بريد السماء الافتراضي.. حوار مع الشاعر السوري ممدوح عدوان
أسعد الجبوري
2020-02-01
من المؤكد أن الاتصال معه لم يكن صعباً. فما أن دخلنا إلى مناطق حقول التبغ بعد البوابة الخامسة من السماء، حتى عثرنا على جهاز إلكتروني يتوسط ساحة "زنود الست"، حيث يُعد ذلك الجهاز بمثابة سجل ضخم لأسماء الموتى الجدد القادمين من الأرض.
وبمجرد أن كتبنا اسم الشاعر السوري، ممدوح عدوان، بطريقة اللمس على شاشته الضخمة، حتى أطل علينا الشاعر نفسه. فشق الشاشة وظهر ليكون بيننا والضحكةُ تتموج بين شفتيه، من دون أن يتخلى عن سيجارة ماركة - حمرا طويلة - التي كانت مشتعلة بين أصابعه الملوثة بالحبر. سألناه قبل أن يأخذنا إلى حانة "الشيطلائكة" عن ذلك الحبر مستفسرين.
(*) هل كنت تكتب شيئاً؟
وهل تعتقد بأن الموتَ يحررُ الكاتب من التأليف؟ لا تعتقد ذلك. فها أنا أعمل هنا على ترجمة مسرحية "كيف وقع الشيطان في حضن مومس؟".
(*) ولكن لا يبدو على وجهك الإرهاق بعد رحلة الموت يا ممدوح!
ربما لأن الإقامة في العالم الميتافيزيقي أفضل من منازل الأرض.
(*) هل تؤمن بمثل تلك النظريات الماورائية، فيما كنتَ مضادّاً للإيمان بطريقة ما؟
الشعراءُ نسخٌ ضالّة عن الفلاسفة ممن اختبروا جيناتهم المعرفية وأفلسوا في نهاية كل معركة. إلا أن الشعر حركةٌ في الوجود الفارغ، وصولاً إلى عتبات الآلهة ممن أقفلوا على صورهم الأبواب مختفين في المواضع المجهولة.
(*) ولمَ يقفلون عليهم تلك الأبواب كما قلت؟
منعاً لانتشار الضجيج.
(*) الضجيج، أم الهرطقة؟
الاثنان مثل بعضهما في أحايين كثيرة. فأن تصبح هرطوقياً، عليك باستعمال الكثير من الضجيج كي تربح ولو جولة واحدة من معارك مصارع الثيران مع خصومك التقليديين في مجال الفكر والفلسفة.
(*) لمَ تعتقدُ بأن الهرطقةَ هي نوع من الشامبو، أو الصابون، للاغتسال؟!
لأن الفلاسفة - كما اكتشفتهم - بعد الموت هنا، كانوا رؤوساً بحاجة للتدوير والاغتسال والتنظيف مما علقت بها من مصائب نظريات الأيديولوجيين وفلاسفة أسواق الشعوب.
(*) وأنت. هل كنت مسانداً للوجود ضد العدم في حياتك الأرضية؟
كنت أضحك فقط.
(*) تقصدُ إنك كنتَ تشربُ أنخابكَ مع المتنفذين والبؤساء على حدّ سواء. فتارةً تكتبُ عن جراح الجماهير المفتوحة قهراً. وتارةً تضحكُ عابثاً، كمن يبرع بصناعة الأقنعة التي تليق بمزدوجي الهويات؟
ليس بتلك الطريقة الفخمة التي تحدثت عنها، ولكنني، في كل الأحوال، كنتُ أجترح الموقف الذي يليق بي تعايشاً مع كائنات ذلك الوجود الترابي الأول. أقصد أنني كنت متضامناً مع البشر ضد السلطة.
(*) هل تعلمت الاندماج بالسياسة من خلال وجودك الأولي في قرية "قيرون"، حيث ولدتَ في منطقة مصياف السورية؟
بالضبط. وربما رضعت السياسة مع حليب من ماركة أخرى غير "نيدو". فقرية (قيرون)
"الشعراءُ نسخٌ ضالّة عن الفلاسفة ممن اختبروا جيناتهم المعرفية وأفلسوا في نهاية كل معركة"
التي تنازع رجالها على صناعة اسمي ما بين مدحت وممدوح، وما فرّق بين الاثنين في ما بعد، لأكون في نهاية المطاف حاملاً لاسم ممدوح عدوان، سرعان ما هجرتها برغبة عارمة، لأكون مختصاً بنفسي، وبعيداً عن التأثيرات العائلية والمناطقية القروية.
