أسبابٌ غزيرةٌ تصنع أهميةً كبرى للصخب الواسع الذي احتدّ، أخيرا، في العربية السعودية، بعد نشر شابّةٍ سعوديةٍ محجّبةٍ اسمها أصايل، منتصف الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، أغنية راب على "يوتيوب" اسمُها "بنت من مكّة"، وفاقت مشاهداتها المائة الألف في أسبوع. ولا ترجع هذه الأهمية فقط إلى انقسامٍ ظاهرٍ بين ساخطين ضد الأغنية ومدافعين عن حق الشابّة، والفتية والفتيات الصغار معها، في تأديتها، ولا لأن أمير منطقة مكّة المكرمة، خالد الفيصل، أمر بالتحقيق مع هؤلاء، واعتقال منتجي الأغنية التي اعتبرها إهانةً لعادات أهل مكّة وتقاليدها، الأمر الذي دانته الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، ورأته سلوكا "يفضح سياسة الكيل بمكيالين". وإنما الأهمية المؤشّر إليها في أنه صار للزمن السعودي الراهن إيقاعه الآخر، المضادّ لما أقامت عليه المملكة طويلا، الأمر الذي يعود إلى النفوذ الثقيل الذي تحقّق لمنصّات التواصل الاجتماعي وللإعلام الرقمي، ما أتاح ابتداءً قوة الإحساس بالفردانية والثقة بالذات لدى المواطن السعودي، عندما يجد لنفسِه مساحاتٍ مفتوحةً، وحرّةً إلى حد كبير، للتعبير عن نفسه، وللأخذ والرد. وفي هذا السياق، لم يعد في وسع السلطة الحاكمة، والنافذة، أن تكون الوحيدة في الفضاء الإعلامي العام، وأن يكون خطابُها وحده الحاضر دون سواه. وقيمة هذا الاعتبار هنا في أنه يتعلق بالسعودية التي غلب فيها نمطٌ خاصٌ من الاحتباس الخانق في قنوات التعبير عن الرأي، وظلّ يتفوق على ما في دول الجوار الخليجي، وعلى العموم العربي. طيّبٌ هذا الخلاف في وسومات وهاشتاغات كثيرة، اعتبر واحدها أن "بنت من مكّة" تُمثّل المشاركين فيه، فيما جهر آخر بأنها لا تمثل أيا ممن فيه. وطيّبٌ أن مثقفين وكتّابا سعوديين أشهروا امتعاضا محقّا من تعبيراتٍ عنصريةٍ مقيتةٍ ذاعت بشأن الشابة التي أدّت الأغنية، لسُمرة بشرتها. وطيّبٌ أيضا أن كاتبا سعوديا دعا إلى ترك الجميع "يتنفسّون"، سيما وأن الأغنية لم تتضمن أي سوء. وحسنا فعل المعلقون الذين كتبوا إن جيل الإنترنت في السعودية لا يقبل الوصاية، وله أساليبه الخاصة في التعبير عن ذاته. وغريبٌ أن يصل الغضب من الشابة أصايل إلى مطالبة بعضهم بتطبيق عقوبة السجن خمس سنوات والغرامة الباهظة عليها، بدعوى "جرأة إجرامية" اقترفتْها، فيما الأغنية تعتز بمكّة وبناتها اللواتي يتحلين بالعلم والجمال والكرم. وكان في الوسع أن تُنعت الأغنية بالضعف والخفّة وبأنها غير جميلة، من دون أن تُرمى بالابتذال، وبأنها معيبة وتشجع على الانحلال، فليس في رقصات بسيطةٍ لأولاد صغار ما يذهب في هذا الاتجاه. ويحسُن أن يتذكّر الجميع أن مغنية الراب الأميركية، نيكي مناج، دُعيت للغناء في جدّة، وكانت حفلتها مقرّرة في يوليو/ تموز الماضي، قبل أن تلغيها المغنية نفسها، تضامناً مع "حقوق المرأة والمثليين وحرية التعبير"، على ما قالت. وفي البال أيضا أن هناك فرقة راب اسمُها "عيال مكّة"، وأن أغنية راب ذاعت اسمها "مكّة حقنا"، واستضافت قنواتٌ تلفزيونيةٌ سعوديةٌ مغنيها. وكان الكاتب السعودي، علي فقندس، قد نشر في مقالة في مجلة الفيصل السعودية، أسماء 15 مغنية (سمّت إحداهن نفسها كاكا) كن في مكة المكرمة وحدها في الستينيات والسبعينات، وأن المدينة ذات المكانة المقدسة عرفت ظاهرة الأسر والعوائل الفنية. ومعلومٌ أن العربية السعودية تعبُر، في انعطافتها الراهنة، بدفعٍ معلومٍ من ولي العهد محمد بن سلمان، إلى إيقاعٍ انفتاحي يأخذ بأسباب الترفيه، ويتعامل بأريحيةٍ مع الموسيقى والغناء، وهذا محمودٌ في كل الأحوال. ولمّا كان أمرُها هو هذا، مع عدم إغفال الاعتقالات النشطة لدعاة ونساءٍ إصلاحياتٍ وعلماء وناشطين ومدوّنين، فإن تأدية شابّةٍ أغنيةَ راب، في مكّة كما في غيرها من مدن المملكة، وتصويرها الأغنية في مقهى، وبثّها في فضاء الإنترنت الفسيح، لا تصبح أمرا مفاجئا. وأيا كان الرأي في "بنت من مكّة"، كما أدّتها أصايل، المحجّبة، فإن الأخذ والرد الواسعيْن اللذيْن استقبلت بهما، مفيدان وكاشفان ..، وضروريان مؤقتا ربما.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...