مشعوذة ترامب ومصائبنا التي لا تنتهي
علي سفر
2020-11-21
كاد طبيب هندي أن يشتري مصباح علاء الدين الأسطوري، لولا أن جزءاً من عقله اشتغل فجأة، فأبلغ الشرطة التي ألقت القبض على المحتاليْن اللذين اقتربا من الاستيلاء على مبلغ غير قليل (41000 $)، بعد أن أقنعا الرجل بأن مسحة من يده على الفانوس النحاسي ستخرج المارد منه، لينفذ له كل ما يطلبه.
لم يكن التعليق المناسب على القصة هو السؤال عما يمكن للطبيب أن يطلب من المارد من حاجات، على الرغم من وجاهة السؤال ومشروعيته، إذ ما الذي يحتاجه من يملك مثل ذلك المبلغ في بلد فقيرة عموماً كالهند.. بل كان هو السؤال الاستنكاري عن سهولة تخلص شخصٍ درس الطب في إحدى الجامعات من معمله الدماغي، لصالح شعوذات وأكاذيب تؤمن بها فئة من العامة، سيما غير المتعلمين.
أليس الوقوع في أسر الأوهام والخزعبلات، بعد استكمال التكوين المعرفي العلمي في المدارس والجامعات هو هزيمة محققة لهذه المؤسسات التي ترفد المجتمعات وفضاءات عملها بالمتعلمين ليقوموا بخدمة أفرادها؟ ولكن هل يقع ضحايا المشعوذين في فخاخ هؤلاء من تلقاء أنفسهم؟ أم هناك مؤسسات تقوم ببث ما يدعم أفعال النصابين والمشعوذين ويسندها؟
ترامب، الذي تمسك مشعوذته بيده في إحدى الصور، يرث فعلياً تاريخاً كاملاً من علاقة رجال الكنيسة برؤساء الولايات المتحدة!
لقد أمست الهند نمراً اقتصادياً، سيما في صناعة المعلوماتية، إلا أن الصورة المكرّسة لهذه البلاد، بطولها وعرضها، للأسف، لم تخرج عن عازف الزمر الذي يخرج الأفعى من سلة القش، أو المهراجا الذي يعتلي ظهر الفيل. وفي مجتمع واسع الأرجاء، يتوزع على مساحات شبه القارة الهندية، سيعثر الباحث على قطاعات اقتصادية كاملة تعتمد في معيشتها على صناعة الأوهام والمعتقدات. وليس الحديث هنا عن جمعيات ودكاكين العرافين وقارئي الكف، واللاعبين بالبيضة والحجر وحسب، بل عن مؤسسات ثقافية وإعلامية لا تبتعد في خطابها عما يعتقد عموم البشر البسطاء.
وحتى تلك التي لا تفعل هذا، تبقى سلبية، ولا تضع في أولوياتها محاربة مثل هذه الأنماط الذهنية المتخلفة، على الرغم من حساسية الأمر وحاجة فئات واسعة من أفراد المجتمع لمثل هذه الخطط، إذ لا يعقل، وعلى سبيل المثال، أن تذهب نساء قرى بأكملها إلى الحجْر والعزلة بعيداً عن سكنها بسبب الدورة الشهرية! جرّاء اعتقاد كهنة الديانة التي يعتنقونها أن المرأة، في مثل هذا الظرف، تصبح نجسة يجب عدم الاقتراب منها أو الاختلاط معها. وطبعاً لا يمكن رؤية القضية من دون قراءة علاقة السياسة وقواها في مثل هذه البلاد بالشعوذة، وبالتفكير غير العلمي.
ذهب رجال دين الكنيسة الأرثوذكسية إلى قاعدة حميميم في الساحل السوري، كي يرشّوا الماء المقدس على طائرات ميغ 35، كي لا تسقط، في الحرب المقدّسة ضد "الإرهابيين"!