(*) ما الذي يكسبهُ الشاعرُ من الأبعاد الجغرافية لوجوده الفيزيولوجي على الأرض؟
في أحايين كثيرة، يندمجُ الجغرافي بالفيزيولوجي لنشوء منطقة ثالثة ما بين الضفتين، مما يفوضها لرفض حمل سمات مولداتها الأولوية.
(*) تريد القول بأنك متمرد على منابعكَ الأولى يا ممدوح.
المنابع التي لا تتجدد فيكَ تستحق الإهمال. أي أن تعطيها ظهرك وتمضي بعيداً عنها مثل عاشق يتحكم بشطب نفسه من تاريخ امرأة خانتهُ.
(*) هل أخذكَ التمرد الذي لُصق بتاريخك الشعري إلى الحرائق يا ممدوح؟
وليكن. كنت أحب الاقتراب من حافة الجحيم. فما كان يهمني هو الاكتشاف، هي المعرفة، هو فعل تحطيم الشرنقة، لا التأقلم والتقوقع والاستسلام للقدر الذي فرضته علينا أمنا الطبيعة وأمراضُها المتعددة المختلفة الصامتة منها والصارخة.
(*) أنت وضعتَ قصائدكَ في بوتقة السياسة ونيرانها متفاوتة الحرارة. فهل توصلتَ إلى نتيجة تليقُ بشاعر ينغمس بالأيدولوجيات ولا يصبح تابعاً سياسياً لها؟
كنت أحاول تطهير السياسي بالشعر.
(*) ولكن الظاهر أن السياسي قضى على الشعري عندك، فكانت قصائدك إيقاعات للغة لا تستطيع الطيران أبعد من أنف الواقعي، بعدما اختارت التموضع في التثوير والصراخ والنَدب والعويل. ما رأيك بالنضال الصوتي؟
نحن نكتب عن واقع الناس، وليس في حسابنا إلا الاقتصاد بالخيال، وتلافي التعامل مع مختلف المدارس الشعرية غير الممانعة لهيمنة الوعي الواقعي على الخيالي الفني، أي عدم الانصياع لمخلوقات المخيّلة بالضبط.
(*) وهل تعتقد أن من مولّدات الشعر تكمنُ بتجاهل المخيّلة؟
أنا لا أذهب هذا المذهب. إلا أنني لا أحبذ استفحال الخيال على القصائد بتلك الطرق التي ينتهجها الحداثويون والسورياليون والرمزيون والجماعات التي تنتهك العمود الشعري والشعر الحر.
(*) هل تعتقد بأن المقر المركزي للشعر الجماهيري، يقع في منظومة الفراهيدي وحده؟
لا أظن ذلك. فأغلب شعراء السياسة من أصحاب الثياب المحافظة، إلا أنهم في ساعات الجَدّ
"كنت أحب الاقتراب من حافة الجحيم. فما كان يهمني هو الاكتشاف، هي المعرفة، هو فعل تحطيم الشرنقة، لا التأقلم والتقوقع والاستسلام للقدر الذي فرضته علينا أمنا الطبيعة وأمراضُها المتعددة المختلفة الصامتة منها والصارخة"
يستطيعون النزول إلى البحر بملابس السباحة، خاصة إلا كانت أحواض السباحة مشتركة مع النساء. الغرام قنبلة فاعلة.
(*) هل ممدوح عدوان من أولئك المترددين؟
لم أمتنع عن ارتداء ملابس السباحة في ما مضى، ولكنني قد أعترض على فعل الخوض في غمار الموجات العالية للحداثة الشعرية، مثلما كنت أفعل ذلك في حياتي السابقة.
(*) لقد كنت والشاعرين علي الجندي، وعلي كنعان، شمعدان البعث الثلاثي، في زمن ميشيل عفلق، ولكنكم بعد الحركة التصحيحية التي قادها الرئيس حافظ الأسد سرعان ما حطمتم ذلك الشمعدان، ليذهب كل منكم في اتجاه. هل كان بعث الرفيق العسكري (صلاح جديد) هو نقطة تحول في مسار حزب البعث العربي الاشتراكي؟
هكذا كان الاعتقاد. فخيمة عفلق لم توفر للحزبيين لا الدفء، ولا الحماية من المطر، أو من العواصف. بينما فتح لنا صلاح جديد النفق المظلم، ليدفع بنا إلى غرف التحقيق والمنافي والمعتقلات، فكان بعث التشتت ونمو الرفاق كنباتات الصبار في أقبية السجون بحق.
