توفي الكاتب السوري الكبير، حسيب كيالي، في دبي، في 6 يوليو/ تموز 1993، عن عمر ناهز 72 سنة، ودُفن فيها بناء على وصيته، فحينما خرج من دمشق سنة 1981، اتخذ قراراً حاسماً بألا يعود إلى سورية، طالما نظام الأسد موجود. كان الكتاب الرواد المؤسّسون، ومنهم حسيب كيالي، يحملون لقب "الكبير" بجدارة. لم يكن الواحد منهم ليختصّ بشعر أو قصة أو مسرحية أو رواية، بل يبدع في هذه الأجناس الأدبية كلها، ويمشي في الشارع كما لو أنه "ورشة" إبداعية متنقلة.
أبو زهدي، حسيب، عُرف قاصاً منذ أربعينات القرن العشرين، وتحديداً في 1944، حينما أبدع قصته الأولى "بماذا فكّرت نظيرة؟"، ونشرها في مجلة عصا الجنة التي كان يديرها الصحافي نشأت التغلبي. وما فتئ يبدع وينشر في الصحف حتى مطلع الخمسينات، حين أصدر مجموعتين قصصيتين باهرتين، "مع الناس" و"أخبار من البلد". ولدى تأسيسها سنة 1951، أصدرت رابطة الكتاب السوريين مجموعة قصصية مشتركة، كانت له فيها قصتان. وما هي إلا سنوات قليلة، حتى عشق المسرح، وبدأ ينتج أعمالاً مسرحية. وفي مطلع السبعينات بدأ يكتب الرواية، فكانت روايته "أجراس البنفسج الصغيرة"، ثم "مكاتيب الغرام". وخلال هذا كله لم ينقطع عن كتابة الشعر.
لحسيب كيالي في الشعر اتجاهان: شعر التفعيلة، ويتضمن قصائده الوجدانية العامرة بالصور والأحاسيس الإنسانية العالية، والشعر العمودي الذي يخصصه للسخرية والهجاء.. وللهجاء عنده نوعان، أحدهما للمزاح والدعابة، تجلّى بالتهاجي مع ابن عمه عبد الجبار، وكانت هجائياتُهما المتبادلة تنتشر ضمن العائلة والأصدقاء المقرّبين، يسجلونها في دفاترهم، ويقرأونها في مجالسهم لأجل الضحك والتندّر. وفيما بعد أصدر كتاباً تجتمع فيه القصة القصيرة مع الرواية مع المقالة، أطلق عليه اسم "حكايات ابن العم" (1991). والنوع الثاني هجاء ظواهر سياسية، منها قصيدة نقلها عنه الأديب الكبير عبد السلام العجيلي، قالها في نائب اعتاد النوم في أثناء جلسات البرلمان:
أيهذا النائـــبُ الشـــهم الذي يدعى فلانا/ لا أسميـــك فقد أُطرح في السجن زمانا
هات خبرني لمـاذا حين تغشى البرلمانا/ يسقط الرأسُ على الصـدر وتغفو يا أخانا؟
قال هذا مبــدأ يبعث في النفــس الأمانا/ نحن حــــزبٌ يملأ الجوَّ شخيراً والمكانا
نحن لا نخطب في المجلس لكنْ مِنْخَرَانا/ قلت: هل أنتم كثير يا عظيماً جلّ شــانــا؟
قال: اخرس، إننا نحن خلقنا البرلمـــــانا!
لا تظنن، عزيزي القارئ، أن حسيباً كان يقتصر، في إبداعه، على الأجناس الأدبية التي ورد ذكرها، ففي الخمسينات كان له حديث في إذاعة دمشق، يكتبه ويقدّمه بصوته. وقد روى لي في إحدى رسائله إن عدد أجهزة الراديو في مدينة إدلب تلك الأيام قليل، فكان الناس يقصدون مَن لديه جهاز راديو، ويقولون له: أتسمح لنا أن نصغي إلى حسيب ابن الشيخ زهدي عندك؟ وكان يكتب المقامة الأدبية، هذا الجنس الأدبي المهجور. وكانت إذاعة دمشق تبث مقاماته بصوت الفنان الفلسطيني الراحل تيسير السعدي. وفي دبي كان يكتب حديثاً إذاعياً مسائياً. ومن مفاجآته أنه ابتكر نوعاً من الكتابة يجمع بين الأقصوصة والمقالة، أسماه "أقصولة"، ومن أقاصيله الشهيرة المجموعة التي صدرت سنة 1992 نعيمة زعفران.
يخطئ كثيراً من يرى أن مأثرة حسيب كيالي الوحيدة هي تفرّده بين زملائه الكتاب بالسخرية، فهذه ليست سوى بعض مآثره. حسيب، إذا جئت للحق، صاحب جملةٍ قصصيةٍ بسيطة، رشيقة، واضحة، عميقة، مدروسة بعناية، محمّلة بالتهكم. ولعل أكبر مأثرة حققها في حياته تمكّنه من ابتكار لغة خاصة، فإذا عثرت يوماً على قصاصةٍ من جريدةٍ قديمةٍ ممزّقة، فيها مقالة لا تحمل توقيع كاتبها، ستجزم، من خلال لغتها، أن كاتبها حسيب، رحمه الله.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...