مع اقتراب الحرب السورية من إنهاء عامها العاشر، ينهض في البال سؤال الانتفاضة الشعبية وما حققته وما هو مصيرها، خصوصا أمام الأوضاع الكارثية التي آلت إليها مصائر الشعب السوري، ومعاناته التي تفوق الوصف في اللحظة الراهنة التي زادتها وطأة الحصار والعقوبات واستشراء وباء كوفيد 19 في العالم وانعكاساته على الاقتصاد العالمي وتراجع مستوى الحياة في العالم وازدياد مستوى البطالة وتقلص الإنتاج في مجالات عديدة. هل نعود إلى السجال الذي أجّجته مرة مقالة للشاعر السوري، منذر مصري، تحت عنوان "ليتها لم تكن"؟ أظن أن من المفيد أن نخرج من تحت تأثير التشنج والتمترس خلف الشعارات والأيديولوجيا ورفض الآخر والصراخ الثوري، والإقرار بأن من حق كل سوري أن يكون له رأي أو موقف مما يحدث، فالأزمة طاولت البلاد والعباد، ولم ينجُ منها أحد، بينما من أداروا اللعب أو الأزمة أو الحراك أو الحرب، فلنسمّها بأي اسم فالأسماء كلها واقعية ولو أنها لا تقدم الحقيقة كاملة، لم يسألوا الشعب الذي تكلموا باسمه وصادروا حقّه واحتكروا تمثيله عن موقفه وعمّا يريد، من دون استثناء بين طرفٍ وآخر، أو فصيل وآخر، نظاما ومعارضة. "ليتها لم تكن" صرخة موجوع انطلقت من صدر مواطن سوري تأكله النيران على بلده وشعبه منذ ما يقارب السنوات الخمس، في منتصف طريق الهاوية، ومنتصف الخسارات التي تكبّدها الشعب، ومنتصف طريق الحلم في تحوّله إلى كابوس، ومنتصف أعمار من ولدوا مع أول يوم للانتفاضة ومنتصف الحراك السياسي الذي طالت مدته، حتى دخل الشعب في شبه سبات، وفي مستنقع يأس جماعي، ومنتصف الخبايا التي كانت مرتّبةً على ما يبدو في خزائن سرية، أو قد تبدو هكذا، لكنها صارت جليّة أمام الملأ، خبايا النوايا والمكائد المبيّتة في لعبةٍ أمميةٍ وإقليمية كنّا، لسوء طالعنا وقدرنا، مسرحها، فماذا نقول اليوم، وقد غادرْنا المنتصف بكثير من الهزائم والخسارات؟
لو استعدنا التاريخ، لوجدنا أن سورية غلبت فيها الأنظمة الديكتاتورية أو الاستبدادية، وربّما كانت هي الملمح الأصيل لتداول الحكم والسلطة فيها على مرّ التاريخ
كانت الحياة في سورية قبل 2011 آمنة. هذا ما ردّده قسم كبير من الشعب صار يزداد عدده مع تقدّم عمر الأزمة وتراكم الخسارات والفواجع. لكن هل بالفعل كانت آمنة؟ وقالوا "كنّا عايشين"، فهل فعلًا كنا عايشين؟ وقالوا كان لنا وطن، فهل فعلًا كان لنا وطن؟ لقد أخفقت الانتفاضة التي تحوّلت إلى حربٍ مع النظام في تحقيق الأهداف المعلنة للمعارضة، بمجتمع سوري جديد، تعدّدي علماني ديمقراطي ومدني. هذه حقيقة لا بدّ من الإقرار بها، لكن ما ذنب الديمقراطية مثلًا؟ لو استعدنا التاريخ وتمعّنا في سجلّاته، لوجدنا أن سورية غلبت فيها الأنظمة الديكتاتورية أو الاستبدادية، وربّما كانت هي الملمح الأصيل لتداول الحكم والسلطة فيها على مرّ التاريخ، ما خلا بعض الفترات القصيرة التي لا يمكن الاعتماد عليها برهانا على أن الديمقراطية كانت متأصلة في الوعي الجمعي والسلوك العام وتداول السلطة، كما وصف الكاتب الهولندي، نيقولاوس فان دام، في كتابه "تدمير وطن"، عندما قال: "وربما كانت الانتخابات البرلمانية السورية في العام 1954 حالة استثنائية، لكنها قدّمت قياسًا قيّمًا للرأي العام في لحظة حاسمة، قدّمت فيها مؤشّرًا إلى مواطن القوة النسبية للقوى السياسية المتنافسة على الساحة السياسية السورية، أكثر من كونها ديمقراطية فعلية في سوريا، في تلك الحقبة التي توصف أحيانًا بأنها سنوات الديمقراطية كان الجيش والمخابرات حاضرين بشكل ملفت من وراء الكواليس". هل الخطأ في غياب ثقافة الديمقراطية لدى القاعدة الشعبية؟ وأين مسؤولية النخب قبل الانتفاضة؟ هل ما قدّمته تلك النخب من تضحياتٍ جسيمةٍ ذهب أدراج الرياح، ولم يكن أكثر من سحابة صيف؟ قبل العام 2011، تعامل النظام بوحشية مع أي تهديداتٍ طاولته، سُجن معارضوه أو اغتيلوا، أو انتحروا "بأكثر من رصاصة"، أو تم التعامل معهم بوسائل قمعية أخرى، وما زال كثيرون منهم على قيد الحياة يروون قصصهم ومسيراتهم النضالية المعمّدة بالشوك والألم والقهر. ومع هذا لم يستطيعوا، على الرغم من صدقهم وحقيقية نضالاتهم، أن يزرعوا بذور الوعي، ويؤسّسوا قواعد جماهيرية واسعة وقوية وتعرف طريقها.
خطفت الجماعات الراديكالية الإسلامية المسلحة الثورة التي بدأت سلمية، وساهمت في انزلاق سورية إلى مستنقع العنف
هل كان من المحتم أن تتحوّل الثورة إلى حرب؟ سؤال آخر يفرضه منطق النقد الذاتي الذي أكثر ما نحتاجه في نهاية عقد من الدم والدمار. لقد تلقّى كل من النظام وفصائل ومجموعات المعارضة المؤثرة في الحراك والأحداث الدعم السياسي والعسكري والمالي من دول أجنبية، ما سوّغ لها التدخل في الأمور الداخلية، بل ومنح بعضها الشرعية. خطفت الجماعات الراديكالية الإسلامية المسلحة الثورة التي بدأت سلمية، وساهمت في انزلاق سورية إلى مستنقع العنف، وهذا بدأ باكرًا في عمر الحراك، ولا يفيد بشيء السجال حول من بدأ بالعنف، فالقمع والعنف من طبيعة الأنظمة الاستبدادية، لكن الثورات يفترض أن تتصف بما يميزها عن الأنظمة التي قامت ضدها. ظهور قوى عديدة داخل البلاد، ولكلّ منها أجندتها الخاصة، والأداء الذي قدّمته خلال هذه السنوات ولّد التوجّس، وتوقّع نكرانها للديمقراطية عند وصولها إلى السلطة، خصوصا الإسلاميين الأكثر تطرفًا. وباعتبار هؤلاء أكثر قوة وتنظيمًا ودعمًا، فإن مصير الثورة بات في أيديهم باكرًا، وهذا أثر في دعم القوى الغربية للحراك، التي أيضًا كان لها وسائل لعبها حتى في الحرب، وذلك بمدّ الأطراف المتحاربة بالسلاح في التفاف على القانون الدولي والرأي العام لدى شعوبها، فالقانون الدولي يحظر على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة دعم العمل العسكري لإطاحة حكومات دول أخرى. لم يكن الشعب السوري قبل مارس/ آذار 2011 يعيش كما يليق بشعبٍ في عصر التكنولوجيا والثورة الرقمية وحقوق الإنسان أن يعيش. هذه حقيقة جليّة، لكن ما جرى كان مواربتها، عن طريق نكرانها الصريح أسبابا عدّة كشف عنها الواقع باكرًا، فمثلما هناك دولة عميقة تتحكّم في مفاصل الحياة مختبئة خلف شعارات مضلّلة، عن