"العرش والهيكل".. قصيدة أطاحت بالشاعر جبرائيل الدلال
فيصل خرتش
2020-06-06
ألّف جبرائيل الدلال في حداثته قصيدة أسماها "العرش والهيكل"، طعن فيها أشد الطعن في الملوك المستبدين، طبعها في مرسيليا عام 1864، وفيها نقد لاذع على السياسة ورجالاتها، وقد وصفت بأنها "أمنع من العقاب وأنذر من الكبريت الأحمر"، وكان قد طبعها طبعة حجرية، شعرًا عموديًا مقفى على البحر الكامل، ومنها:
ذبح العباد على الوهاد... بظلمه
وسقى المهاد دماءها عن... صوبها
فالجيش من أولادنا لقتالها
والبذخ من أموالنا لمعيبها
وبعد ثلاثين سنة وشى به والي حلب، عارف باشا، وناظم بك المكتوبجي، عند السلطان، فأصدر أمرًا بحبسه، فسجن وعذب، وقضى في السجن مدّة عامين، ومات بداء القلب، وذلك في صبيحة الرابع والعشرين من شهر كانون الأوّل عام 1892، مات أو قتل في ظلمات السجون. ويقول الأديب سامي كيالي: "إنّه سمّم*، قبل يوم واحد من انقضاء محكوميته، ولمّا ذاع في المدينة نعيه، تقاطر أهله والأصحاب ونقلوه على عربة إلى منزله الكائن في العزيزية. لقد هوى نجم الفصاحة، وغار بدر المعارف الساطع".
إنّه شاعر ثائر، وثائر وصحافي رائد، وسياسي محنّك، وأستاذ جامعي ومترجم، أتقن عدة لغات (الفرنسية والطليانية والتركية)، يكتب بهن جميعًا، ولاسيما الفرنسية، فقد كان واحدًا من أدبائها، أمّا العربية وعلومها فكان نابغة من نوابغها، وكانت له مشاركة في أكثر العلوم والفنون العصرية، فقد درس قليلًا من التصوير، فأصاب شيئًا منه، وكان شديد الولع بالغناء، وعارفًا
"بعد ثلاثين سنة من كتابة "العرش والهيكل"، وشى به والي حلب، عارف باشا، وناظم بك المكتوبجي، عند السلطان العثماني، فأصدر أمرًا بحبسه، فسجن وعذب، وقضى في السجن مدّة عامين، ومات بداء القلب"
بفن الموسيقا، متمكنًا من علمي الجغرافيا والتاريخ، وله رسالة في التاريخ العام، وكان يحرز حصة حسنة من العلوم الرياضية والفلسفة والطب، فكان أشبه بخزانة علوم وفنون، قال عنه قسطاكي الحمصي:
"علم من أعلام الفضل، وبدر من بدور الشهباء، وهو آية في النباهة والذكاء، تفجرت ينابيع الفصاحة على لسانه، وانقادت أبكار المعاني طائعة لبنانه، فاللؤلؤ منظومه، والعرش مرقومه، ذو فكرة تسترق حرّ الكلام، وقريحة تؤلّف بدائع النظام، وبيان يصوّر أدقّ الأوهام للأفهام فتجلي كالحقائق، ويصوغ ألطف التخيلات والإشارات بكلّ لفظ رائق، سقاه الدهر كأس صفوه وكدره، وألبسه الدهر ثوبي بؤسه وأشره، وما زال بين نحوس وسعود، وصعود، إلى أن دعاه داعي المنون، فقضى فجأة في أضيق السجون".
ولِدَ جبرائيل الدلال في حلب في الثاني من نيسان سنة 1836، وتوفي فيها في الرابع والعشرين من شهر كانون الأوّل سنة 1892، وهو سليل بيت كريم من أعرق بيوتات حلب، نشأ في بيت أبيه عبدالله الدلال، الذي كان مجلسه منتدى الفضلاء، ومثابة النبلاء، وكان يقصد بيته في ذلك الزمان الأدباء والشعراء: فتح الله مرّاش، وأخوه عبد الله، والست مريانا مرّاش، ونصرالله الحلبي، وكان أبوه محبًا للعلم، ويكرم الأدب وذويه، فهو واحد من وجوه حلب ورجالاتها المشهورين.
