ــ هل ترسم يا راسم؟ ــ لا. أحب الرسم فقط. ـ أهلك سوف يزعلون منك، فقد سمّوك راسم كي ترسم، لا كي تحب الرسم فقط. ــ طيب.. يمكنك أن تعتبريني اسماً على غير مسمّى. هل ترسمين أنت؟ ــ أنا راسمة على شيء (عازمة على فعلٍ ما). قالت ذلك ضاحكة بعد أن انفردت به، وعاودت الترحيب به: ـ أهلا بالأستاذ راسم. نحن بلديات، إذاً. هذا ما قالته ميسون مزهوة، بأسنان لامعة رغم التدخين، وبعينين مشعشعتين رغم الانكسارات، وهي ترمق قميصه السماوي، فيما هز راسم رأسه بشعره نصف الأشيب مبتسماً، وهو يردد: الجلمة والسنديانة، لم أتوقع أن أصادف أحدا من جلمة حيفا. لكني أقيم في حيفا، ولدت ونشأت فيها. تستطيعين القول إني حيفاوي. ـ انا لم أر الجلمة ولا السنديانة. ـ لم يعد من الممكن رؤيتهما. الجلمة أنقاض بيوت، وقد أقاموا معسكراً للجيش فيها. أما السنديانة فعليها مستوطنة. ــ الجلمة تبقى جلمة فهي ليست مجرد بيوت وشوارع. وكذلك السنديانة. أنا رأيت المخيم البائس والسعيد بروابط أهله. وحتى هذه السعادة لم تعد موجودة. هذه زيارتك الأولى إلى عمّان؟ ـ الأولى؟ جئت هنا 13 أو 14 مرة. أنا مدمن على زيارتها، إدمان صحي. أستغل كل إجازة من عملي لتمضيتها هنا. والأهل والأصدقاء والمعارف في البلاد نصّبوني دليلاً سياحياً لهم حين يزورون عمّان، أو يهمّون بزيارتها. أي الفنادق أفضل، أين يتناولون المنسف، أي الجامعات أفضل لأبنائهم. أين يأكلون أطيب كنافة. أين يجدون أفضل عباءات رجالية. أين يعثرون على أحسن جميد. أين يمكن أن يجدوا أقاربهم. كيف يمكنهم شراء شقة صغيرة فيها؟. ـ أنا المقيمة الدائمة في عمّان لا أعرف الإجابة على بعض هذه الاستفسارات. كان الله في عونك. تأتي دائما لوحدك؟. ــ أجيء أحيانا برفقة صديق أو رفيق سفر. فأنا أرمل منذ أربع سنوات. أتت معي المرحومة زوجتي مرتين، لها من الأقارب قريبة واحدة ذهبت إلى زيارتها، ووجدتُ العنوان بصحبتها بصعوبة في جبل الزهور، ولم تشعر برابطة القرابة. ثم جاءت معي مرة ثانية ومات خالها في البلاد في أثناء الزيارة، ثم أخذت تفضّل حين أسافر، أن تذهب هي إلى أهلها في الناصرة بدلاً من المجيء معي. ــ رحمها الله ـ عندك أولاد؟ ــ عندي بنت متزوجة، وشاب عازف وممثل لا يكفّْ عن السهر والسفر. ألم تذهبي إلى حيفا؟ ــ أقاربي ذهبوا: خالي وأولاده وعمتي وأولادها. أنا ذهبت إلى الضفة مرتين. لم أذهب إلى الـ48 *. تؤلمني فكرة الذهاب إليها. لا أريد الحصول على فيزا منهم. كانا قد تعارفا في إحدى أماسي الصيف، في المركز الثقافي الملكي وسط عمّان، مع أصدقاء مشتركين على هامش افتتاح معرض مشترك للرسم. في الليلة نفسها سارعتْ إلى إضافته على قائمة الفيسبوك، وسارع لقبول صداقتها وتصفح صفحتها، وكانت هي قد تفرجت مرات على صوره. وفي تلك الليلة الصيفية لم تنم ميسون. لقد عرفت ما تريد، مما يوجب عليها اليقظة والاستعداد!: إنها تريد الذهاب إلى حيفا، وتريد وهي المنفصلة منذ سنوات وبلا أبناء ـ تريد