العلمانية والديمقراطية وحكم الشعب وغيرها، كان هناك مجتمع عميق تتحكّم به الطائفية والعشائرية والنزاعات المذهبية والقومية المبطّنة بالاستقرار الكاذب. وهذا ساهم باكرًا في تفتيت الاجتماع السوري حول شكل الحياة المأمول، والسعي في طريق الوصول إليه، فعندما بدأت إرهاصات الانتفاضات في المنطقة العربية، أو ما سمّي الربيع العربي، كان يمكن للمتابع أن يلمس حالة الحماس والغبطة لدى غالبية الشعب السوري، وظنّوا أن تغيير واقعهم ممكن، قياسًا بالمشهد الأول لانتفاضات تونس ومصر، ولقد أبهجتهم النجاحات التي تحقّقت حينها على يد المتظاهرين، لكن الثمن الباهظ كان مرعبًا لقسم كبير منهم، زاد في الرعب منه الانزياح الباكر في الأداء والشعارات، بعد أن بدأ العنف باكرًا من النظام، وبدأ التسليح باكرًا في عمر الانتفاضة، وانطلقت الشعارات الداعية إلى الفتنة التي لم تكن بحاجة إلى من يوقظها، لأنها، في الواقع، لم تكن نائمة، وإنما صامتة فقط، وتستبطن ذاكرة حارقة منذ أواخر سبعينيات القرن المنصرم، ولم يوفّر الطرفان استخدام الاستفزاز الطائفي.
سورية دولة شبه منهارة، ووطن مقسّم ترفرف في سمائه رايات الجحيم، والشعب منتهك الحقوق ومنهك في الداخل، ومذلول ومهان في مخيمات اللجوء
إذا كانت إمكانية الحل السلمي، أو بدقة أكثر، بأقل قدر من العنف، متوفرة في بداية الانتفاضة، عندما عقد مؤتمر الحوار الوطني في يونيو/ حزيران 2011 في دمشق، ورفعت شعارات اللاءات الثلاث فيه، لا للطائفية لا للعسكرة لا للتدخل الخارجي، وحضرته شخصيات بارزة من المعارضة، غالبيتهم حاليًّا خارج سورية، فإن الحلّ اليوم يبدو عصيًّا حتى هذه اللحظة، وإن ما يحدث من فعاليات سياسية ليس أكثر من مفاوضاتٍ بين أطراف النزاع، إن كان مؤتمر سوتشي وما تمخض عنه، او أستانة وأطرافه الراعية، أو اللجنة الدستورية التي تبدو كمن يلعب في وادٍ آخر لا علاقة لقضايا الشعب ومصيره به. بعد عشر سنوات، سورية دولة شبه منهارة، ووطن مقسّم ترفرف في سمائه رايات الجحيم، والشعب منتهك الحقوق ومنهك في الداخل، ومذلول ومهان في مخيمات اللجوء. فقر وجوع وحرمان وأجيال تكبر وتنمو خارج الزمن، وما زلنا لم نقرّ بأن نقد المرحلة بات ضروريًّا أكثر من أي وقت مضى، وأن على النخب، خصوصا التي كان لها صوت مدوٍّ خلال الحرب، أن تبحث عن المشتركات وتشتغل عليها، وأن مفهوم العدالة الانتقالية يلزمه البحث عمّا يخدم الراهن والمستقبل المأمول، وأن حياة الشعب لم تعد تحتمل المتاجرة بها، والرهان على صبرها واحتمالها. وقبل كل شيء، التخلّي عن التمسّك بالفكرة الداعية إلى شتم الطرف الآخر، فاتحة للدخول في أي نقاش. بعد عشر سنوات، لم تعد المشكلة كما بدأت. كبرت وتعقدت واكتسبت ملامح أخرى، وحتى السياسة العالمية وفي المنطقة تغيّرت، ولها أولويات أخرى، وإن صرخ بعضهم "ليتها لم تكن"، فمن قسوة الألم على أرواح السوريين المنهكة، وحياتهم التي لم تعد كحياة جنس الإنسان، السوريون شبه أموات، وهذا أقسى ما في الحياة.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...