تأملات في هشاشة العالم التي "لا تُحتمل"
سوسن جميل حسن
2020-03-21
ليس فيروس كورونا المستجد التهديد الأول الذي كان من الجدير بالبشرية أن تأخذ العبر منه، ولن يكون الأخير، فهل سيغير العالمَ هذا المتطفل على الحياة بجبروته الرهيب؟ أم ستبقى البشرية تعيد نفسها ضاربةً عرض الحائط بكل ما يهدّد هشاشتها التي لا تحتمل؟ الدرس الأول الذي رماه الفيروس في وجه العالم أن الكل متساوون. هنا فقط تطبق العدالة في التوزيع، فكل فرد في هذا الكوكب ينتمي إلى فصيلة الإنسان هو هدف لغزو هذا الجبار، ولا يملك الفرد في مواجهته غير الوقاية منه، الوقاية التي تعني الابتعاد عن الآخر، ليس فقط بترك مسافة أمانٍ بينه وبين ذلك الآخر، بل أن يصبح الآخر الهاجس الدائم في نفسه، وأن تصير حياة الفرد هواجس تتعاظم لتزجّه في دائرة الشك والارتياب من أي شيء، إلى أن تصل به الهلاوس حدّ العزلة القاتلة، عزلة تحرمه حتى عناق طفله الصغير، فأي جبروتٍ وأي طاغوت أكبر وأدهى؟
يمرّ الزمن، في وقتنا الحالي، سريعًا مترعًا بالأحداث التي ربما ستغير مقومات عالمنا تغييرًا دراماتيكيًا لا يمكن التكهن بنتائجه وبمدى دوامه، وهل ستغير هذه الأحداث المتسارعة في نظرتنا إلى الأشياء وتفكيرنا وإعدادنا للمستقبل؟ لا بد أن كل فرد يعيش في هذه اللحظة على كوكبنا المنهك والمنتهك غيّر سلم أولوياته، إلّا قلة ممن وصلوا إلى مستوى العدمية وعبثية الحياة، فهذا الكوكب يمور بكل أشكال الظلم والبؤس والمعاناة والتجبر والاستكبار والاستغلال والحروب المحلية والأوسع، تتصارع فيه المصالح والنزوع إلى السيطرة والحيازة واللعب
"هذا العدو الذي يتربص بثمانية مليارات كائن بشري، منفردين ومجتمعين، كشف هشاشتنا البشرية والأخلاقية"بمقادير الشعوب الضعيفة الغارقة في مشكلاتها المنهكة التي تبدو مستعصيةً على الحل، في ظل أنظمة قمعية متخلفة مرتهنة، واستباحة المنظومات الدينية والاجتماعية والاقتصادية المستبدة مجالها العام، فماذا يفعل مواطن يعيش في بلاد أنهكتها الحروب والمجاعة والفقر والتشرّد؟ مواطن فقد ثقته بأنظمته الحاكمة المتحكمة في حياته، وبات يشعر بنفسه عاريًا في الصقيع والهجير تحدق به الأخطار من كل صوب، وصارت حياته ودولته مرتهنتين لإرادات خارجية؟
أوروبا بؤرة للوباء العالمي حاليًا، هذا ما قاله الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس. هل سوف تُحدث العقود المقبلة تحولات وتغيرات في الوضع الآمن لأوروبا؟ وهل ستلين وتتعقّل تلك النظرة المترعة بالإعجاب بالنفس والتفوق الأبيض التي باتت تطفو من جديد، وباندفاع على السطح لدى شريحة تكبر من الأوروبيين، التي كانت وراء معظم العمليات الإرهابية التي قام بها متطرّفون أوروبيون تجاه المهاجرين والمسلمين، أو باقي الأقليات في بلدانهم؟ وهل ستبقى أوروبا بالنسبة إليهم محور الكون؟ وفي المقابل، هل سنبقى، نحن المصنفون عالمًا ثالثًا وربما ثالث عشر، نعيد إنتاج تخلفنا وأنظمتنا القمعية وجماعاتنا المتطرفة وإسلامًا يطمس الهوية الإنسانية الحقيقية للإسلام، ويبرز العنف، ويرسل خطاب الكراهية إلى العالم، وإلى بقية شرائح شعوبه، ويريد تطويع المجال العام للبشرية كلها إلى شريعته؟
هذا العالم ينتج أجيالاً تنمو بين الكوارث والانهيارات والأزمات، ولعل كورونا بإنتاجه هذا المرض الهجومي أكبر كارثة مولدة لكوارث أخرى وأزمات وانهيارات. عالم عاش حربين عالميتين أودتا بمئات الملايين، وأطاحتا أنظمة وأنتجتا أنظمة بديلة، وأعادتا تشكيل خريطة العالم عدة مرات، وتبعتهما حرب باردة أمسكت بتلابيب الشعوب والأنظمة والدول، وعاش جوائح وأوبئة حصدت عشرات الملايين، ثم الحروب الجديدة التي تحدثها الصراعات بين القوة الكبيرة التي تسود العالم، أميركا، وبين بقية الدول والأنظمة الصاعدة، خصوصا الصين، وما يلحقه من قتل ودمار وتخريب دول وشعوب ومجتمعات. ولم يرتدع هذا العالم الجبار على الرغم من كل ما حصل من ويلات خلال قرن، ولن يرتدع. عالم مسعور يلهث وحش المال فيه لتأمين مجاله الحيوي، في ظل انهيار البشرية مجتمعة، بسبب الجشع والتغوّل والشراهة
"أوروبا بؤرة للوباء العالمي حاليًا، هذا ما قاله الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس" إلى الامتلاك والاحتكار والحيازة والسطوة، فأن يبلغ الدّيْن العام على مستوى العالم ثلاثة أضعاف ناتجه لهو أمر كارثي، لن يجعل آلة الحرب تتوقف عن دورانها وطحنها شعوبًا بأكملها وإبادتها دولاً ومحوها من الخريطة العالمية.
هذا العدو الذي يتربص بثمانية مليارات كائن بشري، منفردين ومجتمعين، كشف هشاشتنا البشرية والأخلاقية، إذ في وقتٍ يستبيح الحياة فيه وينزع الحصانة بمنتهى اللامبالاة عن أي كان، فإن النزعة الإجرامية ما زالت تتمكّن من القوى المتحكّمة بمصير العالم، وتدير صراعاتها وحروبها بلا أدنى إحساس بالمسؤولية الإنسانية، حتى أصبحت المناطق المنكوبة بحروبٍ كارثيةٍ، كحالنا في سورية واليمن والعراق وليبيا وغيرها من مناطق مشتعلة في العالم، منسية وخارج اهتمام العالم أمام جائحة كورونا، هاجسه اليوم، لم تعد نشرات الأخبار تأتي على ذكر الآلاف من اللاجئين السوريين المرميين على الحدود بين تركيا واليونان منذ عدة أسابيع في بازار مفتوح بين تركيا وروسيا وأوروبا، ولم تعد حياتهم تعني أحدًا أمام خطر شبحٍ جبارٍ يتبختر بين البشرية يحصد الأرواح، من دون أن تمتلك أي قوة راهنة، مهما بلغ جبروتها ما يؤهلها لمجابهته.