أرسلته أخته إلى عينطورة في لبنان، بعد أن توفي والده، وهو في سن الحادية عشرة، وقد كفلته أخته مادلين واعتنت بتربيته، وبقي هناك عامًا، عاد من بعدها إلى حلب وأكمل تعليمه في مدارس المرسلين، وأولع بالسفر فقد أقام في باريس وعمل في جريدة "الصدى"، التي تنطق بالعربية، وهي لسان حال السياسة الفرنسية، وتجول في أوروبا، وبلغ إسبانيا والبرتغال وبلجيكا، والجزائر وتونس ومراكش، ثم اتصل بخير الدين باشا التونسي وقد ولي الصدارة العظمى في الأستانة، فانتقل إليها وأصدر جريدة "السلام" بمرسوم منها، وأخذ معه زوجته سوسن، لكن الجريدة اقفلت بعد عزل التونسي، ثم عمل ترجمانًا في وزارة المعارف في
"كتب عنه قسطاكي الحمصي: فاللؤلؤ منظومه، والعرش مرقومه، ذو فكرة تسترق حرّ الكلام، وقريحة تؤلّف بدائع النظام، وبيان يصوّر أدقّ الأوهام للأفهام فتجلي كالحقائق"
باريس، وتعرّف على أهل الوجاهة والقادمين إلى باريس.
عاد إلى حلب، وكان من الأدباء والمفكرين الذين ساهموا في التأسيس لعصر النهضة وترسيخه في مدينته، من خلال أعمالهم الأدبية ونشاطاتهم الفكرية الداعية إلى إصلاح المجتمع وبناء نهضته وتحقيق تقدمه العلمي وحريته ومدنيته، بعد جولاته في الغرب، واطلاعه على الثقافة الحديثة، وتأثره بأفكار الثورة الفرنسية وفلاسفتها، لقد استطاع أن يثقف نفسه بعلوم عصره، فضلًا عن حفظه لدواوين الشعر التراثي، كديوان المتنبي، وصفي الدين الحلي، والمعلقات، ومقامات الحريري، لقد كان يحفظ شعرًا كثيرًا، بالإضافة إلى حفظ قسم من القرآن الكريم، لذلك نجد في قصائده مشاعر الشوق والحنين والأنفة والفخار والرقة والعذوبة والمودّة والأسى، والظلم والعتاب، فهو أبو فراس الحمداني في شكواه، وهو المعري في فلسفته، إنّه أبو تمام في حماسته، وجريرًا في تغزله، طورًا نجده ابن زيدون في افتتانه، وتارة نجده أبا نواس في ساعة حبوره.
إنّ شعره سلس متدفق متماسك القوافي، واضح الإيقاع، سهل الألفاظ وترتيب المعاني، متمرّد الأهداف، تظهر فيه طبائع الحضارة الغربية، وقد جمع له ابن أخته قسطاكي الحمصي شعره وسماه "السحر الحلال في شعر الدلال"، جمعه ونشره عام 1903، وفيه تألّق في وصف جمال الطبيعة والخليقة، وبخاصة المرأة، ومعاناة مضنية مع كلّ ما من شأنه أن يئد الفكر الحرّ، وقد قالوا عنه:
"كان طيب الحديث، فصيح اللسان، شاعرًا مفتنًا، حاد الذهن، سريع التصوير، حلو المعشر، لطيف الشمائل، خفيف الروح، صحيح الانتقاد، يميل إلى المزاح، جهير الصوت، طويل القامة، كبير الجسم، ممتلئه، قوي البنية، أبيض اللون، صبيح الوجه، كبير الرأس، أشقر الشعر، أزرق العينين، أحسر البصر، لا تفارق النظارة عينيه، كان جميل الطلعة، وكان الغالب على طباعه سلامة الصدر وكثرة الوفاء، وحرية الفكر".
ومن شعره:
لا تعذل المشتاق في أحواله فتزيده شوقًا بحبّ غزالــــــه
صبٌ كئيبٌ مغرم لا تنتفـــي أوقات طيب الوصل من آماله
يحيا بتذكار الحبيب ووصله ويموت بين دلاله وملالـــــــه
عندما كان في مرسيليا توفيت زوجته سوسن، كريمة فتح الله عجوري الحلبي، بمرض عضال، وقد رثاها بقصيدة يقطر الحزن مطلعها:
قد شرد الغم جناني بالأسى وقيد الهم لساني ويدي
وخلال إقامته في باريس، دعي إلى حفلة راقصة أقامها نابوليون الثالث في قصر فرساي، وقد افتتحها الإمبراطور.
شاعر نهل العلوم والثقافة، وعقد مجالس الشعر والفكر، سافر إلى أوروبا، وتشبع بأفكار حركاتها الثورية، وبخاصة أفكار فولتير، وبنى الفكر النضالي الحر، وكان دافعه حبّ الوطن