(*) هل تريد أن تخبرنا إنه بذلك بدأت الهجرة البعثية السورية نحو تنظيم بعث العراق المُصفى من العفلقية - الأسدية تحت رعاية الرفيق صدام حسين؟!
لقد أدخلتنا تلك المحاور إلى الشتات والضياع واليأس. فإذا كان بعث عفلق خيمة لا تحمي من برد، ولا تمنح الدفء، فبعث صدام كان قمقماً للحبس، بعد أن قصّ الأرجل وسلخ من الأجساد الأجنحة. وجعل أنشودة الإعدام أفضل أغاني أعضاء الفرق الحزبية للملايين من الرفاق.
(*) ولكنك لم تخشَ شيئاً. فقد كنت تسرح وتمرح، فيما كان فمك يطلقُ النكات الساخرة والقهقهات التي سجلتها كماركة خاصة باسمك، مع احتفاظك بصداقات نجوم من ضباط النظام السوري وقياداته.
لا أنكر ذلك أبداً. وإلا فهل من المعقول أن تقاطع الشعب السوري كله بسبب انتمائه لحزب البعث؟!!
أعرف كيف كنت أتصرف على مختلف المحاور بشكل جيد. مثلما يعرف رجالُ الأمن
"كنت حكيماً بالخيانات العاطفية فقط"
والمخابرات بأنني أفضل كأس العرق على المنطلقات النظرية لحزب البعث السوري والعراقي والياباني والروسي أيضاً!!
وهكذا كانوا يستعملون معي قرص الأذن، ويلّوحون بالعصا الغليظة من على بعد.
(*) وكنت تتأدب وتخاف.
لو طرحت هذا السؤال على الشاعر علي الجندي لكنت قد وفقت بالحصول على إجابة ساحرة. فعلي إمام متخصص بـ"التنكيت" الأسود والدعابات الشبيهة بشظايا القنابل العنقودية، ونادراً ما أتفوق عليه بشي نكتة سودا.
(*) لقد عشتما على صفيح سوري ساخن. أليس كذلك؟
أجل. وكانت أجهزة المخابرات مستنفرّة خلفنا، مثل سيارات إسعافٍ تحت طلب الاستجابة لإغاثة المرضى وإنقاذهم من الموت!!
(*) لإغاثة الخونة، أم المرضى بالضبط؟
لا أخفيك سراً، فأنا كنت حكيماً بالخيانات العاطفية فقط.
(*) هل يعتقد ممدوح عدوان أن خيانة الشاعر في الحب هو أمرٌ شبه محسوم لشاعر صوتي من طرازك، ويثيرُ غرائز الجمهور بالكلمات النحاسية الرنانة، فيثير التصفيق والصراخ والاستجابات العمياء للشعر العمودي، أو الحر بتنوعاته؟
نعم. فليس للخيانة العاطفية آثار انفجار مفاعل تشرنوبل. ولكنهنّ مساهمات حصرياً في نشوء
"يعرف رجالُ المخابرات بأنني أفضل كأس العرق على المنطلقات النظرية لحزب البعث السوري والعراقي والياباني والروسي أيضاً!!"
تلك الخيانات. لماذا يدفعنَ بأزواجهنَ إلى ارتكابات من ذلك النوع؟
(*) هل خنت زوجتك إلهام؟
كثيراً. وأنا آسف لما أبقيت لها من متاعب جمة. خاصة أنني أورثتها مرض السرطان، ليخطفها من على الأرض، لتلحق بي في دار الآخرة، ونتساوى بالداء العضال الذي افترسني نفسه.
(*) هل ستعتذر من زوجك إلهام في ما لو التقيت بها في شوارع السموات، أو في منزل من منازلها على سبيل المثال؟
لا أفضل ذلك. أريد من الله أن يحشرني كرجل أعزب في مجرى نهر من أنهار الخمر. فذلك يكفي كما أظن وأرى.
(*) وحور العين يا ممدوح!!
لا أظن إنني سأحظى بواحدة منهنّ. والمرء في كل الأحوال قد يتمنى أن يحصل على كعب حذاء جميلة من نساء السموات في الجنة. أما بالنسبة لي، فأفتقر للفيزا من كبار شيوخ الطوائف، وليس معي دمغة، أو ختم المفتي الكبير.
(*) ما العلاقة ما بين الشعر والخمر؟
كعلاقة الوزن بالقافية. كلاهما يكملُ دور الآخر في صناعة العمود الفراهيدي.
(*) والفوضى التي يفعلها الكحولُ في الخرائط البيولوجية للجسد.
