سؤالٌ يشعّ خيالا، رماه محمود درويش في مقالةٍ له قديمة، ضمّها كتابُه النثري "يوميات الحزن العادي" (1973): ماذا كان الهنود الحمر سيقولون لو هَزموا غُزاتَهم؟ تحتاج الإجابة طاقةً باهظةً من الخيال، أنّى تكونُ لصاحب هذه الكلمات، وإنْ في الوسع أن يُقال إن تلك الهزيمة لو وقعت، قبل أزيد من خمسة قرون، فإن التماثيل العديدة لقائد أولئك الغزاة، البحّار الإيطالي، كريستوفر كولومبوس (55 عاما)، ما كانت لترتفع في غير مدينةٍ في الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية وأوروبا. وبداهةً، ما كان سيحدُث، قبل أيام، إسقاط اثنين منها، وحرقهما ورميهما في النهر، في ولايتي مينيسوتا وفرجينيا، وتحطيم رأس آخر في بوسطن، وتخريب رابع وخامس في ماساشوسيتس وميامي. ولما تجدّدت في برشلونة مطالباتٌ بإزالة تمثاله المبنيّ منذ القرن الثامن عشر. ولما أوتي، في هذه الغضون، على نجاحهم قبل سنوات، في كاراكاس وبيونس إيريس، في إزالة تمثاليْن لأمير البحر، الذي ارتحل إلى الهند مستكشفا، ثم انحرفت سفنه إلى الغرب، لتُحدِث قدماه، لمّا وطئتا يابسة "العالم الجديد"، المنعطف إياه في التاريخ والجغرافيا. هناك صنعَ، والغزاةُ الذين معه، القادمون بتفويضٍ من ملك إسبانيا وزوجته، "أوسع إبادةٍ في تاريخ الجنس البشري"، على ما كتب تودوروف في كتابه التحفة، "فتح أميركا ..."، (1992). لو هزم الهنود الحمر غُزاتَهم، لما كتب محمود درويش قصيدته "خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض" (1992)، وبلغ فيها منزلةً عاليةً في عمارته الشعرية. تمثّل فيها الزعيم الهندي الأحمر، سياتل، الذي نُسبت إليه خطبةٌ (هناك من يشكّك)، فصار يقول ما يقوله درويش في القصيدة. وكأن ذلك السؤال صار عمّا قاله الهنود الحمر لمّا صارت هزيمتهم، فالغازي محا أثر المغزوّ المهزوم، كيف لا، وحملة كولومبوس أبادت ما بين 60 و70 مليونا من السكان الأصليين ما بين ألاسكا وأطراف القارّة اللاتينية الجنوبية، على ما كتب باحثون، أحدهم البوليفي، فيكتور كارديناس، الذي أفاد بأن إبادة معظم هؤلاء تمّت بمختلف وسائل القمع والاضطهاد والوحشية التي لم تعرف لها البشرية مثيلا من قبل. يقول الهندي الأحمر في خطبته قبل الأخيرة (أين الأخيرة؟)، كما أنطقه محمود درويش، " .. وكولومبوس الحرّ يبحثُ عن لغةٍ لم يجدْها هنا/ وعن ذهبٍ في جماجم أجدادِنا الطيبين/ وكان له ما يريد من الحي والميت فينا/ إذاً لماذا يواصل حرب الإبادة من قبره للنهاية"؟ كأن هذا السؤال يهجس به ناشطون في حركة "حياة السود مهمة"، وهم يبادرون في الولايات المتحدة، بعد قتل جورج فلويد، إلى إزالة تماثيل رموز العنصرية والرقّ والعبودية، وفي مقدمتهم كولومبوس الذي "كأنه لا يصدّق أن البشر سواسيةٌ كالهواء وكالماء خارج مملكة الخارطة"، بحسب قصيدة درويش التي قال الهندي الأحمر فيها إن من حق "كولومبوس الحرّ أن يجد الهند في أي بحرٍ/ ومن حقّه أن يسمّي أشباحَنا فلفلا أو هنودا/ وفي وسعه أن يكسّر بوصلة البحر كي تستقيم وأخطاء ريح الشمال..". وهنا، في الوسع أن يوازي واحدُنا سؤال "يوميات الحزن العادي" بآخر عمّ كان الهنود الحمر سيقولون لو أنهم نجوا، إذا راحت أشرعة كولومبوس وراياتُه إلى الشرق، كما نيّتها أصلا، إلى الهند، ولم تنعطف غربا. ورايات كولومبوس في عُرف شاعرِنا لا تخصّ مسـألة الهند شرقا والهنود الحمر غربا فحسب، فسلالاتٌ لها تمدّدت. إنه يسأل في قصيدةٍ أخرى، في "أحد عشر كوكبا" أيضا: "كن لجيتاري وترا أيها الماء/ قد وصل الفاتحون/ ../ ../ أعرف من كنتُ أمس/ فماذا أكون في غدٍ تحت رايات كولومبوس الأطلسية"؟ كتب محمود درويش في "أثر الفراشة" (2008) "من حقّ الضحية أن تدافع عن حقّها في الصراخ". والذين يحطّمون تماثيل كولومبوس حاليا، في أميركا وغيرها، إنما يحاولون إنصاف ضحايا التاريخ، في منحهم حقّ الصراخ، ولو قدّام تمثال مستعمرٍ مقيمٍ في بطن التاريخ الأميركي الرسمي بطلا، يعنينا نحن بشأنه أيضا أنه، إلى تعصّبه الكاثوليكي، كان يحلم بالوصول إلى القدس التي يحتلها ورثةٌ له. وهنا، من نافذة المجاز طبعا، لقائلٍ أن يقول إن فلسطينيا، مع الزعيم الهندي الأحمر، كان يقول في قصيدة درويش: "خذوا أرض أمي بالسيف/ لكنني لن أوقّع باسمي معاهدة الصلح بين القتيل وقاتله/ لن أوقّع باسمي على بيع شبرٍ من الشوك حول حقول الذرة .."
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...