الإنسان، هذا الكائن الجبار المتغطرس القادر على ابتكار الشر واستثماره بأبشع الطرق وأكثرها انحطاطًا، هو أضعف من فيروس لا يمكن رصده إلّا بمجاهر إلكترونية فائقة الدقة، كان يُقال سابقًا إن بعوضةً يمكن أن تقتل إنسانًا مهما تكبر، لكن اليوم فيروس يمكن أن يقتل البشرية إلّا من ينجو بحكم قوانين الاحتمال، فكيف سيستقيم العالم بعد هذه المحنة الشرسة؟ هل سيغير
"الإنسان، القادر على ابتكار الشر واستثماره بأبشع الطرق، أضعف من فيروس لا يمكن رصده إلّا بمجاهر إلكترونية فائقة الدقة"كورونا كل ما راكمته البشرية من نظريات وآراء فلسفية وقوانين عن الحقوق ومنظومات القيم؟ هل ستجبر هذه الأزمة القاتلة جبابرة العالم على إعادة النظر في العلاقات بين الدول والشعوب، وفي قوانين وأساليب ومنظومات الاقتصاد واستبداد رأس المال والاحتكارات، وتحويل العلاقة بين المجتمعات البشرية والدول إلى علاقةٍ تكامليةٍ تقوم على المساهمة من كل البشر في كل بقاع العالم في إنتاج الحياة وحمايتها، وتوجيه الحضارة الإنسانية في طريق أخلاقي، بدلاً من الحروب التي تقضي على الأمن والسلام العالميين، وتجعل من البشرية بؤرًا جاهزة للاشتعال في أي وقت، بينما تقف عاجزةً أمام فيروسٍ ربما لن يكون التحدّي الأخير، بل ستتبعه تحدياتٌ قد تكون أكبر وأفظع؟
لقد أمضت البشرية تاريخها في حالة حرب، ولم تكن فترات السلام إلا فاصلا صغيرا بين حقبة حربٍ وأخرى، حتى صرنا في عصرنا الحالي نعيش بإحساس أن الحرب احتمال قائم باستمرار، بل نتوقعها عند كل نهوض من نومنا، فزاد قلقنا قلقًا، قلقنا الدامغ لنا، بوصفنا بشرا يدركون معنى الموت، وأنه الحقيقة الوحيدة التي تنتظرنا، إنما الموت الحق الذي نتشارك فيه مع كل الكائنات، فلكل كائن حي عمره الطبيعي، أما أن يتحول الموت إلى عدو متربص خلف أبوابنا يحايثنا لحظة بلحظة، فقط لأن العالم تحوّل، بسبب جشع المال والاحتكار والسيادة على العالم، إلى ميدان مستباح لكل الأسلحة التي وصل إليها خيال الشر لدى هذا الكائن المتغطرس المسمّى إنسانًا، فهذا هو الاختبار الحقيقي للبشرية. بعد انحسار جائحة كورونا، هل سيلتفت قادة العالم القوي، أخيرًا، إلى مأساتنا في سورية واليمن وبقية بلدان المشرق المصابة بلعنة العصر، ويفرض الحلول التي تضمن عيشًا كريمًا لملايين الأفراد الذين دمرت الحرب أوطانهم وحياتهم وبدّدتهم في بقاع الأرض، يستثمرون في مزادات بازارات السياسة الرخيصة؟ بات السوري اليوم عاجزًا حتى عن مواجهة خطر كورونا، ليس فقط لأنه خبر الموت، ولم يعد لديه ما يخسر بعد الذي خسره خلال تسعة أعوام منذ انتفض من أجل كرامته، ومضى في طريق امتلاك إرادته وقراره، فهجمت عليه كل الدول الطامعة والطامحة في أن تحقق مطمعًا، بل لأنه يعرف أن بلاده لم تعد كالبلاد، وأن نظامًا يحكمه ما زال يتعامل حتى مع وباء عالمي لا أحد في مأمن منه بمنطق المؤامرة الكونية، وأن الحديث عن هشاشة الموقف في مواجهته يوهن نفسية الأمة.
رجل من السوريين المنسيين العالقين على الحدود التركية اليونانية قال أمام الكاميرا: لا أريد إلّا وطنًا أستطيع أن أعيش فيه مع ابنتي وابني وزوجتي، لأن وطننا محتل من جميع الدول. هذا ما قال بالحرف. لكن السوريين باتوا خارج نشرات الأخبار، وخارج اهتمام العالم، يقارعون الموت بكل أشكاله، واليوم يقارعون كورونا الشرس. إنها هشاشة العالم التي "لا تُحتمل".