راسم. صديقاتها اللاتي وصفنها بأنها مجنونة، عليهن الاطمئنان لصحة هذا الوصف. الوصف صحيح. لقد سئمت عبودية العقل، وميسون الشابة السمراء التي تبحر بثقة في أربعينات العمر ببنطلونات الجينز وبخطى متعجلة وبصوت رنّان، علِقت من قبل بالسياسة وبالأحزاب والفصائل، وخسرت وظيفة ثم تخلى عنها زوجها، ولم تعد تؤمن كما كتبت مرة على صفحتها "إلا بالبشر والحجارة والخبز والماء والرسم.. أما الهذر المصفوف والمُفخّم فهو مثل زبد البحر". ونام راسم تلك الليلة نومه الطويل، شاكراً في طويّته لميسون مبادرتها في الصداقة وهو ما كان يتحرج المبادرة إليه بعض الحرج. وإلى هذا فثمة مشاعر غريبة تنتابه، فحين يحل في عمّان يشعر أنها مدينته وسبق له الإقامة فيها، لكنه لا يلبث بعد أيام أن يشدّه الحنين إلى حيفا، وبرجوعه إليها يلوم نفسه لأنه تعجّل الإياب. فيما تحنّ ميسون إلى مخيم البقعة، حيث ولدتْ ونشأتْ (ولم تترعرع!)، من دون أن تحب العودة القهقرى إليه أو الإقامة فيه. تحِنّ فحسب إلى الطفولة المُبدّدة إلى الجيران الأقربين إلى الأحلام الأولى إلى مدرسة الفقر السعيد والشيطنات المبكرة، لا إلى المكان العشوائي، والتعيس، الذي يتزاحم الناس فيه وقوفاً على مياه الغسيل المدلوقة على الأزقة، أو على أحشاء عجل ذبيح يقطُر دماً. حتى أنها لا تزور المخيم إلا مضطرة بعد أن هجرته إلى العاصمة، وسرعان ما فتحت قلبها لراسم عبر الفضاء الأزرق.. وتجاذبا دبيب العواطف ما إن عاد إلى مدينته يومين على لقائهما. ولم تلبث أن أخذت تداعبه بعبارات مثل "تعال. أنتظرك. تعال". بهذا كانت تختتم محادثاتهما كل ليلة تقريبا. وراسم يتشوق للمجيء لكن لديه ما يشغله. فما زال يتعاون مع مكتب محاماة، وينشط في جمعية للمساواة. وميسون تقول: لو بِيدي المجيء لجئت مثل الطير الطاير في عطلة كل أسبوع. تعال أنت يا بلدياتي سوف تجد ما يسرّك. وجدتُ لك فندقا ممتازا. قريبا جدا عرض مُغرٍ للتخييم في وادي رم.. اغتنموا الفرصة. وجدت مطعماً لأكلة المسخّن على طريقة الجدّات ومطعما آخر يقدّم الشيش برك على طريقة العمّات والخالات.... ومرة سألته: ألن تحضر أسبوع الفيلم الفيتنامي؟ ولم يكن هناك من أسبوع لهذا المصنف. وفي مرة سألته: لماذا لا نفكر أنا وأنت بالزواج.. شو ورانا؟. ولم يقل لها إن لديه صديقة عزيزة جداً في البلاد (من دون التصريح عن الصديقة الثانية شبه السرّية: اليهودية "التقدمية"). واكتفى بالقول إن اهله هم الذين زوّجوه حين تزوج، وأنه لا يصلح للزواج. ليش من غير شر؟ سألته فأجابها: جينات.. بالوراثة!.. وعلّقت: والله إنك محامٍ.. تأخذ الواحد إلى البحر وتعيده عطشاناً.
(2) لا يقصد راسم بحر حيفا كثيرا. يفعل ذلك في المناسبات. جذوره الريفية الجبلية تجعله يألف الينابيع والسواقي، ويتوجس بعض الشيء من البحر. وعلى العموم فإنه يؤثر.. اليابسة، والانغماس في بحر حياة الناس والأصوات والروائح البشرية.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...