لهذا، وبسبب كل ما سبق، لم يكن الفيديو الذي تم تداوله إعلامياً لمستشارة ترامب الروحية، القسيسة الأميركية، باولا وايت، غريباً، فهي تقدّم الصلاة على طريقتها المثيرة، لتدعم ولي نعمتها من أجل فوزه بالانتخابات على منافسه الديمقراطي جو بايدن! وضمن إلحاح القصة في سياق الصراع الذي احتدم انتخابياً، لن يعتبر أحدٌ أن استخدام التعابير الأفريقية الوثنية في منطوقها الذي يلبس لبوس الصلوات الكنسية هو مشكلة يجب التوقف عندها، ففي مثل هذه المنعطفات الدراماتيكية، يمكن اللجوء للشياطين وقدراتها في العرف السياسي، من أجل تحقيق النصر، من دون أن يرفّ جفن السياسيين وأحزابهم التقليدية، فالذروة التي وصل إليها هؤلاء في غير مكان، عبر استخدام عناصر الإثارة الشعبوية في تواصلهم مع الجماهير، ستلتقي مع ذروة أخرى، هي الكيانات التجهيلية بروامزها وأدواتها، فضلاً عن استخدام تقاليدها وفولكلورها.
ولكن هل تظهر هذه النزعات المبنية على اللجوء إلى الغيبيات والسحر في العوالم السياسية في أثناء الملمات ولحظات الصراع القاسية فقط؟ يحفل التاريخ السياسي بتفاصيل كثيرة عن حكام شاركهم الكهنة والمشعوذون صناعة القرارات، عبر إلهامهم ودعمهم، ودفعهم إلى القيام بممارسات غرائبية، فترامب الذي تمسك مشعوذته بيده في إحدى الصور، يرث فعلياً تاريخاً كاملاً من علاقة رجال الكنيسة برؤساء الولايات المتحدة! وفي الوقت نفسه، لا يبدو أن فلاديمير بوتين، وهو رأس المافيا الروسية الحاكمة، بعيداً عن تأثير هؤلاء، فقد ذهب رجال دين الكنيسة الأرثوذكسية إلى قاعدة حميميم في الساحل السوري، كي يرشّوا الماء المقدس على طائرات ميغ 35، كي لا تسقط، في الحرب المقدّسة ضد "الإرهابيين"!
يجيب بشار الأسد مؤيديه بطريقة السحر والشعوذة بشأن الأزمة الاقتصادية الكارثية التي يعيشها السوريون، وكأنه مواطنٌ مثله مثلهم
كما يعرف الجميع أن سياسة قتل المعارضين والصحافيين الروس، وتفريغ المشهد من أي قوى مخالفة في الرأي أو في التوجهات، لم يتركا لكارهي بوتين سوى اللجوء إلى الشعوذة. وهكذا سنتذكر قصة معارضٍ قرّر أن يعمل على التخلص من "الشيطان بوتين"، فكان أن اعتقلته السلطات المحلية بتهمة الشعوذة، ثم مضت به إلى إحدى المصحّات العقلية!
وعلى مسافة غير بعيدة من المشهد الروسي، سيجيب بشار الأسد مؤيديه بطريقة السحر والشعوذة بشأن الأزمة الاقتصادية الكارثية التي يعيشها السوريون، وكأنه مواطنٌ مثله مثلهم، لا يعرف أي شيء، سوى ما تقوله له الأجهزة الأمنية، وبأسلوب يكشف المسافة النفسية التي وضعها بينه وبين مواطنيه: الأزمة لها سبب "ما حدا بيحكي فيه هو المصاري اللي راحت في البنوك اللبنانية واللي حدّها الأدنى (بيقولوا) ما بين 20 مليارا وحدها الأعلى 42 مليار دولار. ولا نعرف الرقم الحقيقي"!.
ذات يوم، نبه العالم الأميركي الراحل، كارل ساغان، إلى خطورة ابتعاد المجتمع عن العلم، فقال: "نحن نعيش في مجتمعٍ يعتمد تماماً في حياته على العلم والتقنية، إلا أنَّه تمكن بطريقةٍ مدهشةٍ من إخراج الأمر، بحيث إنَّ أحداً من أفراده لا يفهم شيئاً عن العلم أو التقنية. هذه وصفة واضحةٌ لكارثة".
ولكن كيف سنحدّث، نحن الذين نعيش الآن وسط الكارثة، ساغان الذي غادرنا منذ زمن طويل، عن مصائبنا التي تفتتح يومياً بأخبار الأوبئة والكوارث الطبيعية، ويستكملها فوق رؤوسنا زعماء لا يمكن أن تفرّق بينهم وبين المشعوذين والبلطجية والرعاع؟