنا، وترفع مستوى الإبر الوخازة في نبضنا، وهو يقترب من نهايته في الشرايين والأوردة المفتوحة إلى أوسع فتحة للقهر عرفها التاريخ! لم يعد هناك من فرق بين سنة وأخرى، وبين مصير كهذا أو مثل ذاك! لقد تساوينا كلنا في الهبوط أدنى فأدنى صوب الحافة، كأوراق شجرة كانت في الأعلى تعانق السماء، ثم حملها الهجير إلى مجرى السيل..! نشعر الآن كسوريين أننا أقرب ما نكون إلى حتفنا! نمضي الوقت كله ونحن نفكر في موتنا، ونمحّص في الاتجاهات والحقول والسهوب والقرى البعيدة عن مكان نبتاع فيه قبورنا، لنهيل التراب فيها علينا! ونُغمضُ بانتظار رحلة العدم السحيق، دون أن نخشى نباشي القبور وضباع الأرض الذين سيرشقوننا ببولهم مرات ثم مرات، قبل أن يجروننا إلى أوكارهم، نمضي دون أن نلتفت إلى المتلصصين على لقطات نزفنا وهم يستثمرون فيها، وكأننا انتحار المهرج على الخشبة! بينما يضحكُ الجمهور على آخر طرفة قالها قبل أن يسقط في بحيرة دمه! وأيضاً دون أن يثيرنا صلف أصحاب الدماء الزرقاء حين يقررون أن جثثنا ستسمم ماءهم وخضرواتهم وفاكهتهم! نعم نبحث عن موت هادئ، يستطيع أولادنا من بعده أن يضعوا على حجارة القبر ورودهم في صباحات العيد، أو حين يتذكروننا! وعلى هامش هذا الاحتضار الطويل، نتواصل مع بعضنا لنرى في وجوهنا، كم حفرت دموعنا ونحن نشبه في البكاء قتلانا، وكم صنع الوقت في مسامات جلدنا، فنرى أننا أرضٌ محروثة بأقدام الزمن ووحوشه وأشباحه وطعنات خناجره وسيوفه ورماحه! الزمن بالنسبة للسوري أفعى أخرجته من سوريته فكفر بالجنان والجحيم! قاتل فريدٌ، أسلحته مضّاءة في اختراق لحمنا، نستطيع أن نضيفه إلى القائمة الطويلة من القَتلةِ الذين احتلوا حياتنا وأحالوها إلى جحيمٍ يحاصرنا ويخنقنا كل ثانية ودقيقة، وفي ولادة كل طفل ميتٍ تنشقت أمه هواء الغوطة الأصفر، أو ريح خان شيخون المميتة! وفي كل قبوٍ تكدست فيه أجساد شباب ذهبوا إلى حريتهم، وافترستهم غيلان نظام الأسد ووحوشه التي علفَها عشرات السنين للحظة مثل هذه، وبات كل معتقل من هؤلاء في غيب سحيق لا يدري به أحد..! أيُ حظٍ هذا الذي اختطته آلهة الخراب للسوريين لكي يعيشوا دمار الأزمنة كلها؟ ولتجتمع على أحلامهم فئات المجرمين من شرق الأرض ومغربها، ومن جنوبها إلى شمالها! الميليشيات التي سرقت بيوتنا والجيوش التي قصفتنا ونحن نهرب بعيداً عن حمايتها لموتنا المؤكد بيدها.
والعصابات التي تاجرت بهروبنا وبأوراقنا ونهبت ما نملكه..
والمنظمات التي اعتاشت على آلامنا ثم كومت ثرواتٍ لأصحابها.
والحكومات والدول التي ما برحت تحكي عن مصائرنا وتبكي علينا ثم تصافح قاتلنا!
والقوانين التي تركت كل خراب المعمورة ومضت تنقب في وقائعنا عن ملامح إرهابيين تعرفهم ويعرفونها! وفوهات البنادق المشرّعة في وجوهنا في قاعات الانتظار والمغادرة وقاعات الوصول في المطارات والمنافذ الحدودية بين البلدان والقارات حيث أضعنا أعمارنا! والطرقات الفرعية والغابات ووحوشها، وأسماك البحار التي غرقنا فيها قد التهمت ما بقي من مشاهد في عيوننا التي تشوكت بملحها وأدمتها، فلا نستطيع أن نروي لأبنائنا وأحفادنا سوى حكايات الموت الذي يرافقه هذا الزمن الخبيث مثل هواء! حراس الأوهام والقابضون على أعنة العقل وهم يعيدون أيامنا إلى الوراء، ليبنوا زمنهم المشتهى من حطام حيواتنا؛ يحللون ويحرمون، ويمنحون صكوك الإيمان والترحم على الموتى! ويقفون بجانب من سبقهم في اختراع فنون الحتف السوري، حتى صار شعارنا: يا وحدنا! هل كنا حقاً أقواماً ملعونةً دون أن ندري، أم أننا صنعنا مصيرنا بما فعله آباؤنا وأجدادنا، حينما صمتوا وقبلوا بأن يكونوا بيادق في ألعوبة الأمم؟ حتى صاروا ضحايا زمنهم المهدور بصناعة أوهام بددتها حروبهم!
أريدُ لهذا السيل الجارف من خيالات الموت وصوره أن ينتهي..
أريد للزمن أن يقف للحظة كي أسترد أنفاسي وأنا أهرب من سياطه!
لأرى كيف تهاوت حياتنا ونحن نبحث عن النجاة من كل هذا العسف الذي أصابنا لمجرد أننا حلمنا بحريتنا، وخطونا خطوة باتجاهها! أريد أن أموت مثل نبت الأرض، تسحقه الأيام وهي تمضي! لكنه لا يلبث أن يولد من جديد!
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...