إنها ليست سوى عمل من أعمال الفلاحة في اللحم. فبقدر ما يتسربُ الكحول إلى الجسد، بقدر ما ينتج وتكثرُ المحاصيل.
(*) أنت وضعت حياتك في كأس، ورحت تطوف من حوله. أليس كذلك؟
كان ذلك صحيحاً. فأنا لا أرى في الخمر إلا مطهراً للأنفس من الشوائب. هذا بالإضافة إلى أنه كان محفزاً للإيمان بالأديان الشعرية التي مرت على تلك الأرض.
وأما بالنسبة للطواف من حول الكأس، فذلك لأنني كنتُ أحاول ايقاظ أحلامنا النائمة، أو تلك
"سعالُ الشاعر أهم فقرة من قواعد اللغة، لأنه من يُشكل حركات الإعراب النفسي للذات الشعرية"
التي دخلت الغيبوبة، وكان الرجاء بأن تستجيب وتخرج من موتها السريري.
(*) هل تعتبرُ الشعرَ من المحاصيل يا ممدوح؟
بالتأكيد. ولا أعتقد أن محصولاً يضاهيه باللذّة والفوائد النفسية.
(*) تعني بأنكَ لا تعارض فكرة أن الشعر فيتامين الحياة السيكولوجية.
إنه بالاتحاد مع التبغ، كان وسيبقى الفيتامين الأقوى تأثيراُ في الأنفس بمختلف حواسّها، على الرغم من أنف السيد سيغموند فرويد، والعلماء الذين ينظرون عن مضار التدخين.
(*) هل تعتقد بأن اتحاداً ما بين التبغ والكحول هو ما يصنع القصيدة؟
لا تترك الحصان خلف العربة، وتنسَ النساء. فما يُكمل العنصرين هو اللذة الجنسية التي هي العمود الفقري للشعر.
(*) كأنك تتكلم عن سرير في غرفة بلمبة حمراء، وليس عن قصيدة تابعة للغة بكلمات وقواعد وجيوش من التشكيلات البصرية في البلاغة والمجاز وبقية مخلوقات المعاجم والقواميس!!
ربما كلّ ذلك لا قيمة له بغياب الشهوة اللغوية. فسعالُ الشاعر أهم فقرة من قواعد اللغة، لأنه من يُشكل حركات الإعراب النفسي للذات الشعرية، من دون وصاية من هذا القاموس، أو تلك الأحكام الصارمة التي تحاول تدمير حرية الروح الشعرية، ووضعها في معلبات.
(*) ولكنك شعرياً لم تبلغ مقامات الطيران فوق قواعد العروض ووحدة البيت، فكنت أسير ظلال الأسلاف، ولم تخرج عنها إلا في استثناءات نادرة تحت ما يُسمى بالانبعاث من أحضان الجماهير، والالتزام بهوية الجياع المظلومين والمعدمين.
ربما لأنني كنت أفضل الحبو السياسي على الطيران الشعري إلى ما وراء المرتفعات الخيالية. ولكن صوتي، في كل الأحوال، بقي في مهمات المناجاة الواقعية لمختلف الحوادث التي مرت على بلادي السورية، وبلدان العرب، وفي مقدمتها قضية فلسطين.
(*) كنت متشعب التوجهات والاتجاهات: من الشعر إلى المسرح إلى الترجمة والرواية والمسلسلات التلفزيونية. أي صنف أدبي كان يسحر ممدوح؟
ترجمة الكتب. فقد كنت كمن ينقل عن نفسهِ، ويترجمُ ما يرى فيها من مخلوقات وعجائب وأسرار وفضائح وحروب.
(*) ماذا عن الممثلة السورية المفضلة التي حاولت فرضها في مسلسل "الزير سالم"، ورفضها المخرج حاتم علي؟
إذا كنت تعرفها أنت، فاذكر اسمها؟
(*) وتخشى من ذكر اسمها حتى وأنت من سكان السموات!
أجل. وذلك لأنني فوق، بينما تلك الفنانة المعشوقة ما تزال على قيد الحياة.
(*) هل أخذت كل سجلات أيامك وذكرياتك معك إلى المدافن للتسلية تحت التراب قبيل الطيران إلى الأعلى، خوفاً من أن تقع في قبضة الأجهزة السريّة التي طالما تحدثت عن تتبعها لآثارك؟!
النومُ في الموت المثقف أفضل من التحدث عن ثقافة الموت في العالم العربي. لذلك سأمتطي دابة "رونيما" وأذهب إلى الفندق المطل على وادي جهنم. فسريري ينتظرني هناك لأستريح.